أن تصل إلى قبائل آيت علا حودران ومعها شقيقتها آيت بلقاسم، لا يلزمك أكثر من ساعة من الوقت، انطلاقا من الرباط والوجهة طبعا مدينة تيفلت، التي ما إن يتم ذكر اسمها في ربوع الوطن حتى يُستحضر قربها من العاصمة مع ما يعنيه ذلك من استفادة من امتيازات القرب من مركز القرار، أو هكذا يعتقد... بعد عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة على الأكثر من ركوب الطريق السيار المتجه إلى مكناس، تشير علامات التشوير إلى الانعطاف يسارا بغية الوصول إلى الوجهة المقصودة، وما هي إلا هنيهة من الزمن حتى يجد المرء نفسه أمام عبارات الترحيب التي تكاد كل مدن البلاد ترفعها في بوابات الدخول إليها، ومن تيفلت الراقدة في هدوئها، تستدعي الضرورة الانعطاف يمينا للتوجه إلى جماعة آيت بلقاسم المكسوة بخضرة النباتات في هذا الفصل الذي يؤسس لفصل الربيع، فضلا عن الأشجار المنتشرة في كل مكان...عموما ينتابك إحساس بأنك في المغرب النافع وفق مقولة الاستعمار الفرنسي، الذي نظر ذات لحظة من تحكمه في مفاصل الحكم بالبلد، إلى أن ما يبعد عن وسط البلاد مغرب غير نافع، ومن ثم نهج سياسة التجاهل واللامبالاة إزاء هاته الأماكن، التي مازالت، لسوء حظها ، تندب قدرها الذي لوح بها جغرافيا إلى الهامش.. غابة جميلة ونفايات كثيرة ما أن تغادر آخر بناية بالمدينة وتتنسم هواء البادية المنعش، يتراءى للمرء امتداد غابة مجاورة تعانق الطريق وتضفي عليها جمالية خاصة، وما أن تستنشق ما طاب لك من الهواء النقي، حتى تصاب بصدمة زحف النفايات على هذا الفضاء الأخضر، إنها الحقيقة، نفايات وأزبال تعانق هي الأخرى، أشجار الكاليبتوس الممتدة إلى أعلى، إنه منظر يدعو ناظره لأول مرة إلى الإحساس بالدهشة أو أشبه، إذ كيف يستساغ أن ترمى المخلفات السامة والفضلات وسط غابة مجاورة للمدينة، و يفترض أنها رئتها التي تمدها بالأوكسجين، ولقد كان أحمد. س، ابن المنطقة، محقا عندما بادر إلى الإجابة عن دهشتنا أثناء التمعن في زواج الأشجار بالأزبال، بالقول إنه يشبه ما تعرفه البلدة من تقتيل متعمد للطبيعة، حسب وصفه، بإقدام رجل ما على الإكثار من تناول السجائر، مضيفا أن المدخنين يعون تماما أن سجائرهم سم وسرطان، لكنهم يسعون وراءها، بل لا يصبرون على مفارقتها ولو لوقت قصير. في مطرح النفايات هذا، الذي اختير له الحزام الأخضر لمدينة تيفلت، يُمارس نوع من الشراكة الغريبة بين العديد من الجماعات، يقول مرافق لأحمد، الذي بادر إلى مشاركتنا الحديث، وعند استفساره عن المقصود بكلامه، أجاب بالقول :« في هذا المكان الجميل، جرى الاتفاق بين أربع جماعات حضرية وقروية، على اتخاذه مطرحا للنفايات، إذ فضلا عن مدينة تيفلت، تنتهي فضلات مدن الخميسات وسيدي علال البحراوي وسيدي عبد الرزاق هنا». أما محمد . ك ، المستشار الإقليمي، والنائب الأول لرئيس جماعة آيت بلقاسم، فقد قال عند الالتقاء به صدفة، أن اهتمام المسؤولين المحليين منصب على بناء سور خارجي للمطرح، وذلك سعيا إلى الحد من زحف الأزبال على جل المجال الغابوي، مضيفا أنه يعترف بسيادة الفوضى في مجال تسيير هذا المرفق، منذ ما يقارب العشر سنوات، أي مباشرة بثلاث سنوات أو أربع بعد تدشينه في العام 1998 . مستوصف بلا كهرباء وسط سور السوق الأسبوعي لجماعة آيت بلقاسم، يوجد مستوصف وحيد يعرف هو الآخر مشاكل من نوع خاص جدا، فرغم الالتصاق بمقر الجماعة، لم تجد الكهرباء طريقها بعد إلى مكان الاستشفاء هذا الذي بلغ من العمر حوالي 15 سنة، وظل يعتمد في أداء وظائفه على نور الشمس، التي بمغيبها يغيب النور..صادفت زيارتنا للمكان يوم عطلة، فكان طبيعيا أن يكون باب المستوصف مغلقا، وما لم يكن طبيعيا ، حسب مرافقنا، الذي عند علمه بخلفيات زيارتنا للمنطقة، أبى إلا أن يشاركنا المسير، ما لم يكن طبيعيا حسب قوله، هو وجود مختلف التجهيزات الطبية، وعوض الاشتغال بها وعليها، تترك عرضة للتلف والصدأ في غياب الكهرباء، وأضاف محدثنا بنبرة تملؤها الحسرة قائلا « لقد كان حريا بالساهرين على قطاع الصحة بالمنطقة ، أن يمنحوا تلك التجهيزات على سبيل الهبة لمن هم في حاجة لها، أما نحن فلم نعد ننتظر شيئا، لأن حقيقة اعتبارنا مواطنين من الدرجة الثانية لم تعد تقلق راحتنا»! مشكل الاستشفاء مشكل يرخي بظلاله، أو يكاد، على كل دواوير المنطقة، والناس هنالك من مختلف الأعمار تضع هذا الاهتمام على قائمة الأولويات، إذ ما أن تكلم أحدهم حتى يشكوك جانبا من قصص «المعاناة» مع المرض، التي تعمق من جراحها صعوبة الوصول إلى مستشفيات المدينة، علما بأن حالات كثيرة كالولادة أو ما شابه، تتطلب السرعة في التدخل الطبي، لكن غياب الكهرباء عن المكان ومعها غياب الطبيب الرئيسي، ومع الإثنين غياب الطريق، كل هذا يدفع بالساكنة إلى وضع أيديها على قلوبها فور ظهور علامات المرض المفاجئ على أحد أفرادها. حول سؤال بخصوص واقعة غياب الطبيب عن مستوصف جماعة آيت بلقاسم، والاكتفاء رغم ذلك بالممرضة والممرض، فضلا عن عدم الربط بالتيار الكهربائي، قال أحد المسؤولين المحليين إنه وباسم المجلس الجماعي راسل وزارة الصحة العمومية، حول الموضوع، في أكثر من مناسبة، إلا أنها ( الوزارة) لم تكلف نفسها عناء الإجابة عن تلك المراسلات، وأضاف ذات المتحدث بأن ساكنة المنطقة، باتت تخشى أن يكون إقصاؤها سياسة متعمدة، وتناسيا مقصودا لا نسيانا طارئا، إذ لا يعقل أن لا تعلم الوزارة الوصية على القطاع بغياب الكهرباء عن إحدى مؤسساتها، رغم أن الأمر لا يتطلب إلا توقيعا من هذا المسؤول أو حتى مكالمة هاتفية من آخر، ثم لا يعقل ، حسب الشخص نفسه، أن يظل منصب الطبيب الرئيسي شاغرا رغم تواجد العديد من الطاقات الصحية التي باتت تتظاهر على بعد أقل من 70 كيلومترا ببوابة مجلس النواب. الصحة بالمنطقة مريضة وتحتاج إلى طبيب يقيم بين ظهرانيها، يلبي النداء كلما دعت الضرورة إلى ذلك، يقول أحد أبناء الدوار، الذي أضاف بأن من لسعه عقرب لا يفهم ولا يهمه أن يفهم بأن مشاكل تقنية هي التي حالت دون إسعافه بالمركز الصحي القريب من سكنه، والمرأة التي جاءها المخاض ولم تمتد إليها يد الطبيب لتخليصها من الألم، لا تستطيع لغة الخشب أن تجد إلى مسامعها سبيلا. آيت علا حودران: لا ماء ولا كهرباء فور الابتعاد بأمتار قليلة عن المستوصف ومقر الجماعة، تنتهي الطريق المعبدة، أو التي تتراءى كذلك، اعتبارا لكثرة الحفر بها المتناثرة بها والتي لكثرتها ما أن يحاول سائق تجاوز إحداها حتى يسقط في الأخرى، لدرجة يعمد معها أغلب السائقين العارفين بجغرافيا المنطقة إلى السير جنبا والابتعاد قدر المسموح به عما كان معبدا من الطريق، لذلك تجر جل المراكب العابرة للطريق وراءها خيمة من الغبار المتطاير.. بأمتار قليلة، إذن، تبتدئ طريق آيت علا حودران، المنتمية إلى الطرق المدرجة ضمن ما جرى الاتفاق على تسميته «برنامج فك العزلة عن العالم القروي»، إلا أن السير هنالك يتطلب مهارة معينة من السائق، الذي يتوجب عليه ، والحالة هاته، تخفيض السرعة إلى أقصى الحدود الممكنة، إن هو ابتغى حقيقة الوصول سالما بعربته إلى حيث هو ذاهب. توقف مرافقنا للسلام على رجل خمسيني، كان مترجلا في الاتجاه المعاكس. إنه فقيه الدوار الذي قطع زهاء الأربعة أو الخمسة كيلومترات، في طريقه إلى «الشانطي» البعيد قرابة ساعة أخرى من المسير، لعله يجد هنالك سيارة أجرة تقله إلى حيث تقيم أسرته التي يزورها بين الفينة والأخرى. «الله يبدل الأحوال بأحسن منها» قال الفقيه عندما سئل عن حيثيات رحلته وما يرافقها من مشقة، مضيفا أنه يتطلع إلى اليوم الذي يُنعَم فيه على الجماعة بطريق معبدة تجعل الدخول والخروج من و إلى الدوار أمرا ميسرا، فلا حول و لاقوة إلا بالله، يقول الرجل الذي يتكلم همسا، اعتبارا لكونه رجل دين، يحظى باحترام وتقدير الجميع. على جنبات الطريق، وحيثما امتد نظر العين، تتناثر البيوت الريفية، التي تبدو في أحسن الأحوال، اعتبارا إلى الغطاء الأخضر الذي يلفها من كل جانب، فضلا عن أسلوب بنائها وطرق ترميمها، وجنب كل واحدة منها تمتد سلسلة من أعمدة الكهرباء، التي توحي بامتلاك الساكنة هنالك أسباب الارتباط بالعالم المعاصر، إلا أن الارتباط المذكور موقوف التنفيذ، كيف ذلك؟ الجواب عن ذلك، وفق ما جاء على لسان أبناء آيت علا حودران، يكمن فيما يرونه تهميشا يطال بلدتهم، لدرجة تتعطل فيها أهم مصالحهم وأكثرها حيوية لمجرد توقيع أحد المسؤولين. يقول سي محمد، الذي سألناه استنكارا عن شعوره غداة ارتباط منزله بالتيار الكهربائي، «إنهم في المدن، داخل مكاتبهم ومنازلهم، لا يتحملون العيش بدون كهرباء لمدة ساعة، أما نحن فلا بأس أن نضيف بعضا من الشهور في عتمة الظلام، الذي عاشه أجدادنا ومن سبقهم» وبعد أن أشعل سيجارة من النوع الردئ، واصل محدثنا كلامه بالقول إن الكهرباء تُقطع عادة بسبب أعطاب تقنية، إلا أنها في آيت حودران، تُمنع من الوصول إلى البيوت لأعطاب إنسانية، وإلا ماذا ينتظر المسؤولون لإعطاء انطلاقة سريان الحرارة في «الكابلات» الكهربائية. بعد الانتهاء من الحديث حول ما تسميه ساكنة الجماعة بوقف التنفيذ في موضوع التزود بالكهرباء، أشار إلينا أحدهم إلى كثرة «السقايات» المتناثرة هي الأخرى بدواوير الجماعة، قائلا بألا واحدة منها جميعا توجد في حالة الخدمة، وفعلا توقفنا عند العين الوحيدة التي يحج إليها الجميع، وهي عين توجد بأحد المنحدرات، ويعود تاريخ بنائها إلى عهد الحماية الفرنسية، إنها عين يضطر معها البعض إلى خسارة ساعات من الزمن وعشرات من الكيلومترات بغية حمل الماء منها. نبيل تلميذ في العاشرة من العمر، يلبس ثيابا تكاد لا تقيه لسعات البرد القارس، يركب دابة وعلى ظهرها بضع من القناني البلاستيكية من فئة خمسة لترات، قال عند سؤاله عن رحلة البحث عن الماء، بأنه يضطر يوميا إلى السير زهاء الساعتين لجلب الماء إلى أسرته، وأضاف بأن ذلك يضيع من وقته المخصص لمراجعة دروسه الكثير، إذ لا يعقل ، وفق ما قاله نبيل دائما ببراءة الأطفال، أن تجمع بين الدراسة وجلب الماء. شيخ سبعيني صادف وجودنا بالعين ذاتها قال إنه وأسرته يُستسقون من هاته العين منذ أن كان صبيا، وأضاف «فرحنا كثيرا ببناء «سقاية» قريبة من منزلنا إلا أنهم أبوا إلا أن يؤجلوا فرحنا، وقد ننتقل إلى العالم الآخر دون التمكن من الاستفادة من الضو والما»! فوق «العين» التي تعتبر مكانا لالتقاء الجميع، توجد مدرسة الدوار، التي لتواجدها فوق ربوة عالية، تكاد تظهر من جميع الزوايا، وما يجعل الزائر يستشعر تواجد مؤسسة عمومية هنالك، تلكم الراية الحمراء، التي ترفرف، رغم حالتها التي تشي بنسيان القائمين على المؤسسة، تغييرها. حجرات الدرس مغلقة في انتظار المعلم الذي، وفق رواية العديد من الآباء الذين التقيناهم، فضلا عن التلاميذ، ،يعاني أمراضا نفسية تمنعه من ممارسة مهنة التدريس، فيما تؤدي معلمة مهمتها بإخلاص، أما المراحيض فهي عبارة عن بيت متهالك لا سقف فيه، تأبى النفس البشرية مجرد الرؤية إليه لما يحمله من علامات الخراب، إنه لا يحمل من معنى الكلمة إلا الإسم، وبالاقتراب منه تستشعر فعلا أن قبائل آيت علا حودران مازالت قابعة في ظلام النسيان وحدها غابة ازعير تطل من الجانب الآخر على المكان، وتبعث مع كل غروب شكل لوحة تشد الناظر إليها، لتهمس في أذنيه «ما أجمل الطبيعة وما أقسى الإنسان»!