مع انطلاق التحضير لمسلسل الاستحقاقات التي ستعرفها بلادنا انطلاقا من 25 نونبر 2011، طفا على السطح بقوة الحديث عن تجديد النخب ، الذي أصبح مطلبا ملحا، رسميا وشعبيا. ويجد هذا المطلب مشروعيته في كون الاستحقاقات المقبلة ستتم في ظل دستور جديد صادق عليه المغاربة بكثافة اعتبارا لمضمونه المتقدم ولآفاق التغيير التي يعد بها، مما يجعل معركة تفعيله تتطلب ليس فقط القطع مع أساليب الماضي التي أساءت لتجربتنا الديمقراطية، بل وأيضا فتح الباب أمام نخب جديدة قادرة على إحداث التغيير المنشود من خلال مؤسسات قوية وفعالة وذات مصداقية، توفر للدولة والمجتمع عوامل استقرارهما. فإلى أي حد يمكن اعتبار هذا المطلب قابلا للتحقق في الظرف السياسي الحالي؟ لمقاربة هذا الموضوع، سوف لن نعتمد على أدوات التحليل التي تقدمها العلوم المختلفة التي تتناول "تيمة" النخبة (علم الاجتماع السياسي، علم اجتماع النخب، العلوم السياسية، السوسيولوجيا...)، بل سنقتصر على قراءة شخصية للواقع الحالي من خلال ما نسمعه وما نراه وما نعيشه داخل مجتمعنا وما كوناه من تصور على تنظيماتنا السياسية والجمعوية. وبمعنى آخر، فإن مقاربتنا، هي مقاربة "انطباعية"، وليست مقاربة علمية ( لأننا، بكل بساطة، لا نمتلك أدواتها الضرورية)، مما يعفيني من الغوص في ما أنجز من دراسات في الموضوع ومن الإحالة عليها. نسجل، في البداية، أن الحديث عن تجديد النخب قد أصبح، مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المقبلة، طاغيا على الساحة الإعلامية والسياسية، بحيث لا يكاد يخلو، من الدعوة إلى تجديد النخب، برنامج تلفزيوني أو إذاعي يرتبط من قريب أو من بعيد باستحقاقات 25 نونبر المقبل؛ كما أنك لن تجد "ريبورتاجا" واحدا يتعلق بالانتخابات المقبلة لا يدعو إلى ضرورة فسح المجال أمام الكفاءات الجديدة. ولو قدر لك أن تحضر اجتماعات الأحزاب السياسية التي لها حضور في الساحة وتتوفر على كفاءات متنوعة ومختلفة، لوجدت أن مطلب التداول أصبح طاغيا في النقاشات وموجها لها؛ أما لو اهتممت بما يروج في المقاهي وفي اللقاءات الخاصة، فإنك ستجد أن الجميع يعزف على نفس الوتر، لدرجة يمكن معها القول إن الحديث عن تجديد النخب أصبح مبتذلا وفاقدا للجدية المطلوبة في الطرح وفي التناول، ذلك أن البعض يتحدث عن تجديد النخب وكأن الأمر يتعلق بتغيير ربطات العنق أو معاطف أو أقمصة أو غيرها، بحيث يكفي البحث في الدولاب عما نريده، فنقوم بالتجديد المطلوب ليكون المظهر لائقا. والحال أن الأمر لا يتعلق بقطاع غيار، بل بفئة من الناس يفترض فيهم أنهم أعطوا الدليل، في الهيئات التي ينتمون إليها، بأنهم يتوفرون على مؤهلات وقدرات تجعلهم قادرين على الاضطلاع بالمهام المنوطة بهم. فالنخبة، من بين ما تعنيه، الأفضلية والأحقية والتميز. بمعنى أن النخبة هي المجموعة المكونة من أفراد يعتبرون، في محيطهم وفي المجموعة التي ينتمون إليها، الأفضل والأحق بالاختيار والمتميزين بخصالهم وكفاءتهم؛ وهو ما يعبر عنه في الثقافة العربية الإسلامية بالخاصة التي تتميز عن العامة بمكانتها العلمية والاجتماعية. لذا، يمكن أن نتحدث عن النخب الفكرية وعن النخب السياسية وعن النخب الدينية وعن النخب الرياضية وعن النخب الإدارية، الخ. ما يهمنا في هذا المقام هي النخب السياسة، وبمعنى أدق، النخب الحزبية، والتي يمكن أن نقسمها إلى نخب وطنية ونخب محلية، سواء تعلق الأمر بالنخب التي يوكل إليها تدبير شؤون الحزب، إما وطنيا أو جهويا أو محليا، أو تلك التي تمثله في المؤسسات (البرلمان، الحكومة، الجماعات الترابية) والواجهات المختلفة (الهيئات النقابة، منظمات المجتمع المدني، الخ). فالنخبة هي إذن فئة من الأشخاص أعطوا الدليل على علو كعبهم في التواصل وفي الإقناع وفي التدبير اليومي للهيئة التي ينتمون إليها. بالطبع، هم لم يصلوا إلى هذه المرتبة إلا بعد انخراطهم الفعلي في الحياة الحزبية، مما أهلهم إلى الاضطلاع، باسم الحزب، بمهام المسئولية في المنظمات الموازية أو في هيئات المجتمع المدني أو المؤسسات المنتخبة، أو غيرها؛ وبفعل هذا الانخراط في الحياة السياسية والعامة ، يصبح لهم رصيد معنوي حقيقي يؤهلهم للقيادة، إن محليا أو وطنيا. وبمعنى آخر، فإن النخب تتكون في مدرسة الحياة التي تجعل من الممارسة الوسيلة الفعالة لتحقيق الذات ولتنزيل الأفكار المتشبع بها على أرض الواقع. ويطلق على خريجي هذه "المدرسة" اسم الأطر الحزبية؛ ويجب الإقرار بأن هذا التصنيف لا يعترف بالتباين في المستويات التعليمية في تحمل المسئولية، بقدر ما يعترف بالحضور النضالي والتنظيمي. فقد تجد من مستواه التعليمي متوسط، غير أن تكوينه السياسي يعطيه الأحقية والأسبقية عمن يتوفر على أعلى الشهادات الجامعية. لكن، لا بد أن نميز، في هذا المقام، بين النخب الحقيقية والنخب المزيفة. فالنخب الحقيقية هي تلك التي لها وجود فعلي بالساحة؛ فهي غنية بتجربتها النضالية التي تكتسبها من حضورها الفعال في المحطات المختلفة ومن وقوفها إلى جانب المستضعف والمقهور. لكن، هناك نخب تصنع صنعا من قبل الجهات التي تريد أن تتحكم في الوضع حفاظا على مصالحها الخاصة. لذا، فهي تغريها بالامتيازات وتغدق عليها العطايا لتلعب الدور الذي من أجلها وجدت. وهذا ينطبق تماما على ما يعرف، في الأدبيات اليسارية، بأحزاب الإدارة وأحزاب "الكوكت منوت"، والمقصود بها تلك التي خلقتها وزارة الداخلية لمواجهة الأحزاب الديمقراطية والتقدمية. ونعلم أن هذه الأخيرة لم تسلم من تدخل وزارة الداخلية بشتى الوسائل ليكون لها عين داخلها، بحيث عملت على اختراقها في مستويات مختلفة؛ وهكذا كانت، خلال سنوات الجمر والرصاص، تزرع عناصرها داخل التنظيمات اليسارية، بحيث كان من بينها من يصل حتى إلى القيادة، إما محليا أو وطنيا. وبعد انطلاق التجربة الديمقراطية في أواسط السبعينيات، لجأت الداخلية، بالإضافة إلى فبركة الأحزاب الإدارية، إلى نوع آخر من الاختراق عن طريق التحكم في نتائج الانتخابات، بحيث كانت تحارب المناضلين الحقيقيين داخل الأحزاب الوطنية والتقدمية بالتزوير ضدهم، بينما كانت تزور النتائج، لفائدة هذه الأحزاب، بإعلان نجاح مرشحين تضمن التحكم فيهم، إما لكونهم من ضعاف النفوس أو من الذين لا يتوفرون على ثقافة سياسية تحميهم من مؤامرات الداخلية، مما كان يسمح لها، ليس فقط بتوجيه عمل المؤسسات، بل وأيضا بزرع البلبلة والتشكيك في داخل الأحزاب المعنية. وهذه الظاهرة ستستفحل بعد أن أصبح التسابق، لدى الأحزاب، حتى اليسارية منها، على المراتب الأولى في الترشيح وفي الأصوات وفي المقاعد، متحكما في العملية كلها، مما جعل هذه الأحزاب، من جهة، تنفتح على الأعيان لضمان الحصول على المقعد، ومن جهة أخرى، تقبل بمرشحين غير مؤهلين خصوصا في الدوائر التي لا تتوفر فيها على أطر حزبية، الشيء الذي ساهم في تكوين نخب محلية، وأحيانا حتى وطنية، ضعيفة ومهجنة. إلى جانب النخب الحزبية، هناك صنف آخر يمكن أن نطلق عليه صفة "نخب السلطة". وهذا النوع من النخبة يتكون بالأساس، سواء على الصعيد الوطني أو على الصعيد المحلي، من التقنوقراط ومن الأعيان وأصحاب المال الذين تعتمد عليهم السلطة، إضافة إلى النخبة الإدارية، في تصريف مخططاتها وفي مواجهة النخبة السياسية التي لا تشاطرها الرأي ولا تخضع لتوجيهاتها. كما أن أصنافا من النخب الحزبية، كالتي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة، يمكن اعتبارها في عداد "نخب السلطة" المندسة داخل الأحزاب الديمقراطية. ومن خلال ما نسمعه هنا وهناك، يبدو لي أن بعض الناس، حين يطالبون بتجديد النخب، يقصدون بذلك القيام بتعويض شخص (أو أشخاص) بشخص (أو أشخاص) آخر(ين) ليس إلا، خصوصا وأنهم، حين يتحدثون عن ضرورة تقديم وجوه جديدة في الانتخابات المقبلة، لا يقدمون معايير ولا يضعون مقاييس لهذه الجدة؛ كما أن البعض الآخر (وخاصة من داخل الأحزاب) لا يرى في الدعوة إلى التداول، رغم ما لهذا المطلب من مشروعية، إلا المطالبة بالاستفادة بدوره من المنافع التي استفاد منها غيره ؛ فهو لا يطرح على نفسه السؤال حول مؤهلاته وقدراته وحول ما إن كان مقبولا أو غير مقبول، سواء داخل تنظيمه أو خارجه؛ ولا يتساءل إن كان يتوفر على شروط الكفاءة والفعالية للقيام بالمهمة كما يجب، بل هو يطرح المسألة من منطلق "أمولا نوبة".لذا، فهو لا يتورع في سلك كل الطرق للوصول إلى هدفه؛ وإذا ما تبين له عدم نجاحه في خطته لوجود من هو أفضل منه بين منافسيه، فإنه يلجأ إلى خلط الأوراق وإلى التدليس لإفساد قواعد اللعبة، لأن شعاره "أنا وبعدي الطوفان"، أو كما قال الشاعر: "إذا مت ظمآن فلا نزل القطر" . و بما أن الأحزاب السياسية هي جزء من المجتمع الذي نشأت فيه وتطورت في أحضانه، فهي، بقوة الأشياء، مرآة عاكسة له، وبالتالي، فإنها تعاني مما يعانيه من أمراض ومن مشكلات؛ ذلك، أن التحولات المجتمعية تجد صداها داخل هذه الأحزاب؛ فالمشاكل الكبرى التي تعيشها مثلا أحزاب اليسار حاليا ترتبط بالتحول الكبير الذي طرأ على القيم، بحيث أصبحت الانتهازية والأنانية والفردانية وغيرها، عملة رائجة، مما يجعل من الصراع (أو على الأقل التنافس) بين نخبها على المسئوليات يكتسي أحيانا طابعا دراميا (بينما في وقت ما كان الناس يزهدون في المسئولية، إما لتبعاتها وإما لعدم الرغبة فيها). ومن المتغيرات التي لحقت ببعض الأحزاب، ولا يهمنا، هنا، سوى اليساري منها، سيادة البيروقراطية في التعامل بين القيادة والقاعدة، وسيادة الديمقراطية الشكلية في تكوين الأجهزة بعد تبني نمط الاقتراع السري (الذي ليس له من السرية، في بعض الأحيان، إلا الاسم) بدل لجنة الترشيحات (التي كانت تدقق في تفاصيل سيرة المرشح قبل أن تمنحه الثقة في تحمل المسئولية)، بحيث أصبح البعض، بهدف تحمل مسئولية تنظيمية أو تمثيلية ما، يلجأ إلى عملية إنزال "لمناضلين" مهمتهم تنحصر في التصويت لا غير، لدرجة يمكن معها، أحيانا، مقارنة ذلك بما كانت تقوم به الدولة في شخص وزارة الداخلية على عهد إدريس البصري، في الاستحقاقات التي عرفتها بلادنا. يجب الاعتراف بأن الأحزاب، في أغلبها، لم تساير التحولات التي طرأت على البنيات المجتمعية ولم تبذل مجهودا كبيرا لتحصين نفسها من الانزلاقات التنظيمية ومن الاختراقات السلطوية، لدرجة أن بعضها، أو على الأقل جزء منها، أصبح يتماها مع توجهات السلطة وسياسة المخزن. كما أنها لم تقم بتأهيل نفسها قبل مواجهة الاستحقاقات المقبلة، بالرغم من أن البلاد تدخل منعطفا حاسما يتمثل في معركة تفعيل بنود الدستور الجديد، والتي من شأنها، إما أن تدفع بنا إلى مصاف الدول التي تسير في طريق تحقيق الديمقراطية الحقيقية وإما أن تعود بنا إلى مرحلة الاحتقان السياسي المفتوحة على المجهول. ومن الأسباب التي تعوق ليس فقط عملية التأهيل الذاتي للأحزاب، بل وأيضا تحقيق مطلب تجديد النخب المطلوب في هذه المرحلة، عدم قيام أغلب الأحزاب بعقد مؤتمراتها الوطنية والجهوية والإقليمية بسبب التسرع في الدخول في مرحلة تنزيل أحكام الدستور الجديد بتنظيم انتخابات سابقة لأوانها. ويجب الاعتراف بأن مشاكل الأحزاب، حسب ما تعكسه الصحافة، قد تفاقمت، وإن بشكل يختلف من حزب إلى حزب، بسبب الصراع على المواقع. وبما أنه ليس هناك، فيما نعتقد، حزب سياسي يتوفر على قانون انتخابي خاص به ينظم عملية التصويت ويحدد الجهات التي يمكن أن تقدم عندها الطعون، كما يرتب الجزاءات، الخ، فإنه يمكن للبعض أن يسطو على أي جهاز حزبي لقضاء مآرب شخصية (كالترشح للانتخابات أو الوصول إلى المسئولية الوطنية في الحزب، الخ). وقد يقوم بهذه العملية أناس فقدوا كل شرعية، باستثناء شرعية الأقدمية، لكن تمسكهم "بالسلطة" بشكل مرضي يجعلهم يتوهمون أن مصلحة الحزب تفرض وجودهم بأجهزته، لدرجة أنهم يرفضون أن يتركوا المسئولية لغيرهم. بالمقابل، هناك من ينادي بالتجديد، لكن بمعنى "كحز اعطيني بلاصتك"، أي على طريقة "أمولا نوبة"، دون الاكتراث بمسألة المؤهلات والقدرات. ويظهر هذا بشكل جلي في بعض الترشيحات (لدى الأحزاب التي تعتمد التصويت في اختيار مرشحيها) التي يفتقد أصحابها إلى كل مقومات المرشح المناسب لحمل صفة ممثل الأمة، وكذا في الصراعات التي انفجرت داخل جل الأحزاب، يمينها ويسارها، بسبب التزكية للانتخابات التشريعية المقبلة، سواء تعلق الأمر باللوائح المحلية أو اللوائح الوطنية. من خلال ما تقدم، يمكن القول بأن مسألة تجديد النخب لا يكفي فيها وجود الرغبة في تحقيقها ولا التعبير عن الإرادة في الانخراط فيها، ذلك لأنها عملية تحكمها عوامل متعددة ومتنوعة. فما لم تنتف تلك العوامل، ومن بينها العقلية السائدة داخل الدولة وداخل الأحزاب، فلن يحدث تغيير ذو شأن يذكر في الحياة السياسية. لقد سبق أن أبرزنا، في قراءتنا للتقطيع الانتخابي ("الاتحاد الاشتراكي"، 26 أكتوبر 2011)، كيف أن هذا الأخير يلعب دورا حاسما في قطع الطريق أمام المناضل (أو المناضلة)، شابا كان أو كهلا، للوصول إلى قبة البرلمان، وذلك بسبب عدم قدرته على منافسة "مول الشكارة". فلن يكفي إذن أن تعبر الدولة، ولو من أعلى سلطة فيها، عن الرغبة في تجديد النخب ليتحقق لها ذلك؛ ولن يكفي الأحزاب أن تتخذ قرارا بجعل مبدأ التداول ضروريا في كل استحقاق تنظيمي أو سياسي، ليتم احترامه على جميع المستويات؛ ذلك أن تجديد النخب لن يتم لا بقرار إداري ولا بقرار سياسي أو تنظيمي، لأن الأمر، هنا، لا يتعلق بمسألة تقنية. فالنخب ليست قطاع غيار نبحث عنها في مخزن الدولة أو الأحزاب، بعد أن نلقي بكل من انتهت صلاحيته، في ركام المتلاشيات. إن النخب ستتجدد إذا ما انتفت أسباب العزوف عن صناديق الاقتراع؛ وهي أسباب تساءل الدولة والأحزاب وكل المجتمع.