«أتدخل باسم الفريق الاشتراكي لمناقشة مشروع ميزانية سنة 2012 التي نحن في أواسطها. وإنني لأعبر عن بالغ أسفي باسم المعارضة الاتحادية من الظروف غير العادية ولا الواضحة ولا المغلبة للمصلحة الوطنية التي رافقت عرض مشروع الميزانية على البرلمان بهذا الشكل المتأخر والمرتجل. فبعدما كانت التبريرات الأولى تدعي عزم الحكومة على التقدم بتغييرات واجتهادات على مشروع الميزانية الذي وضعته الحكومة السابقة، إذا بها تعرض مشروعا لا يختلف عنه إلا ببعض الرتوشات وبعض الإضافات التي سبق للحكومة السابقة إعدادها ودون أدنى اجتهاد على مستوى مضامين وبنية الميزانية. فما سبب كل هذا التمطيط المضر بالاقتصاد الوطني ومؤسساته وفاعليه؟ وكيف لم تبادر الحكومة إلى تدارك الأمر حين اتضح لها محدودية طرحها وسعيها لاختيار الاستمرارية؟ لقد اختار المغاربة التغيير, سواء حينما صوتوا بشكل واسع على دستور 2011 أو حينما اختاروا تيارا جديدا بنسبة مهمة لتسيير دواليب الشأن العام. ولقد احترمنا اختيار المغاربة وإرادتهم في التغيير، وتوجهنا نحو معارضة إيجابية وبناءة ومواطنة دون تردد أو تشويش. وإننا اليوم ملزمون بالدفاع عن اختيارات المغاربة الدستورية التي أعادت توزيع السلط وأعطت اختصاصات أقوى للحكومة ولرئيسها في تدبير الشأن العام، مما يفرض إحداث تحول نوعي على مستوى التدبير والتسيير والحكامة في الشأن السياسي وفي الشأن العام. غير أننا لم نلمس نفس الحرص والحماس لدى الحكومة الجديدة في تفعيل الاختصاصات المهمة والكبيرة التي متعها بها الدستور. وهي الليونة التي إن كان بعض مجتهدي الحزب الحاكم يعتبرها تدرجا في الإصلاح، فإننا نرى فيها انزياحا عن المبادئ الدستورية التي توافق حولها المغاربة والتي على أساسها تسلم الحزب الجديد رئاسة الحكومة في تعاقد دستوري لا مجال لتأويله أو التهرب منه. وبالتالي, فإن من بين أهم متطلبات المرحلة السياسية الجديدة في بلادنا الاضطلاع بالمسؤوليات التي يتطلبها تدبير الشأن العام وتحمل التبعات والنتائج المترتبة عن ذلك. وهو ما نرى فيه وجها من أوجه ربط المسؤولية بالمحاسبة. إننا في الفريق الاشتراكي, إذ نشدد على المبادئ التعاقدية الأساسية الدستورية والسياسية في علاقتنا كمعارضة اتحادية بالحكومة الجديدة، فلأننا نطمح إلى نجاح هذه التجربة التي رأينا فيها تناوبا ثانيا اختاره المغاربة وعلقوا عليه آمالا كبيرة سيكون من الخسارة الفادحة أن تنهار وتصيب جيلا آخر بالإحباط واليأس من جدوى الممارسة السياسية وجدية تسخيرها للصالح العام. وبالتالي, فإن ما رصدناه من جوانب الضعف والهشاشة في تشكيل الأغلبية ومن تغييب للنوع في تركيبة الحكومة ومن تراجع عن الوعود الانتخابية في التصريح الحكومي... إنما يهدف إلى التنبيه بأن نصف نجاح التجربة هو في حسن انطلاقها وفي حكامة تدبيرها للزمن وفي رجاحة ترتيبها للأولويات... وهو ما نحن مصرون على الاستمرار فيه اليوم بعد مرور أزيد من 100 يوم من عمر الحكومة التي نتمنى أن تكون كافية لاستخلاص العبر من تعثرات البداية وإزالة دهشة الداخل. وعليه, فإننا نناشدكم، السيد رئيس الحكومة، أن تجنبونا الخرجات الإعلامية المستهلكة لوزرائكم والتي أضاعت وقتا ثمينا في التصادم المجاني وفي الادعاءات الفارغة بدل الانكباب على إعداد مخططات وتصورات تكون محط نقاش عمومي مثمر قد نساهم من خلاله في ما يفيد بلادنا في هذا الظرف الدقيق. كما ندعوكم إلى الكف عن خطاب الهروب إلى الأمام وإلصاق التهم بجهات مجهولة تتهمونها بمحاربتكم وتشبهونها بالتماسيح، والحال أن تدبير الشأن العام هو فن تدبير تضارب المصالح وما نظنكم تجهلون أن القرار السياسي يتطلب شجاعة الدفاع عنه في مواجهة من لا يستفيدون منه. فيكفينا مضيعة للوقت والجهد في خطاب عاطفي لن يستمر مفعوله طويلا، ولتتحملوا مسؤولية الأمانة التي قلدكم إياها الشعب المغربي الذي منحكم الأغلبية بمجلس النواب. نعم نحن ندرك أهمية محاربة الفساد في إنجاح الإصلاح وفي تحقيق التنمية، ولقد أكدنا لكم منذ البداية أننا سنكون أشد المساندين لكم ضد الفساد كيفما كان وأينما وجد، لكننا لم نلمس لحد الساعة جديتكم ولا حزمكم في تفعيل هذا الشعار المهم. فمحاربة الفساد كما لا يخفى عليكم تتطلب استراتيجية متكاملة تمتد على مراحل زمنية وتطلب خططا عملية تفعل على عدة مستويات أفقية وعمودية. لكننا لحدود الآن لم نر إلا خرجات إعلامية استهلاكية من قبيل نشر بعض المستفيدين الصغار من بعض المأذونيات أو بعض الجمعيات المستفيدة من تمويلات لبرامجها أو بعض المستفيدين من الدعم العمومي... وهي الإجراءات التي لا نعارضها، لكننا نطالب بتفسير مقاصدها وتوضيح أهدافها والأهم من كل ذلك إعلان نتائجها وآثارها في محاربة الفساد وعدم الإفلات من العقاب. إننا معنيون وملتزمون بمحاربة الفساد وبفضحه، كمعارضة اتحادية مناضلة، ولا نعتبر ذلك مهمة الحكومة لوحدها، لكننا سنحملها كامل المسؤولية في أي تهاون أو تخاذل لم يعد مسموحا به في ظل المبادئ الدستورية الأساسية التي تعاقدنا حولها. كما لن نسمح بالخلط أوالتهرب من واجب تحمل المسؤولية إلى التهديد بالنزول إلى الشارع أو التحجج بالاستقالة أو الازدواجية في استعمال نفس خطاب المعارضة من موقع التسيير. فليكن الوضوح منهجا جديدا للمرحلة المقبلة لما فيه صالح البلاد، وليكن خطاب الحقيقة ما نواجه به المغاربة لمواجهة الصعوبات والتحديات. فقد لاحظنا كيف أن وزراء من أغلبيتكم خرجوا لمعارضتكم ولم تمض أسابيع على تشكيل حكومتكم، أبهذه المنهجية سندخل المرحلة الجديدة التي علقنا عليها آمالا بزرع الثقة لدى الشعب المغربي؟ كيف تريدون للمغاربة أن يثقوا في التغيير وفي مصداقية العمل الحكومي بعد الدستور الجديد وأنتم أول حكومة في هذه التجربة يتهم بعضها بعضا وينزع الثقة منه بل ويتهمه بالعرقلة والارتباط أو بالتسرع والحزبية الضيقة. ولنأخذ مسألة دفاتر التحملات الخاصة بالإعلام العمومي كمثال بسيط على التخبط الحكومي ومخاطره المنذرة بتراجعات لم يعد الوضع المغربي يسمح بها. فنحن لا ننكر على الحكومة حقها في تفعيل المساطر والإجراءات المؤطرة لمجال الإعلام العمومي، ولا في تدعيم الكفاءات والخبرات الكفيلة بتدبير الشأن الإعلامي وفق مبادئ ربط الحرية بالمسؤولية وتعزيز التنوع والتعدد. لكننا ضد تغيير واقع إعلامي ساده التسلط والتحكم بواقع جديد قائم على رؤية أحادية أو حزبية أو استفرادية بميدان لا نرى فيه مجرد قطاع أو مجال للتواصل، بل هو حقل مجتمعي من المفروض أن يعكس تنوع وغنى واختلاف المجتمع المغربي وحتى تناقضاته. واليوم بعدما اتضح للحكومة خطأها المنهجي تحاول معالجته بما نرى أنه تماد في الخطأ بتشكيل لجنة وزارية لتعديل مضامين دفاتر التحملات. إن على الحكومة أن تدرك أن تأهيل الإعلام العمومي لا يقتصر على إعداد كناش ظرفي للتحملات، ولا في توافق أطراف حكومية حول تدبير هذا المجال، بل في الوعي بأن الإعلام ملك للمجتمع ولا بد من مقاربة تشاركية منفتحة لتدبيره تمكن المهنيين والفنيين والمثقفين من تحمل مسؤولياته. إن مجال الإعلام لا يقل أهمية وحاجة للإصلاح من القضاء الذي عززه الدستور الجديد باعتباره سلطة مستقلة. ونحن نشيد في هذا الإطار بالحوار الوطني الذي أعطى انطلاقته صاحب الجلالة عبر تنصيبه للهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح القضاء، وننخرط في تأكيده على المقاربة التشاركية ونجاعتها في الإصلاحات الكبرى. وسنواصل مساهماتنا في هذا الإطار في بناء السلطة القضائية النزيهة والمستقلة باعتبارنا حركة ناضلت وقدمت تضحيات جسام في سبيل قضاء عادل ومستقل. إن دراسة مشروع القانون المالي هي مناسبة لتذكير الحكومة أيضا بالإصلاحات الأساسية التي بدونها ستكون دراسة الميزانية من طرف البرلمان شكلية, وهو ما لا يتناسب إطلاقا مع المعطيات الدستورية الجديدة وما أضافته للسلطة التشريعية من مهام واختصاصات وما عززت به أدوار المعارضة. وفي هذا الإطار, نشير إلى أننا كنا سنعذر الحكومة ونتساهل معها في تأخيرها لمشروع الميزانية لو أنها استثمرت الزمن الضائع في إعداد مشروع القانون التنظيمي للمالية والذي سبق للحكومات السابقة أن اجتهدت لإصلاحه ولم يكن ينقصه إلا إدخال بعض المستجدات التي تضمنها التعديل الدستوري الأخير. إن الحكومة كانت ستكون مشكورة وسننوه باجتهادها في إصلاح القانون التنظيمي للمالية لما كان سيضيفه من شفافية في تقديم الميزانية، ولما كان سيوفره للمؤسسة البرلمانية من أدوات جديدة في دراسة الميزانية وإغنائها بدل ما نحن فيه اليوم من اجترار لنفس الممارسات البائدة في مواجهة تعديلاتنا البرلمانية وسيادة نفس الدونية للبرلمان في دراسة أهم قانون يرهن السنة المالية. أما على مستوى الفرضيات التي تحكمت في مشروع الميزانية، فقد لاحظنا أنها ظلت نفسها رغم الظرفية الصعبة التي يمر منها الاقتصاد الوطني، ورغم تداعيات الأزمة العالمية التي لازالت تعصف بشركائنا وتنذر آثارها بعواقب متزايدة على قطاعاتنا الأكثر مساهمة في الاقتصاد الوطني ورغم الظرفية المناخية الصعبة وتراكم العجز واستفحال الاحتقان الاجتماعي. لقد عمد الحزب الذي يقود الحكومة إلى مراجعة نسبة النمو التي وعد بها الناخبين، مبررا ذلك بالانسجام مع مكونات التحالف الحكومي، ونحن بغض النظر عن التبرير نستحسن تراجعه إلى أرض الواقع، فحتى التصريح الحكومي ظل معاندا وخجولا بإعلانه 5 في المائة كنسبة نمو، بينما مشروع الميزانية يتراجع إلى 4 في المائة، وهو ما لن يكون ممكنا بالنظر للظروف التي شرحناها والتي تساندنا فيها تقارير المندوبية السامية للتخطيط. وإن كل التقارير الدولية والمالية الحديثة والموثوق بمصداقيتها تؤكد تراجع مؤشرات التنمية والنمو ومعدلات التوازن في اقتصادنا الوطني. وهو الأمر الذي يقتضي من التدبير العقلاني والعلمي أن يأخذه بعين الاعتبار خاصة وأن مشروع الميزانية اليوم لم يعد يهم السنة المالية بمفهومها العادي بل إنه أصبح خارج الواقع والسياق بل ومرافق الحياة العامة التي تدبر بإجراءات سنة بيضاء. لقد حاولت الحكومة إعطاء الانطباع أنها أدخلت لمستها على مشروع الميزانية، بإرجاع صندوق التضامن الذي أصبح يسمى بالتماسك الاجتماعي، وببعض الرتوشات الخفيفة مثل منحة الطلبة. لكن الحقيقة أن الميزانية تتراجع عن التوجه الاجتماعي الذي بذل فيه مجهود كبير منذ حكومة التناوب الأولى إلى أن فاق 50 في المائة, بينما لا يصل اليوم إلى عتبة 40 في المائة. وكان حريا بالحكومة أن تجتهد في تسريع وتيرة الإصلاحات التي كانت شبه جاهزة ولم تكن تنتظر إلا الحسم مثل صندوق المقاصة الذي يستمر اليوم في التهام عشرات الملايير من الدراهم وبنفس الاختلالات والتجاوزات، وصناديق التقاعد التي هي على حافة الإفلاس وسيناريوهات إصلاحها معروفة، وقد كان لحكومة التناوب شجاعة ضخ مساهمة الدولة المتراكمة منذ عقود... كما كان من اللازم بذل المزيد من الجهد للرفع من مناصب الشغل التي احتفظ المشروع بنفس ما كانت قررته الحكومة السابقة. وفي هذا السياق أدعو رئيس الحكومة إلى احترام الالتزامات السابقة وتطبيق الاتفاق الموقع مع الأطر العليا، بدل اللجوء إلى العنف المفرط ضدهم، وإلا فإن التزامات الدولة ستصبح دون مصداقية. إن الظرفية التي يعيشها الاقتصاد الوطني تتطلب تصورا جديدا في وضع الميزانية يقفز على المقاربة التقليدية وعلى المنطق المحاسباتي. وهو ما لن يتأتى دون إجراءات تمهيدية نراها مغيبة اليوم، حتى إن المشروع الذي نناقشه لا يمكن اعتباره مدخلا لهذا التوجه. وعليه, فإننا ندعو الحكومة من اليوم إلى الانكباب على دراسة الاجتهادات الكفيلة بتجاوز الأزمة المركبة التي بدأت تلوح معالمها في الأفق. فعجز الميزانية يتجه إلى ما فوق 6 في المائة وعجز الميزان التجاري سيصل إلى رقم قياسي والاحتياطي لن يغطي أربعة أشهر في الوقت الذي كنا قد وصلنا فيه إلى 18 شهرا. وبعدما كنا قد بذلنا جهودا كبيرة في مرحلة التناوب ليتجاوز المغرب ثقل المديونية فإننا نراها تتنامى اليوم حيث إنها ستتجاوز 60 في المائة من الناتج الداخلي الخام، بل وإن هناك اتجاها لاعتبارها حلا للأزمة ولسد عجز الميزانية في حين أننا نقتات على المستقبل ونرهن مصير الأجيال المقبلة. فالاجتهاد المطلوب اليوم هو في مدى القدرة على إعادة التوازنات الأساسية للاقتصاد الوطني مع الاستمرار في الإصلاحات الأساسية والزيادة في وتيرة سد الخصاص والحاجات الاجتماعية خاصة في ميادين الصحة والشغل والتعليم والسكن... فنظام المساعدة الطبية لازال في بداياته رغم مرور عشر سنوات من إقرار مدونة التغطية الصحية الإجبارية التي كان لحكومة التناوب شجاعة إخراجها إلى حيز الوجود. وهو نظام يهم أزيد من ربع سكان المغرب الذين يعانون من الهشاشة والفقر. ورغم إعطاء الانطلاقة له فلن يصل إلى التعميم والقدرة على استيعاب الحاجيات إلا بعد سنوات، إن توفرت الموارد الضرورية للتأطير والاستقبال... إننا على وعي تام بأهمية ورش RMED في سد العجز الكبير لاستيعاب ملايين المغاربة المحتاجين للرعاية الصحية والعلاج. ونحن متأكدون أن غيابه كانت له آثار فظيعة في الماضي على صحة المغاربة البسطاء، لكن انطلاقته اليوم ينبغي أن تكون في مستوى التطلعات وفي حجم الانتظارات، وهو ما يتطلب توفير الشروط الأساسية لحسن الانطلاقة وضمان الاستدامة. ونفس الخصاص يهم كافة المناحي الاجتماعية من حاجة متضاعفة لتشغيل الشباب من الأطر العليا ومن اليد العاملة النشيطة المتزايدة من مختلف الفئات. ثم الحاجة المتزايدة للسكن الذي يستفيد من إعفاءات الدولة وتحفيزها, في حين لا تستفيد الفئات المستهدفة من المنتوج الموجه لها. ونفس الخصاص والهدر يطال قطاع التعليم الذي أبانت المخططات والاستراتيجيات عن أن الخلل عميق ومتراكم ويحتاج إلى قدرة جبارة على مواجهة الاختلالات في العمق. كما أن الوسط القروي كان يحتاج إلى مجهود تضامني أكبر خاصة بالنظر للظروف المناخية الصعبة التي سيعاني منها خلال الموسم الفلاحي الحالي. وهنا نذكركم ببرنامج محاربة آثار الجفاف خلال بداية الألفية الذي كان مجهودا لم يتكرر لدعم الفلاحين والوسط القروي. لن يسعفنا الوقت المخصص لنا في تبيان مدى القصور الذي ينطوي عليه مشروع الميزانية في ما يخص مواجهة الواقع الاقتصادي العنيد والخصاص الاجتماعي الكبير ومخاطر الأزمة الاقتصادية التي تهدد الكيان الاقتصادي الوطني. لكننا نؤكد كمعارضة اتحادية أننا نعتبر الوطن فوق أية تجربة حكومية عابرة، ونعتبر خدمتنا لبلادنا فوق الاعتبارات الحزبية الضيقة، ولذلك سنكون حريصين على تقديم الاقتراحات والاجتهادات الكفيلة بعدم إرجاع بلادنا إلى الوراء سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو الديموقراطي والتحديثي... فسنناضل من قلب المعارضة البناءة والمناضلة من أجل استمرار المشروع الديموقراطي الحداثي الذي ضحينا من أجله، ولن نقبل بالمس بمكتسبات بلادنا الديموقراطية والتحديثية التي أعطت صورة مشرقة عنا في المحافل الدولية وتساعدنا اليوم على اجتياز أزماتنا التنموية رغم الموارد المحدودة. وبناء على هذا التوجه، فإننا ننادي الحكومة إلى الإسراع بتفعيل مضامين ومقتضيات الدستور الجديد باعتباره التعاقد الأسمى الذي يجمعنا مع الشعب المغربي. وبخاصة إعداد مشاريع القوانين التنظيمية وإخراج الهيآت والمؤسسات الداعمة للحكامة. ونكرر أن هذا التفعيل ينبغي أن يتم وفق مقاربة تشاركية تفاعلية ومنتجة، لأن تفعيل الدستور ليس مهمة حكومية بقدر ما هو مهمة مجتمعية استراتيجية تتجاوز الجهاز الحكومي وإن كان مسؤولا على مساطر التفعيل وإدارة الحوار وشكليات إقرار وإخراج الآليات. ومن هنا ندعو إلى عدم تكرار سيناريو مشروع القانون التنظيمي الخاص بالتعيينات الذي أعد بانفراد وبمنظور مناف للتأويل الديموقراطي للدستور وسيمرر بآلية الاحتكام للتصويت العددي التي لا تلائم نصا تأسيسيا ومؤسساتيا يعد امتدادا للدستور. إن المرحلة الراهنة التي يؤطرها دستور جديد ستحتاج كذلك إلى مؤسسات جديدة ذات مصداقية وقوة رمزية لتحقيق الثقة وبناء دعامات مغرب المستقبل الديموقراطي والحداثة. لكننا إلى حدود الساعة لم نر تحركا حكوميا جادا لإطلاق حوار وطني شامل حول شروط بناء المرحلة الجديدة. فهل سنتعامل من جديد بمنطق المباغتة الذي أضر خلال نونبر الماضي بحماس وحرارة الإصلاحات الدستورية. إن علينا أن نستوعب بكل وعي ومسؤولية أننا مقبلون على انتخابات محلية وجهوية ومهنية ستعيد ترتيب المشهد السياسي والمؤسساتي والترابي الوطني بما يعطي للدستور شرايين حية في التراب الوطني. ومن مصلحة المغاربة أن تتم هذه العملية في ظروف صحية وشفافة بما يجعلها تعطي نفسا جديدا للحياة السياسية المحلية ببلادنا. لكن الزمن مهم في ترتيب هذا العمل الوطني الجبار الذي من المفروض أن تكون ترتيباته العملية قد انطلقت، وبوشرت منذ شهور المشاورات الخاصة به حول القوانين الانتخابية والتقطيع الترابي واللوائح الانتخابية ونمط الاقتراع وجدولة العمليات الانتخابية... على الحكومة إذن أن تتحمل مسؤولياتها وأن تعتمد مقاربة تشاركية منتجة وفعالة، لأن هذا الورش الإصلاحي الوطني هو عمل جماعي تشاوري وتوافقي يهدف إلى إرساء معالم المغرب المستقبلي ولا مجال للاستفراد أو المباغتة أو الاصطناع في أي مرحلة من مراحله. لم يبق لي في هذا الحيز الزمني الضيق إلا أن أعرج على دور ومهام ديبلوماسيتنا المغربية التي تعززت في السنوات الأخيرة باحترام المنتظم الدولي, مما جعلنا نحظى بالثقة على رأس هيآت مثل البرلمان الدولي والوضع المتقدم مع أوروبا ومثل عضويتنا بمجلس الأمن, مما أصبح يفرض علينا جهودا مضاعفة لتعزيز تلك الثقة بنتائج تؤكد أننا دولة عريقة ومندمجة في المنظومة الكونية بقيمها ومقوماتها. لكننا نأسف مع ذلك من بعض التشويشات التي لم نستطع في الآونة الأخيرة تجنبها بسبب أخطاء استغلها مناهضو وحدتنا الترابية، وفي هذا الإطار أشير إلى التقرير الأخير للأمين العام للأمم المتحدة وكذا قرار مجلس الأمن الذي زاد من صلاحيات المينورسو عبر انفتاحها على مختلف المتدخلين. إننا نعرف أن كل ذلك لن يمس بمصداقية ملف وحدتنا الترابية المقدسة، ولن يغير في واقع السيادة الوطنية على كامل ترابنا، لكن ومع ذلك فإن الديبلوماسية الوطنية عليها التحلي باليقظة الضرورية التي لا تسمح بالتشويش على الملف الوطني المدعوم بمصداقية مقترح الحكم الذاتي وما اكتسبه من دعم دولي منقطع النظير. وفي نفس الإطار, فإننا لا نفهم تزايد العدوانية تجاهنا من طرف النظام الجزائري في هذه الظرفية التي كان من الأجدى البحث فيها عن تكامل وتعاون مغاربي يفيد الشعبين الشقيقين ويجنب الشقيقة الجزائر ويلات التطرف والاحتقان الذي يحدق بحدودها. وبالتالي, فإننا نعيب على ديبلوماسيتنا توجهها بشكل أولوي غير مدروس إلى النظام الجزائري وإعطائه هدية بزيارته وتبييضه إعلاميا في الوقت الذي كان يعاني فيه من عزلة غير مسبوقة جراء مواقف رموز النظام من الثورة الليبية ومن الربيع العربي ومن تعنته في مسألة فتح الحدود مع المغرب لأسباب غير واقعية. وبنفس الغيرة الوطنية نتوجه للحكومة باللوم على تغييب الاهتمام بالقضية الفلسطينية التي نعدها قضية تحتاج منا اليوم كل الدعم والمساندة، الحكومية والشعبية بالإضافة إلى الدعم المستمر الذي يقوده صاحب الجلالة باعتباره رئيسا للجنة القدس، هذه المدينة الرمزية المهددة بالتهويد والمحاصرة والتي نساند كبرلمانيين الحملة الدولية لفك الحصار عنها في أفق تحريرها.