مخرج « الذبابة»، ديفيد كروننبرغ، يشِّرحُ علاقات سيغموند فرويد وكارل يونغ. هل يمكن أن يكون هذا ربما اعترافاً؟ هل يرتدُّ ديفيد كروننبرغ بروايته في «منهاج خطير»A Dangerous Method إلى القطيعة بين كارل يونغ وسيغموند فرويد عن إيمانه بالبيولوجيا وحدها ليكرس نفسه، عبر وساطة التحليل النفسي إلى قوى الكلمات والرموز؟ منذ أفلامه الأولى المرعبة ذات الميزانية الصغيرة والإنجاز السريع ، في بداية السبعينات، وحتى «إكزيستنز» existenZ (1999) عبَّر كروننبرغ عن مادية محتدمة ومصمِّمة. فكل احد من أفلامه اختزل نزوات الروح في كونها خداعاً بصرياً ورغوة مهملة، حيث يظل مبدأ الواقع النهائي هو الجسد. وبينا يتداخل الجسد والتقنية تبدو النفس كأثر لمراحل تطورية ماضية مآله الحتمي هو الاندثار، وكنوع من الزينة لتجعلنا ننسى أننا مجرد مادة مصنوعة من الكربون. يعتقد الواحد منا أنه شخص فريد ، وأن لديه أفكراً وخيالات لاشعورية لا يقدر على التخلي عنها، وهو ليس سوى جهاز حي الفيديو ( فيلم «حلبة سباق الفيديو») ونظام لعبة الفيديو غيم بويune Game Boy (فيلم « إكزيستِنز»)، وحيوان آكل للجثث ومعدل وراثياً ( فيلم» الذبابة») وقود سيارات (فيلم « حادث سيارة»). بيد أنه قد يكون من قبيل الاختزال أن نحصر كروننبرغ ونحده في توجيهاته الإخراجية الأكثر إلحافاً.فقد قدَّر الكندي عند مطلع الألفية أن امتداح إنجازاته الخارقة إذا ما استمر كان يوشك أن يضحي تكراراً مبالغاً في التبسيط لما بعد الإنسان لإبنالpinal E كما في « إكزيستنز»، الذي نجد فيه محاكاة ساخرة لأعماله هو عبر خلفياته المزدوجة وعتاد الأعضاء الاصطناعية المطاطية: فبمبالغتها في المعنى أصبحت القصة الخيالية متجر أغراض إيروتيكية للاستعارات. وفي عام 2005، سجل المخرج قطيعة عبر فيلم «تاريخ عنف». فلا زينة ديكور تكنولوجي بل ديكور بلدة صغيرة بسيطة ومتناثرة المنازل وعرض جاف كغصن دالية متخشب موجز لموضوع الفيلم: يعاود ماضٍ استثنائيٌّ بقدر ما هو دموي الانقضاضَ فجأة على رجل دمث المعاشرة ودون مناقب فقد كان في الماضي قاتلا مأجوراً. وشأنه شأنَ ممثله فيغو مورتنسون بوجهه ذي الزوايا الحادة والملامح الخشنة الذي دشن معه تعاوناً مثمراً، يهمل كروننبرغ الأجساد المنتفخة البشعة ليكرس نفسه لهيكل عظمي هو هيكل الأنماط النموذجية المكشوطة إلى درجة كونها تسمح ببروز المفاصل الأكثر دقة: فتصبح الشخصيات أنصاف آلهة لا نعرف عنها ما إذا كانت مفرطة التبسيط بشدة أو زائدة التعقيد، أو ما إذا كانت منتجات تسلسلية أو قطعاً فريدة. وهكذا، فقد اللحم الممسوخ امتيازه الحصري: كانت هناك العظام وكانت عظامَ أساطير فلماذا لا اللاشعور الجمعي أو»علم نفس الأعماق « الذي امتدحه وحضَّ عليه بإلحاح يونغ، الذي هو اليوم أحد أبطال «منهاج خطير». اقتُبس الفيلم من عمل أدبي لكريستوفرهامبتونChristopher Hampton ، استُوحِيَ هو أيضاً من تحقيق تاريخي لجون كور John Kerr خصصه للمثلث الذي ربط فرويد (الذي شخصه هنا فيغو مورتنسون متمكناً من الانكماش في شكل ومظهر سيغموند)، يونغ ( مجسداً بالمثالي مايكل فاسبندر) وسابينا شبيلغاين ( التي شخصتها كيرا نايتلي، التي نجتْ بجلدها من «قراصنة الكاريبي» تخالجها اهتياجات عنيفة وتصميم بارد). لقد أصبحت سابينا، وهي يهودية روسية عمرها 19 سنة وتعاني من نوبات حادة من الهستيريا، عام 1904مريضة ثمّ بعد ذلك عشيقة يونغ، الذي حققت طريقةُ علاجه تأثيراً باهراً عليها. ثمّ تشرع في دراسة الطب (حيث ستصبح محللة نفسية أيضاً وستكون وراء مفهوم نزعة الموتpulsion de mort )، في حين يقابل مرشدُها أخيراً فرويد الذي يجعل منه وريثَه الروحي. ويعزل الفيلم ، الذي تتخلله حالات حذف صريحة، النزاعات وسوء الفهم ستتسبب في انفصام المثلث: يقطع فرويد علاقته بيونغ في 1913 بعد أن جعلتْ سابينا من الأول أمين سرها وقد تخلى عنها عشيقُها السابق. وها نحن نغوص في الحساسيات الزائدة وتخبُّطِ أولئك الذين هم ذاتهم مَن يجعلون مِن هذه الأمور موضوع دراستهم، وكذا في مخططاتهم ودناءاتهم الصغيرة (حوَّل هامبتون في الماضي رواية «العلاقات الخطيرة « Les Liaisons dangereuses إلى سيناريو لفائدة ستيفن فريرز): السلطوية المتلاعبة لفرويد، التََصلُّب الذي كان عليه يونغ في البدء، وهو إذ يتحرر منه يعرض نفسه إلى التقلب السهل للرأي ونوبات الهذيان (حبه المتزايد للخفائيةoccultisme ). وفي نفس الوقت، ينقاد كروننبرغ بطواعية لقوانين فيلم الأزياء التاريخية إلى درجة أن فكرنا يذهب أحياناً إلى الصور المميِّزة للأعمال الميلودرامية الفيكتورية لجيمس آيفري (فيلم «غرفة مطلة على منظر»). فهل حان الوقت ربما، بعد الكرنفال البيوتكنولوجي، للتحليل السيكولوجي والدقة وملامسة الحقيقة؟ قد يصبح ذلك شديد السهولة، مرة أخرى. ففيلم «منهاج خطير» مثلَ فيلم «تاريخ عنف» الموجِز التعبير بالكلمات، هو فيلم معتِم بدرجة قصوى إلى حد أنه مخيِّبٌ للآمال تقريباً عند مشاهدته للمرة الأولى، فالمحللون النفسيون ليسوا عميانا فقط أمام الإلمام بحالتهم الخاصة ، كما هو الحال مع مرضاهم، بل إنهم يشكلون شخصيات معتمة. واللقطات التصويرية في الفيلم هي ناتئة جداً، وحالات الابتعاد عن الموضوع محذورة جداً، إلى حد أن الشخصيات لا تترك سوى قشرة سطحية من الأعراض تظهر دون أن تتجلى أسبابُها. إنه فيلم ذو سكين يقطع أصابعنا بمجرد الاقتراب منه ثم يلأم إجبارياً المستويات غير المتوافقة: مناظر عامة تكتنف ديكورات أعيد تشكيلها بعناية بالغة لتتلوها على الفور لقطات قريبة عديدة لوجوه منطوية حيث العواصف تحت الجماجم لكنها تبقى غير مرئية لكونها مضغوطة في قِدر ضغط الغضاريف والتجاعيد الصغيرة. وبلا توقف نتأرجح بين البعد والقرب، الجملة والتفصيل بلا وضعٍ وسطٍ؛ فهناك في الواقع القليلُ جداً من اللقطات متوسطة البعد والتي تسمح بالجمع بين شخصين على الشاشة، وبتصوير الحوار (أو لِمَ لا جلسة تحليل نفسي). ونحن دائما بعيدون جداً أو قريبون جداً، حسيرو النظر أو بعيدو النظرhypermétropes، تماماً كما الشخصيات. إن في ذلك يداً ممدودةً مثيرة للدهشة نحو التحليل النفسي، الذي لا يقدم أية إغاثة لإيضاح أي شيء كان. حفل الجماجم الراقص على النقيض من ذلك تبرز الحقبة الأولى لكروننبرغ غالباً في الفيلم. فحفل الرؤوس الراقص ذاك الذي لا يتوقف، يمكن أن يدفع إلى التفكير في العمل الأدبي سريع الإنجاز والتميُّز بالتقليد الساخر»شاشات حواسيب»Scanners (وفي وسطائه الروحانيين الذين بمقدورهم جعل الجماجم تنفجر عن بعد) أو في فيلم « المظاهر الخداعة» [ العنوان الانجليزي الأصلي للفيلم هو»Dead Ringers» («شبيهان تماماً») (م.)]. ونرى أيضاً ظل»الذبابة» يحوم فوق هؤلاء الأطباء الطليعيين الذين يتجاوزُهم علمُهم والذين لماذا لا يكونون خاضعين لطفرة، إن لم يكونوا ناقلي عدوى ? لم يقدر كروننبرغ أن يمنع نفسه من أن يُورد جملة فرويد الشهيرة التي قالها عند وصوله إلى نيويورك سنة 1909: « إنهم لا يدرون أننا نحمل إليهم الطاعون.» وكما في الماضي، يعيد الجسد تأكيد ذاته بصفته خشبة النجاة الاضطرارية الوحيدة وواجهة للتفاعل ملموسة بكيفية قليلة جداً وربما قابلة للقراءة. لقد كان الحال هكذا مسبقاً، مع »تاريخ عنف» لا بحثَ البتة في الذاكرة من طرف القاتل السابق، فجسده هو الذي يتذكر عوضاً عنه تقنيات قتله القديمة. وكما في «وعود الظل» [ العنوان الإنجليزي الأصلي للفيلم هو»Eastern Promises» («وعود شرقية») (م.)] فإن أفراد المافيا الموشومين يتركون على جلدهم وليس على روحهم انكتاب عذاباتهم. فإذا كانت قد حدثت هناك قطيعة لدى كروننبرغ فهي في الكيفية نزعة سلوكية مجردة بالأحرى من الحكايات المجازية المخبرية، وتدوينات بالأحرى من قصص خيالية. لم يتهرب المخرج أبدأً من أهمية العلامات بل سهر ببساطة على ألا يَفُكَّ رباطها مع المادة: فكما أن الجسد هو على الدوام موشوم أو يجد مشقة في الحركة بسبب القوانين، فإن العلامات ليست معلقة فقط في الأجواء وإنما تتطلب دائماً حاملاً وتنتقل من الحالة الافتراضية إلى الحالة الواقعية في جسدنا. وفي ذلك، يظل كروننبرغ عالم هندسة وراثية، ذلك الذي يدرس الرموز (ليس فقط الADN) في أجسامنا، على المستوى الفردي أو الجماعي. لقد كان فيلم « الوليمة العارية» (1991) [العنوان الإنجليزي الأصلي للفيلم هو»Naked Lunch» («غداء عارٍ») (م.)] بيانا ً(مانفيست) لكل ذلك ، وهو في نفس الآن اقتباس وتعليق على كتاب وليم باروزWilliam Burroughs، الذي كانت أوهامه في الوقت ذات خيالات لاشعورية وتمثيلات في الأدب وأجساداً. يتعانق علما الأساطير والبيولوجيا ويلتهم كلاهما الآخر: يجب دائماً التحكيم بينهما مع عدم نسيان الرباط غير القابل للذوبان الذي يجمعهما.وإن ذلك هو أيضاً ما يدور في الخصام إلى حد قطيعتهما. فيونغ يلوم الآخر الأكبر منه سناً لأنه اختزل كل شئ في المسألة الجنسية والشهوات البيولوجية: إنه يدعو بشدة إلى الاستعانة أيضاً ب»علم نفس الأعماق»، ذلك الذي يتطرق للأنماط النموذجية الأسطورية والدينية . وعلى نفس المنوال، يسعى كروننبرغ إلى الجمع بين الإثنين: والحلقة التالية هي في 2012 مع «كسموبوليس»، وهو الفيلم الذي سينقل رواية دون دي ليلو Don DeLilloإلى الشاشة الذهبية. المصدر: مجلة «لو ماغازين ليتيرير»، عدد 514، شهر كانون الأول / ديسمبر2011 (ص.ص:14-15).