المغرب يستعد لإطلاق خدمة الجيل الخامس من الانترنت    حملة اعتقال نشطاء "مانيش راضي" تؤكد رعب الكابرانات من التغيير    بقيادة جلالة الملك.. تجديد المدونة لحماية الأسرة المغربية وتعزيز تماسك المجتمع    فرنسا تحتفظ بوزيري الخارجية والجيوش    دياز يشيد بوفاء مبابي ب"وعد التمريرة"    العراق يجدد دعم مغربية الصحراء .. وبوريطة: "قمة بغداد" مرحلة مهمة    إدانة رئيس مجلس عمالة طنجة بالحبس    إرجاء محاكمة البرلماني السيمو ومن معه    "بوحمرون" يستنفر المدارس بتطوان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء            أخبار الساحة    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحداث الدار البيضاء يومي7 و 8 دجنبر 1952 اغتيال فرحات حشاد.. قرار الإضراب
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 08 - 12 - 2011

يومه الخميس 8 دجنبر 2011 ، الذكرى 59 لنضال 8 دجنبر 1952 الذي مثل انعطافا في نضال الحركة النقابية المغربية وحركة النضال من أجل الاستقلال على السواء، كما كان محطة بارزة في مسار التضامن العمالي والشعبي على صعيد المنطقة المغاربية.
في ما يلي الفصل الذي خصصه مؤرخ الحركة النقابية المغربية، الفقيد البير عياش، لانتفاضة 8 دجنبر 1952.
بلغ إلى الدار البيضاء، بعد زوال يوم الجمعة 5 دجنبر 1952، بعد الزوال، نبأ اغتيال النقابي التونسي و زعيم الحركة النقابية بشمال أفريقيا، فرحات حشاد، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل.
ويوم 6 دجنبر، كان مسؤولون استقلاليون من الاتحاد العام للنقابات الموحدة بالمغرب، الطيب بوعزة، والمحجوب بن الصديق، ومحمد التباري، وصلاح المسكيني، قرروا التعبير بإضراب عام من 24 ساعة عن تضامنهم مع العمال التونسيين وتمردهم ضد مساوئ النظام الاستعماري. كان الشعبان التونسي والمغربي، اللذان يحفزهما نفس التطلع إلى الاستقلال، هدفا لنفس التعديات ونفس الاهانات من جانب سلطات الاحتلال و الطغمة الاستعمارية التي تخدمها. وقد تجلى بتلقائية تضامنهما خلال أحداث فبراير 1951، لصالح تونس بعد عمليات تمشيط رأس بون (مارس 52).
ولم يخبروا بالأمر رفاقهم الفرنسيين ممن جاوروا في مقرات دار النقابات، وصاغوا «نداء إلى كل العمال وكل شرائح الشعب المغربي» لشن إضراب حداد يوم الاثنين 8 دجنبر. ونظموا لجان إضراب في المقاولات الكبرى ووجهوا نداء إلى خلاياهم لنشر شعاراتهم. وحمل مناضل شاب، عبد القادر أواب، النداء إلى عبد الرحيم بوعبيد بالرباط لنشره بجريدة «العلَم» في اليوم الموالي. وفي الآن ذاته، وبتبديل فريد للمواقع، جاء عضو من اللجنة الإدارية لحزب الاستقلال، عبد الله إبراهيم، من الرباط حاملا إلى النقابيين شعار إغلاق الحوانيت والتجارة الذي أطلقه الحزب في اليوم ذاته مساهما بذلك النحو على الصعيد الوطني في مظاهرة الاثنين 8 دجنبر. وفي اليوم ذاته، 6 دجنبر، ودون إشارة إلى وفاة فرحات حشاد، ندد الجنرال غيوم، في برقية كان أرسلها إلى كي دورسي ب«التحريض الذي يقوم به ويؤججه حزب الاستقلال بمناسبة دورة منظمة الأمم المتحدة». وأشار إلى التخوف الكبير لدى السكان الفرنسيين و «النخبة المغربية، لا سيما القادة التقليديين». وأشار إلى قلاقل لا يمكن اتقاؤها سوى بسياسة حازمة. لذلك قرر، بقصد ضمان النظام، « أن يبقي بونيفاص، الذي أحيل على التقاعد بتاريخ 29 نونبر، في وظائفه مؤقتا بصفة مكلف بمهمة».
على هذا النحو ُأبقيت على حالها، وبرأسها المفكر والفاعل، «البطانة» التي قررت القضاء على الحركة الوطنية وإضفاء طابع جزائري على المغرب.
هذه بعض المقاطع من النداء المنشور بجريدة «العلَم» صباح يوم الأحد 7 دجنبر:
«ان الطبقة العاملة وشعوب أفريقيا الشمالية في حداد عميق بسبب الاغتيال الفظيع والوحشي الذي تعرض له أخونا وزعيمنا فرحات حشاد... ان أخانا الفقيد معروف في العالم بصفته رمزا للحرية الوطنية والديمقراطية والاجتماعية. لقد أظهر الاستعمار، باقترافه هذه الجريمة، وجهه الدنيء وبرز مرة أخرى بما هو عدو الحرية والتقدم والديمقراطية...». وبعد سرد انتهاكات الحرية و ما يعانيه عمال المغرب من أشكال ظلم خلص إلى: « إن الاتحاد العام للنقابات المغربية ، المعبر الأمين عن مشاعر الطبقة العاملة، يدعو كل العمال ومختلف شرائح الشعب المغربي لجعل يوم 8 ديسمبر 1952 يوم حداد وطني، ويدعو إلى يوم إضراب وطني 24 ساعة في هذا اليوم للاحتجاج على اغتيال المرحوم فرحات حشاد والمطالبة بتدخل منظمة الأمم المتحدة في الصراع بين الشعبين التونسي والمغربي من جهة و الحكومة الفرنسية من جهة أخرى، هذا الصراع الذي حوله الاستعمار إلى عدوان مسلح شرس ضد الشعوب العزلاء...
عاشت تونس، عاش المغرب ! عاش شمال أفريقيا المسلم»!
وفي ليلة السبت 6 إلى الأحد 7 ، حسب ادعاءات الشرطة، دعت شعارات باللغة العربية على الجدران بالمدن العتيقة وأحياء القصدير، ومناشير الاتحاد العام للنقابات الموحدة بالمغرب، إلى إضراب يوم الاثنين 8 والى اجتماعات يوم الأحد صباحا. وقد أُخبر عنها في القنيطرة والرباط وسلا واسفي والدار البيضاء.
المواجهات بالدار البيضاء
كانت الدار البيضاء، تلك المدينة الكبيرة، والمتروبول الاقتصادي،و المدينة الصناعية، المدينة المنار. ثمة تتجابه القوى الحاملة للمطالب: البورجوازية التجارية، شعب الحوانيت والحرفيين، الجماهير العمالية والشعبية من المدن العتيقة وأحياء الصفيح، وقوى الاستغلال والقمع الاستعمارية: أرباب العمل الأوربيين الكبار، فئات متوسطة من صغار أرباب العمل والحرفيين و « بيض صغار» و رئيس المنطقة كلي القدرة ، فيليب بونيفاص، مع مساعديه، من مراقبين مدنيين، وضباط الشؤون الأهلية، وأعوان المخزن، والقوات النظامية، عالم بكامله عازم على تحطيم كل تجل للوطنية المغربية. كانت الدار البيضاء تحدد الحياة السياسية للبلد، متخطية في ذلك العاصمة الرباط بكثير.
اجتمع صبيحة يوم الأحد 7 ديسمبر، في الساعة العاشرة والنصف، 1500 إلى 2000 عامل بدار النقابات بشارع لاسال، المسمى حاليا شارع فرحات حشاد، ترأس الاجتماع بلعيد بن عبد الله، كاتب الاتحاد المحلي. وتناول الكلمة بالتتابع الطيب بوعزة الأمين العام، ومحمد التباري كاتب الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب. ندد الاثنان بجريمة تونس، وأثنيا على الفقيد، ثم استعادا الحجج المثارة بانتظام منذ المؤتمر السادس والتي تعني لمن يلفظها المتابعة القضائية، والسجن والنفي ان كان مغربيا، والطرد ان كان فرنسيا، أي اعتبار النظام الاستعماري مسؤولا عن كل الشرور التي يعاني منها العمال ووجوب محاربته. وبعد ذلك ُعرضت على الحاضرين التوصية التي تستعيد جوهر النص الذي نشرته "العلَم" والداعي إلى إضراب عام تضامنا وحدادا يوم الاثنين، وجرى التصويت عليها. و بقصد إضفاء شكل مختصر وقاطع عليها، يبدو انه لم ُيحتفظ منها سوى بالفقرتين الأخيرتين.
ويشهد متقاعدون فرنسيون، كانوا مجتمعين بإحدى قاعات البورصة، على أن كل شيء جرى في أكبر هدوء.
وعند الزوال عبر الحاضرون بلا صخب الأحياء الأوربية، والتحقوا بأزقتهم أو أحيائهم الصفيحية. وأتم مناضلون تشكيل لجان إضراب، في الميناء ، وفي المقاولات الكبرى بالساحل، وفي القواعد الأمريكية [5] . وكان العمل بالميناء يجري كالمعتاد حسب جريدة لافيجي ماروكين. لكن الوضع بكامله انقلب في المساء بكاريان سانطرال.
انفجار كاريان سانطرال
كان مصدر الأحداث المأساوية التي شهدتها الدار البيضاء ليلة 7 إلى 8 ديسمبر ونهار الاثنين 8 عزم رئيس المنطقة، بونفاص، تحطيم الحركة الوطنية الاحتجاجية. كان وجه الأمر لباشا المدينة لإعلام السكان المغاربة في المساء بأن أي إغلاق للحوانيت و أي عرقلة لحرية العمل ستكون عرضة لعقاب شديد، وأمر قوات شرطته بأن تعتقل صباحا خطباء الاتحاد العام للنقابات المتحدة الذين دعوا إلى الإضراب.
وفي بداية الليل نشر منادون عموميون، ُمرفقون بمخازنية، في الأحياء المغربية لإعلام السكان. لم يتردد هؤلاء، والتزموا في الغد، عبر الإضراب وإغلاق الحوانيت، بحدادهم.
لكن الأمور سارت على نحو آخر في كاريان سانطرال. لماذا؟ طبعا كان الوسط من طبيعة مغايرة.
كان هذا الحي الصفيحي، ذي 40000 ساكن، والقريب من الأحياء الصناعية للصخور السوداء، وعين السبع، ومحطة القطار، مسكنا لعمال المصانع وسكك الحديد مع أسرهم. كان وعيهم العمالي والوطني حادا جدا. تلقوا الأمر على نحو سيء، ونفذوه بقوة جعلت المنادين العموميين والمخازنية، وأعوان الباشا، المرعوبين، يتراجعون إلى مركز الشرطة، الواقع في طرف الحي الصفيحي، وسط مساحة طليقة، حابسين بلا شك بعض المتظاهرين كما المعتاد. واجتاح حشد متعاظم الساحة. ويبدو أنه كانت ثمة فترة مفاوضات. ثم شرع رجال الشرطة يطلقون النار. ومن تلك اللحظة لم يتوقف تكثيف إطلاق الرصاص بقدر وصول تعزيزات على الساعة العاشرة ثم العاشرة ونصف، ليبلغ ذروته مع تدخل الكٌوم، وهم وحدات مشاة مغربية جرى تكليفها علاوة على ذلك باعتقال المناضلين الذين تعرضت منازلهم، المرصودة منذ أمد بعيد، للتفتيش. إنها «مطاردة ساحرات» كشفها لنا مؤخرا مناضلون كانوا مهددين بها،والتي تؤكد على هذا النحو تلك الشهادات المدلى بها بعد أيام من الأحداث لمتقصي الدورية الفرنسية تيموانياج كريتيان. عادوا من عملهم ليلا، فوجدوا أنفسهم وسط متظاهرين مطاردين بنيران الحرس المتحرك، وكان طريحون ممددين على الأرض، قتلى أو جرحى ؟ من يدري؟ وتشكلوا في فرق إنجاد. وكان أكثر من 80 جسما ممددا بمجسد سيدي عبد الرحمان الصغير.
وصباح يوم الاثنين 8، بعد هدوء استتب حوالي الساعة 2 والنصف، كان مجموع كاريان سانطرال مطوقا ومحاصرا بمصفحات حاملة رشاشات و فيالق قوات الأمن. تمكن عدد من المناضلين من العبور من عيون الشبكة. وفي الساعة التاسعة والنصف اشتعل كل شيء من جديد. ومن جديد ارتمت قوات الكٌوم والحرس المتحرك في مطاردة المناضلين. وجرى إطلاق للنار زاد عدد الضحايا تضخيما. ولم تتعرض أي من الأسر الأوربية التي كانت تعيش في بعض أحياء المجمع الصفيحي وسط المغاربة ، لأي مضايقة.
جنازات الضحايا المغاربة وإطلاق الرصاص بقنطرة سوق الزروع (الرحبة)
في الساعة 11 والربع ُنظمت جنازة ضحايا المجزرة. انطلق الموكب من المسجد الصغير سيدي عبد الرحمان نحو مقبرة بن مسيك. وتعاظم الموكب بقدر تقدمه، وتعزز بوصول سكان أحياء صفيحية أخرى، ومن المدينة الجديدة ومن الدار البيضاء ذاتها. وهكذا استقل الحافلة عمال لم يتمكنوا من الاجتماع صباحا بدار النقابات،وتوجهوا مباشرة إلى المقبرة. هذا لأن مسؤولي الاتحاد العام للنقابات الموحدة بالمغرب، الذين عرضوا للمصادقة قرار الإضراب في الأمس، كانوا قد اعتقلوا. كان أولهم الطيب بوعزة. ففي الفجر ُطوق منزله بالعديد من قوات الشرطة، واعتقله مفتش الاستعلامات العامة غارسيت، وفتش بيته، واقتيد ملفوف الرأس في قناع أسود إلى المفوضية [كوميسارية] المركزية بشارع تونس. ومن ثم ُنقل إلى سجن القنيطرة، ووضع في زنزانة مظلمة لم يخرج منها إلا بعد شهرين ليلتقي بمعتقلين آخرين.
ثم كان دور التيباري وبلعيد عند وصولهما إلى دار النقابات. ولم ينجح رفاقهم في انتزاعهم من أيدي الشرطة. ولم ينعقد الجمع العام. لكن حُدد موعد على الساعة الثانية والنصف. و طلب المحجوب بن الصديق من اندريه سالييريس، أمين مال الاتحاد العام و كاتب فيدرالية الموظفين، الذي كان بمكتبه، مبلغ مال بسيط بقصد إرسال برقيات احتجاج من أجل تنبيه الرأي العام بفرنسا وذهب مع رفاقه إلى بن مسيك.
تشكل، بعد انتهاء دفن الضحايا، موكب من آلاف المتظاهرين، وقاده مناضلون وقرر التوجه إلى بورصة العمل حيث سينعقد اجتماع للاحتجاج ضد اعتقالات الصباح وتعيين وفد للذهاب إلى المنطقة المدنية للحصول على إطلاق سراح المعتقلين.
ان المسار المتبع، الذي حاول متقصون مبعوثون من دورية تيموانياج كريتيان إعادة رسمه، يفاجئ بتعقيده الناتج ربما عن سعي إلى تشويش قوات الشرطة. سار المتظاهرون على طريق أولاد زيان ثم داروا فجأة يسارا، وسلكوا شارع ليوتنان مانفي، وأفضوا إلى طريق مديونة على مستوى قنطرة السكة الحديدية قرب سوق الزروع [الرحبة]. لكن قوات شرطة كثيرة كانت ترابط بالقنطرة، و أطلقت النار فوق رؤوس الموكب فور ظهوره « لكن دون خسائر» حسب جريدة لافيجي ماروكين. و تراجع الحشد المرعوب عائدا إلى شارع ليوتنان مانفي حيث تعرض 3 فرنسيين مارة للرجم والقتل.
ثم اتجه متظاهرون، جماعات صغيرة وعبر سبل مختلفة، إلى شارع لاسال حيث كان تقرر عقد اجتماع في الصباح. وأتاحت لهم فرق الشرطة المرابطة بمداخل المدينة الأوربية المرور بلا صعوبة. وبالعكس أوقفت الشرطة، قرب دار النقابات، المناضلين الفرنسيين الذين اعتادوا الذهاب إلى قاعات أو مكاتب نقاباتهم وفيدرالياتهم، من بريديين أوسككيين أو موظفين أو كهربائيين. وحوالي الساعة الرابعة والنصف سيعاينون مشاهد تغيظهم.
«مصيدة» شارع لاسال
كان كل شيء ُمعدا بدقة. بينما كان العمال المغاربة يدخلون إلى دار النقابات، على الساعة الثالثة، كان رئيس المنطقة يعقد ندوة صحفية. وكان عليه إعطاء تفسيرات حول الأحداث المأساوية التي عاشتها الدار البيضاء، والليلة الدامية بكاريان سانطرال، وإطلاق النار بقنطرة "الرحبة"، و المصيدة التي فتحها للنقابيين و يستعد لإغلاقها. وكان عليه أيضا أن يحدد النبرة للصحافيين، صحافيي مجموعة ماس وصحافيي أرباب العمل الكبار، الذين وجد فيهم تابعين متسرعين، على استعداد دائم للإضافة إلى بيانات السلطة وأنبائها الكاذبة. كان المطلوب إثارة رعب السكان الأوربيين وتهييجهم.
أقدم حسب قوله على إحباط «مؤامرة» حقيقية تستهدف اقتراف« مذبحة بين سكان الدار البيضاء الفرنسيين ... » «تدفقت تعزيزات أمنية... لقد أصدرنا الأمر إلى القوات المسلحة باستعمال أسلحتها، بعد الإنذارات المعمول بها ... لقد ابلغنا المندوبين النقابيين قرار منع عقد اجتماع جديد بدار النقابات بعد زوال يوم الاثنين...» «سنتصرف عند الاقتضاء بصرامة كبيرة، ستكون الدار البيضاء في مأمن..(...) ».
لم يكن أي مما قيل صحيحا. لم ُتوجه الإنذارات المعمول بها لا في كاريان سانطرال ولا في قنطرة "الرحبة" ، ولم ُيمنع الاجتماع بالمقر النقابي الذي ظل عن قصد مفتوحا و متاحا للعمال المغاربة وحدهم. عزم رئيس المنطقة على استغلال الأحداث التي جرت والتي استثارها لتحقيق ما كانت سلطات الحماية تصبو إليه للقضاء على الحركة النقابية والأحزاب الوطنية التي تحركها، الحزب الشيوعي المغربي وحزب الاستقلال.
وعلى الساعة الرابعة أُغلقت «المصيدة المفتوحة». فقد أعطى فيليب بونيفاص إشارة الهجوم. كسرت سيارة ذات رشاش مدخل دار النقابات، و« بدأت عناصر الشرطة إخلاء المكان... وجرى ذلك بوتيرة جهنمية ... وبصرامة قصوى جعلت المرشحين للجريمة مقتادين خارج المقر... وفورا ارتفعت خناجر علامة على الهدوء ...» حسب جريدة لوبوتي ماروكان- بروغري ماروكان ليوم 9 ديسمبر. وقبض على المسؤولين النقابيين، منهم المحجوب بن الصديق عضو مكتب الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب، ومحمد الشرقاوي، كاتب فيدرالية الموانئ و الشيالين، وزهاء مائة متظاهر، و أُجلسوا مقرفصين وأيديهم فوق رؤوسهم بجانب البورصة، واقتيد بعض العمال بعد تفتيشهم إلى مخارج المصيدة. كانوا خائفين. وفي شارع الطيران الفرنسي (قرب البورصة) خاصمهم سكان الحي الذين « قاموا، وصيحات «مجرمون» تتعالى، بإساءة معاملة بعضهم » (لافيجي ماروكين 9-12- 1952).
الحقيقة أنهم هوجموا من طرف حشد تحركه هستيرية قاتلة. هذا لأنه بينما كان الاجتماع جاريا بالمقر النقابي، كانت تباع أعداد من جريدة لافيجي ماروكين، جريدة بعد الزوال التي صدرت للتو، وهي تدعي الأخبار بما جرى بكاريان سانطرال.
أعلنت الجريدة بالصفحة الأولى، بعنوان عريض، على ثمانية أعمدة،:« فتنة جديدة بكاريان سانطرال هذا الصباح»، ثم تابعت على ثلاثة أعمدة بنفس الخط « اغتصاب أوربيين اثنين و ذبحهما»، وهو خبر جرى تكذيبه في الغد صباحا من طرف شريكها المتواطئ لوبوتي ماروكان- بروغري بأحرف صغيرة بأسفل الصفحة الثانية. وصباح يوم 9 ديسمبر، طلعت ماروك بريس، يومية جاك والتير، رئيس الغرفة النقابية للمناجم بعنوان يغطي نصف الصفحة الأولى، كي لا يتفوق عليه المنافس في الهول: « أدت فتن الدار البيضاء التي أعدها متطرفون بمؤامرة حقيقية إلى قتلى وجرحى عديدين. تم قتل ثمانية أوربيين بوحشية نادرة». وهاجم متظاهرون مركز الشرطة بكاريان سانطرال وسقط 20 قتيلا. وبطريق مديونة اصطدم المتظاهرون بقوات الشرطة وسقط 10 قتلى. وحوصر 3000 مغربي بمقر النقابة، في قلب المدينة، ُعزلا". وكي لا يبقى دينٌ على لافيجي ماروكين نزلت بعنوان:« استتب الهدوء بالدار البيضاء... حصيلة الفتن : 7 أوربيين مقتولين بوحشية وممزقين، وزهاء أربعين قتيلا بين أهل الفتنة، و500 معتقلين».
وتواصل ذلك طيلة ثلاثة أسابيع. كأن الصحافة الفرنسية بالمغرب أصابها جنون.
جنازات الأوربيين والقمع
جرت يوم الأربعاء 10 جنازات رسمية للأوربيين. كان ثمة أربعة توابيت بها جثامين الضحايا الثلاث بشارع ليوتنان مانوفي، وجثمان رابع لم ُتكشف هويته توفي صاحبه في ظروف غير موضحة جيدا. وكان الحداد الذي ُمنع منه المغاربة يوم 8 ديسمبر رسميا هنا. وتعطلت الإدارات بعد زوال الأربعاء. وفي الصباح كانت جريدة لوبوتي ماروكان تهدد:« يجب أن يشارك الأوربيون في الجنازة». كان سيلا من الحقد. وتعالت صيحات الهزء بالنشيد الشريفي. ونال الجنرال غيوم التصفيقات بعد أن ندد" بمن يبث الحقد" ومن يشجعهم من خارج، من أعدائنا و مع الأسف من "أصدقائنا" أحيانا ، وُردد نشيد المارسييز.
وكانت جرائد 11 ديسمبر التي تعرض أحداث الأمس، تعلن حل الحزب الشيوعي المغربي وحزب الاستقلال و الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب ومنع صحفها، و أولى حملات الشرطة على المناضلين، حملات تكاثرت فيما بعد. و أتهم كل المناضلين السياسيين والنقابيين المغاربة المعتقلين «بالتآمر والمس بسلامة أمن الدولة الداخلي والخارجي». وتعرض أغلب النقابيين والعمال المقبوض عليهم بعد إغلاق « المصيدة» للضرب والتعذيب بشناعة، قبل تسليمهم لعدالة الباشوات والقياد السريعة أو للعدالة العسكرية.
وجرى طرد المناضلين الفرنسيين. غادروا في ثلاث جماعات متتالية أيام 12 و17 و30 ديسمبر 1952 . اعتقلوا دون قرار من العدالة، وغالبا ما اختطفوا من مكان عملهم أو بمدخل بيوتهم دون إخبار أسرهم. كان منهم محامية شابة، أرملة حرب، ُفصلت بقساوة عن أطفالها الثلاثة، ومعمر صغير، بيار بارون، معطوب حرب 14-18، مفاوض استسلام القائد الريفي عبد الكريم، وقائد جوقة الشرف، والمقاوم الذي ترأس جمعية قدماء المحاربين بأفريقيا الشمالية، وعضو أول جمعية استشارية، ثم نائب المغرب بأول جمعية تأسيسية بباريس.
اقتيدوا إلى مخافر الشرطة، وُجمعوا بمفوضية الشرطة المركزية حيث تمكنوا، في دورة ممر أو من فتحة باب، من رؤية رفاقهم المغاربة عراة، مضرجين بالدماء، متورمي الوجه، ثم وضعوا في عربات مساجين، مقيدي الأيدي كمجرمين مبتذلين، واقتيدوا إلى الرباط. و وضعوا،بعد عبور بمصلحة القياسة الاناسية ثم بثكنة للحرس المتنقل، في طائرات، و ُألقوا في شوارع باريس. كانت معاملات شائنة من أناس يبدو أنهم فقدوا حس الإنسانية والشرف.
عندما انكشفت حقيقة ظروف أحداث الدار البيضاء وطابعها، والتي انضافت إلى أحداث تونس، صعدت موجة استنكار كبيرة في فرنسا وفي الهيئات الدولية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.