أضحى صبحي صالح شخصا جديدا. يتأبط هذا الزعيم لجماعة الإخوان المسلمين في الإسكندرية بذلة المحاماة السوداء، ويغادر إحدى الجلسات بالمحكمة متوجها نحو موعده الانتخابي. يقول بحماسة لم تفارقه مذ كان ناشط معارضا لنظام حسني مبارك: أخيرا أشعر أنني مصري داخل بلدي». يسارع لكي لا يضيع منه موعده رغم أنه متأخر بحوالي ساعة من الزمن. يقول: «هل رأيتم بنايتي؟ أقطنها رفقة ثلاثة من الإخوان، لكن في عهد مبارك، كنا قد تعرضنا للطرد منها. والأسوأ من ذلك أننا ما كنا سنتحدث إليكم كما هو الأمر الآن.» بعد مرور تسعة أشهر على «ثورة النيل»، وبعد انقضاء أكثر من ثلاثين عاما من العمليات الانتخابية المزورة والفاسدة، يجد الإسلاميون، الذين شكلوا دوما الوحش المخيف للريس، أنفسهم أمام يومهم الأكبر. بلحيتهم الطويلة وبأثر السجود الموسوم على جباههم تراهم يقودون حملات انتخابية تبدو هي الأبرز. صورهم الدعائية تغطي واجهات المباني والمحلات التجارية وزجاج السيارات، حتى أنه ليخيل لك أنهم لا يتركون نقطة فراغ واحدة إلا واستغلوها. وأصبحت الصحف محاكمهم الجديدة وباحات المساجد مراكز تجمعاتهم. ظلال أذناب النظام القديم لم تختف كليا. عندما أطل صبحي صالح من نافذة مكتبه، وجد أمامه صورة لطارق طلعت مصطفى، وهو عضو سابق بالحزب الوطني الديمقراطي، حزب حسني مبارك. لم يجد هذا الأخير مكانا أفضل لتثبيت لوحاته الخاصة بالحملة الانتخابية إلا في الأعمدة المواجهة لهذه البناية. وحتى خلال الحديث في الهاتف، تسمع أصواتا ناتجة عن تنصت أجهزة الاستخبارات. أما بالنسبة للعسكريين، الذين واجهوا معارضة قوية في الأسابيع الأخيرة، فإنهم ما يزالون متمسكين بالسلطة، لكن «الفرق الكبير مع الماضي، هو أنه أضحى بالإمكان انتقادهم بشكل علني دون التعرض للتوقيف.» إذا كان هذا الشخص المرفوض سابقا من طرف النظام يثق في نفسه كثيرا، فذلك راجع لأنه يشعر بتحقيق تقدم على أرض الميدان. إذ تعتبر مدينة الإسكندرية المليونية المطلة على البحر الأبيض المتوسط مهد جماعة الإخوان المسلمين، التي تم إنشاؤها سنة 1928 على يد حسن البنا، بخطاب ينص على: جعل الإسلام بديلا للسلطة المركزية، التي تعتبر حاملة القيم الغربية. وتعرضت الجماعة للاضطهاد طيلة عدة عقود، وظلت مستهدفة من طرف عناصر الشرطة السرية، ومع ذلك، فقد تمكن الإخوان من إحداث سلسلة من المستشفيات والجمعيات الخيرية والثقافية والاجتماعية... أنشطة متعدد ومغرية كفيلة بتعزيز مكانة الجماعية في بلد يعيش فقرا تعليميا وفقرا معيشيا، بحيث يعيش أكثر من 40 بالمائة من الساكنة تحت عتبة الفقر. لكن الخطاب الذي يرفعه الجناح الحزبي للجماعة، والمتمثل في حزب العدالة والحرية والذي تم تأسيسه يونيو الماضي، يبدو بسيطا ومطمئنا: المساواة الاجتماعية، الإصلاحات الاقتصادية والأمن. وهو ما يفسر النتائج التي خرجت بها استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن الحزب سيكون هو الفائز في الانتخابات التشريعية، لكن هذا الأمر هو نفسه الذي يشكل مصدر قلق للشباب الثائر الذي أسقط نظام مبارك، والذي يخشى أن يهيمن الخيار الإسلامي على البلد. يقول محمد (22 سنة)، يرتيد سروال جينز ويضع قبعة على رأسه: «نخشى أن يختطف منا رجال الدين ثورتنا». يتذكر هذا الشاب الإسكندراني أن أول صيحة غضب ضد النظام انطلقت من حلق شاب من مدينته دون أن يكون له انتماء ديني ولا سياسي: «اسمه خالد سعيد، وكان عمره 28 سنة. وفي يونيو 2010، تجرأ على تحدي السلطة من خلال نشر شريط فيديو على الإنترنت، يظهر فيه رجلا شرطة يقتسمان المخدرات». والبقية معروفة، لقد فقد الشاب حياته على يد رجلي الشرطة نفسيهما. وبعد بضعة أيام، انتشر خبر مقتله في الإنترنت، مما خلف موجة غضب في كامل البلد، ليصبح بذلك رمزا للظلم الذي تعرض له الشعب طيلة عقود. وبدأ تنظيم المظاهرات، انطلاقا من الإسكندرية، ثم في القاهرة ليصل إلى ما انتهت إليه الأمور شهر يناير 2011 من خلال التجمع الكبير في ميدان التحرير، وبالتالي إسقاط نظام مبارك يوم 11 فبراير. يقول محمد بنبرة غاضبة: «لم ينضم الإسلاميون إلى الثورة إلا في وقت لاحق، إنهم انتهازيون.» وتتخوف الساكنة المسيحية بالإسكندرية من هذا المعطى وترى نفسها مهددة في أي وقت بالنفي. تقول ماري القبطية: «عندما تولى رجال الدين السلطة في إيران عقب ثورة 1979، اضطر المسيحيون في إيران لارتداء الحجاب. نحن لا نريد جمهورية إسلامية في مصر.» يقول صبحي صالح، المحامي الذي لا يتردد في مصافة النساء ويرتدي بذلة عصرية وربطة عنق، ساعيا لطمأنة معارضيه الليبراليين من خلال ضم مسيحيين إلى قائمته: «أعرف جيدا أنني لا أتوفر إلا على أصدقاء هنا. لكن من المهم احترام الحريات الفردية.» ويعرف محمد صبحي أيضا أن خصومه كثر، إذ لاحظ في الأيام الأخيرة أن ملصقاته الانتخابية تعرضت للتمزيق في العديد من الأحياء ليتم تعويضه بملصقات حزب النور، وهو الجناح السياسي لحركة السلفيين، الذين يتعاملون مع الإسلام بشكل أكثر تشددا. يقول الباحث أحمد زغلول، الذي ألف كتابا حول الحركة السلفية في مصر: «لقد فقد الليبراليون منذ مدة طويلة وجودا وازنا في الإسكندرية، كما أنهم يفتقدون اليوم للوسائل الكافية للقيام بحملة انتخابية قوية. المعركة الانتخابية الحقيقية هنا قائمة بين الإخوان المسلمين والسلفيين، الذين تم الترخيص لهم للمرة الأولى للمشاركة في الانتخابات.» ويرى المتابعون أن السلفيين قاموا منذ الصيف الماضي بشراء أصوات الفقراء من خلال إغراقهم بالمواد الغذائية كالأرز والخبز والسكر بأسعار جد مخفضة، وذلك في ظل افتقادهم لبرنامج اقتصادي. كما أن عيد الأضحى كان فرصة للرفق من تلك المساعدات خصوصا داخل المساجد. يقول البروفيسور سعيد صادق، الذي يدرس علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية في القاهرة: «ألوئك الأشخاص يتوفرون على إمكانات ضخمة، هذا أمر لا يمكن إنكاره. والعربية السعودية هي أكبر محتضن لهم.» ويضيف بالقول: «الجيش يدرك جيدا أنه موضع انتقاد، لكنه يرفض التخلي عن مكانته، وبفسحه المجال أمام السلفيين، فإنه يسعى لإخافة النساء والطبقة المتوسطة والمسيحيين، آملا أن يساعده السلفيون على المحافظة على السيطرة على البلد.» يقول مرشح مستقل يرفض الكشف عن اسمه: «إذا فاز السلفيون في الانتخابات، فإنهم لن يقدموا هدية لأي طرف.» وهذا التصور هو ما يخيف بعض الإخوان المسلمين الذين يتطلعون لتكييف القيم الدينية مع متطلبات الحداثة في القرن الواحد والعشرين، وهو ما يؤكد صبحي صالح: «إذا ما قررت بناتي يوما ما ارتداء النقاب كاختيار شخصي، فإنني لن أعترض أبدا. لكن لا يمكن لأي أحد أن يفرض عليهن ذلك بالقوة.» عن «لوفيغارو»