أود، في البداية، أن أستسمح أهل الاختصاص من باحثين في العلوم السياسية والقانونية ومن متخصصين وخبراء في الأنظمة الانتخابية، في «التطاول» على مجال اختصاصهم والخوض في موضوع التقطيع الانتخابي. فقراءتي للتقطيع الانتخابي المعتمد برسم الانتخابات التشريعية ل 25 نونبر 2011، لن تخلو من الهفوات ولن تسلم، في بعض جوانبها، من السطحية. لكني أعتقد أنه من حقي، بل ومن واجبي أيضا، كمتتبع وكفاعل سياسي وكناخب، أن أدلو بدلوي في هذا الموضوع لما له من أهمية قصوى في كل استحقاق انتخابي، خصوصا وأننا نتهيأ لأول انتخابات يشهدها المغرب في ظل الدستور الجديد الذي صادق عليه المغاربة بكثافة، أملا في التغيير، يوم فاتح يوليو 2001. والهدف من هذه القراءة السريعة، هو محاولة فهم الخلفيات المتحكمة في التقطيع، خاصة وأنه ليس عملية تقنية محضة، كما يعتقد البعض، بل هو شأن سياسي بامتياز. ومن هذا المنطلق، نشير إلى أن التقطيع الانتخابي يرتبط ارتباطا وثيقا بنمط الاقتراع. وبما أن المغرب قد تبنى نمط الاقتراع باللائحة منذ سنة 2002، في أول انتخابات تنظمها حكومة التناوب التوافقي بقيادة عبد الرحمان اليوسفي، فإن اهتمامنا سينصب بالأساس على هذا النمط، في ارتباط مع توسيع الدائرة الانتخابية أو تقليصها. فبإلقاء نظرة سريعة على التقطيع الانتخابي الجديد (نقول الجديد تجاوزا، لأن نسبة الجدة فيه ضئيلة، كما سنرى)، نجد أن عدد الدوائر المحلية هو89 دائرة، وعدد مقاعد كل واحدة منها يتراوح بين ستة مقاعد كحد أعلى ومقعدين اثنين كحد أدنى. وهذه النظرة السريعة تبين لنا أن الدوائر التي بها ستة (6) مقاعد، لا يتجاوز عددها ثلاثة (3)، والتي بها خمسة (5) مقاعد، ينحصر عددها في خمس (5) دوائر، وتلك التي بها أربعة (4) مقاعد، تحدد في اثنين وعشرين (22) دائرة، في حين أن التي بها ثلاثة (3) مقاعد، يصل عددها إلى ثمانية وثلاثين (38) دائرة والتي بها مقعدان (2)، عددها واحد وعشرون (21) دائرة. عملية حسابية بسيطة تعطينا أن عدد الدوائر التي بها أربعة مقاعد فما فوق هو 30 دائرة فقط، بينما الدوائر التي بها أقل من أربعة مقاعد، عددها يصل إلى ضعف هذا العدد، أي 59 دائرة. وقد تم الإعلان عن هذا التقطيع الجديد بعد سلسلة من المفاوضات والمشاورات بين وزارة الداخلية والأحزاب السياسية. وقبل تقديم قراءتنا لهذه الأرقام، نلقي نظرة سريعة على التقطيع خلال أول استحقاق انتخابي على أساس نمط الاقتراع باللائحة، حتى يتسنى لنا تحديد مدى نسبة الجدة في التقطيع الجديد. التقطيع المعتمد في 2002، تتراوح مقاعد دوائره بين خمسة (5) مقاعد ومقعدين(2)، تتوزع على الشكل التالي: الدوائر ذات خمس مقاعد، عددها ستة (6) والتي بها أربعة مقاعد، عددها خمسة وعشرون(25)، بينما الدوائر ذات ثلاثة مقاعد، يصل عددها إلى خمس وأربعين(45) دائرة والتي بها مقعدان، عددها خمسة عشر(15)؛ بمعنى أن الدوائر المتكونة من خمس وأربع مقاعد، لا يتعدى عددها 31 دائرة، بينما الأخرى تمثل الضعف، أي 60 دائرة. من خلال مقارنة بسيطة بين التقطيع في 2002 والتقطيع في 2011، يتبين أن التغيير الذي طرأ على التقطيع الجديد طفيف جدا وأن النظرة (أو لنقل الخلفية) السياسية المتحكمة فيه هي نفسها التي تحكمت في تقطيع 2002. فالدوائر الصغرى تمثل ضعف الدوائر التي يمكن اعتبارها كبيرة نسبيا، أي تلك التي بها أربعة مقاعد فما فوق. وهذا ما يفسر وجود كثرة الأعيان وأصحاب المال بالبرلمان المغربي، لدرجة أن بعض الفرق البرلمانية تشكو من غياب الأطر المتخصصة في المجالات القانونية والاقتصادية وغيرها. فهل سيعرف البرلمان المقبل تحولا نوعيا في «ساكنته»؟ لا أريد أن أكون متشائما، لكن ما يوجد في الساحة الآن لا يبعث على الاطمئنان. نتذكر ما صاحب عملية التقطيع الانتخابي قبل انتخابات 2002 من مشاورات ومفاوضات عسيرة وشاقة، عملت بعض الأحزاب من خلالها، خاصة تلك التي خرجت من مطبخ الداخلية والتي تعتمد بالأساس على الأعيان وعلى المال وأصحاب النفوذ، كل ما في وسعها للضغط قصد تقليص عدد المقاعد بالدوائر لدرجة تم معها إفراغ نمط الاقتراع المعتمد من محتواه ومن الأهداف التي من أجلها اعتمد، حيث لم يبق له من النمط اللائحي إلا الاسم، بينما هو في واقع الأمر أحادي مقنع. لقد أبانت التجربة خلال الانتخابات التشريعية لسنتي 2002 و2007، عن معطيين أساسيين: فمن جهة، تركز التنافس أو الصراع داخل الأحزاب السياسية على وكيل اللائحة (مما خلق لها متاعب كثيرة، لم يسلم منها إلا أصحاب الدكاكين الانتخابية الذين يبيعون التزكيات لأصحاب المال، خصوصا المال المتسخ المكتسب من المخدرات وغيرها؛ وهذا ما يفسر وجود تجار المخدرات بالبرلمان الحالي، كما أكد ذلك الأخ عبد الهادي خيرات، عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، في أحد الحوارات التي أجرتها معه صحيفة مغربية)، لكون التقطيع ونمط الاقتراع المعتمدين لن يسمحا - مهما كانت قوة الحزب التنظيمية والسياسية - بالفوز بأكثر من مقعد، مما يجعل دور المرشحين الآخرين محصورا في الترشيح النضالي بالنسبة للأحزاب الديمقراطية، بينما الوكيل الذي اشترى التزكية، عليه أن يدفع مقابلا ماديا آخر «للكومبارس»؛ ولأنه، من جهة أخرى، يكون التلاعب والتأثير على نتائج التصويت أيسر في الدوائر الصغرى، فإن سماسرة الانتخابات يجدون سهولة في التحكم في العملية بأساليب متنوعة: شراء الأصوات والذمم، شراء بطائق التصويت (نتمنى أن لا يلجاوا في الاستحقاق المقبل، إلى حجز البطائق الوطنية...!؟) للتحكم في عدد المصوتين، وبالتالي في عدد الأصوات المطلوبة للفوز بالمقعد، وغير ذلك من أساليب التحايل. وبما أن للتقطيع الانتخابي دور حاسم في تحديد الخريطة السياسية، فيحق لنا أن ننظر إليه كعامل محدد لمدى استعداد الدولة والأحزاب للانخراط في الديمقراطية الفعلية والحقيقية، أي تلك التي تنبني على المشاركة وعلى الاختيار الواعي والحر القادر على التمييز بين الهيئات السياسية التي تحمل مشروعا مجتمعيا وبين تلك التي تسترزق من العمل السياسي. إن حكومة التناوب التوافقي برئاسة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، لما بدأت في تحضير أول انتخاب في عهدها سنة 2002، تبنت نمط الاقتراع باللائحة، كخطوة لتكريس مسلسل التغيير الذي تم تدشينه سنة 1998؛ ومما لا شك فيه أن الهدف الأساسي من هذا الاختيار، كان هو عقلنة المشهد السياسي وتخليق الحياة السياسية، لكون نمط الاقتراع باللائحة، من شأنه، مبدئيا، أن يقطع الطريق أمام سماسرة الانتخابات ويجعل المواطن يختار، ليس بين الأشخاص، بل بين البرامج وبين الأحزاب التي تحمل هذه البرامج. لكن، وللأسف الشديد، تم الالتفاف على المبدأ وإفراغه من محتواه، حتى أصبحنا اليوم أمام تقطيع انتخابي، أقرب إلى الأحادي منه إلى اللائحي. وبالرغم من كون الانتخابات المقبلة، يتم تهييئها في مناخ يطبعه الحراك السياسي والاجتماعي الذي تقوده حركة 20 فبراير الشبابية، وبالرغم من كونها ستتم في ظل دستور جديد، المفروض في تنزيله أن يقفز ببلدنا إلى مرتبة متقدمة توفر له الاحترام بين البلدان الديمقراطية وتضمن وجود مؤسسات ذات مصداقية وفعالية، تكفل تحصين الدولة والمجتمع، فإن التقطيع الحالي جاء متجاوبا مع أساليب الماضي. فنحن لا نفهم، مثلا، أن لا تتم الاستجابة إلى مطلب توسيع الدوائر (كما طالبت بذلك بعض الأحزاب، من بينها الاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية)، بشكل يصعب المهمة على المفسدين ويجعل من التصويت موقفا سياسيا بالأساس، أي أن المواطن، عند الإدلاء بصوته، فإنه يختار البرنامج الذي ينسجم مع تطلعاته والهيئة السياسية التي ستعمل على تطبيقه، بدل التصويت على الأشخاص، الذي هو محكوم، إما بالانتماء القبلي أو العرقي أو الديني أو محكوم بالعلاقة الزبونية (الرشوة الانتخابية). فإذا أخذنا مدينة الدارالبيضاء كمثال، سنجد أنها مقسمة إلى سبع دوائر، وكل دائرة لا يزيد عدد مقاعدها عن ثلاثة؛ مما يعني أن التصويت فيها لن يكون ذا طبيعة سياسية. ونفس الشيء بالنسبة لمراكش، التي أصبحت مراكش 1 ومراكش 2 ومراكش3، بثلاثة مقاعد لكل دائرة. هذه الملاحظة يمكن أن تنطبق أيضا على مدن فاس والرباط وطنجة، وغيرها. فهل، بعد هذا، نلوم المواطن الذي، إن سألته عما ينتظره من البرلماني، يجيبك بأشياء من صميم اختصاصات المستشار الجماعي؟ إن ما نخشاه هو أن تبقى دار لقمان على حالها، فيعود إلى البرلمان أمثال «قوبة» الذين يملكون المال ولا يفقهون شيئا في السياسة ، إلا ما تعلق منها بالفساد والإفساد، فتكون الخيبة كبيرة والصدمة قوية وردة الفعل ربما عنيفة، لاسيما وأن الدولة تتبنى خطابا مزوجا يزيد الوضع غموضا والتباسا. ففي الوقت الذي تدعي فيه حاجتها إلى نخب جديدة، تلجأ إلى تقطيع انتخابي لا يخدم إلا الأعيان. إذ، في ظل التقطيع الحالي، يستحيل على المناضل (أو المناضلة)، شابا كان أو كهلا، أن ينافس «مول الشكارة». وبعبارة أخرى، فإن التناقض بين الخطاب والممارسة، يجعل الغموض سيد الموقف. فمن جهة، تخاطب الدولة، على أعلى مستوى، الأحزاب السياسية وتطالبها بتجديد النخب؛ ومن جهة، أخرى، تبقي على تقطيع انتخابي وضع لصالح الأعيان. فهل الدولة ضعيفة إلى هذا الحد أمام هؤلاء، أم أن الأمر يتعلق بتبادل الأدوار والمصالح...؟ نعرف أن هذه الأخيرة وظفت، في السابق، الأعيان لمواجهة المد التقدمي والديمقراطي؛ لكن، هل السياق الحالي لا زال يسمح بالتساهل مع هذه الفئة التي لا تعرف من السياسة إلا المصلحة الخاصة ومن وسائل تحقيقها إلا الفساد والإفساد؟... صحيح أن الدولة، من خلال مؤسساتها، هيأت قوانين صارمة وأعلنت عن نيتها في المراقبة الجدية؛ لكن، كما يقول المثل، «لي عضه الحنش، من الحبل إيخاف»، خصوصا وأن المفسدين يتكيفون مع المستجدات ويبتكرون أساليب جديدة، أقلها، في المحطة القادمة، وفي تحايل مفضوح ومكشوف، فتح مقرات للدعاية في كل ركن من أركان الدائرة وتشغيل عدد من الشباب بمقابل مادي مغر، ليس فقط للقيام بالدعاية، بل ولمهام أخرى، قد يكون من بينها إشاعة بعض الأكاذيب حول المنافسين، ثم الترهيب أو الترغيب لثني البعض عن المشاركة في التصويت، خاصة أولائك الناخبين الذين لا يضمن المرشح الفاسد الحصول على أصواتهم، مما يسهل التحكم في النتائج وضمان الفوز بالمقعد. بالطبع، ستنفق على هذه العملية أموال طائلة، ما دام الأهم هو الحصول على المقعد. لقد سبق أن أشرنا، في مقال منشور بجريدة «الاتحاد الاشتراكي» يوم الأربعاء 19 أكتوبر الحالي، تناولنا فيه أسباب العزوف عن صناديق الاقتراع، إلى أن التسخينات السياسية بمدينة مكناس (التي ينوي الترشح بها قائد الثمانية)، والتي تمت حول مائدة الغذاء في منزل أحد رموز الفساد الانتخابي بالعاصمة الإسماعيلية، الممنوع من الترشح منذ سنة 2007، لا تبعث على التفاؤل. وإذا أضفنا إلى ذلك ما يتم تداوله في الشارع المكناسي حول الميزانية الضخمة التي وضعت رهن إشارة «رئيس الحكومة الموعود؟»(حسب بعض التحاليل الصحفية) ووصيفه الشاب الذي حاول، من خلال أحد المنابر الإعلامية، تبييض «الرصيد الانتخابي الفاسد» الذي استلمه من والده، وذلك بتسويق عذريته السياسية ونظافة يده المزعومة، فإنه يلزمنا كثير من التفاؤل كي نقنع أنفسنا بأن الطبقة السياسية قد استوعبت الدرس مما يجري حولنا؛ ويلزمنا، أيضا، كثير من التسامح كي نثق بأن الجميع قد فهم أن الخطاب الرسمي الداعي إلى النزاهة والشفافية وتخليق الحياة العامة، لم يعد يقدم للاستهلاك، كما كان الأمر في السابق، بل من أجل تجنيب بلادنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وذلك بالاعتماد على الديمقراطية الحقيقة المنتجة لمؤسسات قوية وفعالة، القمينة بتحصين البلاد ضد كل مكروه. كما أننا نحتاج إلى أدلة واضحة تقنعنا بأن الدولة جادة، وهي الساهرة على تطبيق القانون والمتوفرة على ما يكفي من الوسائل المادية والبشرية لضبط الغش ومحاربته، في توفير كل شروط النزاهة والشفافية في الانتخابات المقبلة. فرجاء ، لا تغتالوا الأمل. إن الوضع الحالي يقتضي من الدولة، التي رعت وشجعت الفساد السياسي خلال عقود، أن تفهم بأن الوقت قد حان لإسقاط الفساد والقطع مع كل مظاهر الاستبداد، ليس استجابة للمطلب الرئيسي لحركة 20 فبراير فقط، بل وأيضا لحماية نفسها من عبث العابثين ومن ردة فعل اليائسين. لم يكن هذا التقديم اعتباطيا، بل كان متعمدا، لكي نكرر من الحمد والشكر كمغاربة لأن ربيعنا كان مختلفا،و لم يكن ذلك قدرا او هبة من السماء، بل لأن هذا البلد الآمن اختار منذ عقود نهج الحرية والتعددية والديموقراطية، ويتوفر منذ الاستعمار الى الان، على احزاب وطنية تقدمية ويسارية، استطاعت بفعل التوافق وحل الوسط التاريخي مع مؤسسة ملكية ذكية ومنفتحة منذ 1998، ان تضع البلاد على السكة الصحيحة وبالتايل مباشرة اصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية مهمة، بل فتح ملف الماضي بكل جرأة و نجاعة وحكمة للتوجه نحو المستقبل. نفس التوجه استمر بعد بداية الربيع العربي, فبفعل تراكم خبرة ونضال وحكمة الاحزاب الوطنية واليسارية وتجاوب جلالة الملك، محمد السادس، جاءنا دستور المرحلة ودستور اللحظة التاريخية، وشكلنا فعلا النموذج في المنطقة - حتى لا نقول الاستثناء - وبالتالي تمكنا من عبور مرحلة المطبات السياسية بنجاح. لماذا كل هذا، السؤال بسيط لأن دور اليسار بمصداقيته وعمقه المجتمعي وتاريخه النضالي كان اساسيا في هذه المرحلة. لكن مع الاسف ورغم كل هذه الاشراقات والنجاحات، هناك جهات نافذة لها مصالح تأبى إلا أن لا تتنازل عنها, لازالت تخوض «الصراع الطبقي» في اشكاله الجديدة، نعم نحن لسنا سذج في السياسة. الديمقراطية ليست طريقا سيارا مفروشا بالورود وبمحطات الاستراحة الجميلة، بل منعرجات احيانا خطيرة، ويمكن ان تكون هناك تراجعات الي الوراء. ان اشكال الصراع حول المصالح تتطور بتطور الزمان والظروف، فمن قبل كنا نواجه بالقمع والسجون والمنافي، وبعد ذلك بمظاهر ديمقراطية مغشوشة، عن طريق تزوير ارادة الشعب في كل العمليات الانتخابية، سواء عبر خطف الصناديق او تصويت الموتى، وتطور الامر إلى مواجهتنا بشكل ذكي عبر حياد اداري سلبي وترك الحرية لتجار الفساد الانتخابي، وصنع النتائج بشكل ناعم بواسطة الاموال، وبعد ان لم تنفع معها كل هذه الوسائل لثنينا، اصبحنا نواجه بطرق اكثر ذكاء عن طريق تبخيس العمل السياسي والقدح المستمر في الاحزاب السياسية مقابل اعلاء شأن التكنوقراط ليصل الامر الى مداه مؤخرا عبر تقمص افكارنا وبرامجنا، بل استغلال تاريخنا واستدراج ابنائنا من خلال خلق كيانات في البداية هجينة لا طعم لها ولا مذاق، وبعد ذلك تحالفات اقل ما يقال عنها إنها خلطة كيميائية استعصت على الفهم من طرف أكبر كيميائي العمل السياسي، وتفرض على فقهاء العلوم السياسية والقانون الدستوري إعادة النظرفي المفاهيم البدائية والاولية التي تدرس لطلبة مبتدئين في السنة اولى حقوق، خاصة حول قاعدة ذهبية تشترط الانسجام في البرامج والافكار بالنسبة لاي تحالف سياسي. كل هذا، بزعم ان الايديولوجيا انتهت والحال انهم يريدون قتل السياسة، عن طريق الضبابية والخلط والغموض وعدم وضوح الرؤية، وهذا هو الاسلوب الجديد في الصراع، حتى يتمكنوا من جرنا الي حيث يريدون وانتم تعلمون ان الذي لا يرى يمكن أن يمسك بيد اي احد يتقدم له استجلاء للطريق هذه هي الوضعية اليوم والآن، لكن ماذا نحن فاعلون؟ فأين دور اليسار اذن؟، ان اليسار كإيديولوجيا، ليس بمفهوم بعض الفلاسفة طبعا الذين يعتبرونها تفكيرا خاطئا، بل كمشروع مجتمعي وكأفكار و قيم مثلى للانسانية يتجاوز اللحظة السياسية والانتخابية على أهميتها طبعا، الى افاق اعلى وأرحب واشمل الى تحقيق تغيير مجتمعي عميق نحو السلم والعدالة الاجتماعية والحرية وتنمية القوى المنتجة وتكافؤ الفرص والمساواة بين الجنسين وتقديس الحق في الحياة، وكل قيم الانسانية التي ترفع من قيمة البشر، بغض النظر عن عرقه، وجنسه ودينه و لونه، انها قيم لا يعرفها ولا يمتلكها الا المناضلون اليساريون الذين نهلوا من التراث الاشتراكي واليساري والذين تربوا في احزاب ومنظمات صنعت تاريخها ومجدها احيانا بالدم او العرق او بالانتصار لقضايا الكادحين وكل الفئات المتضررة من كل اشكال الاستغلال، لذلك اسمحوا ان اعرج على المكونات الأساسية لمحور تدخلي هذا: تاريخ اليسار إن تاريخ اليسار، سواء عبر العالم او في بلادنا او في المنطقة العربية هو تاريخ كفاحي نضالي، بني وأسس على مناهضة الاستغلال والاستعباد والاستبداد وكل اشكال التحكم السياسي. واجتماعيا، انتصر اليسار لصف الكادحين والمظلومين والاجراء والفئات الصغرى والمتوسطة، وتاريخه معروف بنضاله من اجل الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان والمساواة وكل القيم النبيلة في المجتمع. كما ان تاريخ اليسار ايضا، عرف بتضامنه ونضاله من أجل السلم والاستقرار ومناصرة قضايا الشعوب العادلة (ضمنها القضية الفلسطينية مثلا) حيث جعلناها في المغرب ومنذ الستينات قضية وطنية. تاريخ اليسار الكفاحي ايضا كله تضحيات ونضالات ونكران للذات في اوربا وامريكا اللاتينية وبعض الدول العربية والافريقية، قدم اليسار تضحيات مهمة في سبيل الديمقراطية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي. أما بالنسبة لبلدنا، فيكفي الرجوع لأرشيف الدولة وكذا المجلس الوطني لحقوق الانسان وهيئة الانصاف والمصالحة، لنجد انه في الوقت الذي كان فيه مناضلو اخر ساعة ومحترفو السياسة الجدد يراكمون الثروات ويهتمون بنفسهم وعائلاتهم و مستقبل ابنائهم، كان اليساريون يتذوقون علقم السجون والمنافي والتعذيب وكل اشكال القمع والترهيب. ان تاريخ اليسار المغربي قبل سنوات التسعينات هو تاريخ كفاحي، ونضالي وبامتياز ولنشخص اكثر، نقول إن تاريخ اليسار تماهى مع سنوات الرصاص. أما بخصوص الهوية وهذا بيت القصيد فمفهوم اليسار مفهوم نسبي ومرحلي، اي انه مقرون في نسبيته بالمعيار الذي نقيس عليه السياسي او الايديولوجي او الاجتماعي او التنظيمي، ومقرون في مرحليته بالاهداف الرئيسية المتوخاة من كل مرحلة، فإن اليسار الذي نعنيه يتشكل من كل القوى التي تشترك فيما بينها (ومع بعض القوى الأخرى) في المشروع الديمقراطي الحداثي، تشترك ايضا في مرجعيتها الثقافية الاشتراكية الواحدة التي تسم الى حد كبير نزوعها الايديولوجي ومشروعها المجتمعي المستقبلي، وتناضل من أجل العدالة الاجتماعية ونصرة قضايا الكادحين. وفي هذا السياق الجوهري لهوية اليسار ولإنتمائه الاشتراكي، تبرز مجموعة من القواسم المشتركة، والتي لا تعفيه من مسؤولية البلورة الثقافية لمشروعه المجتمعي في كل مرحلة تاريخية بعينها. ولا تعفيه أيضا من ضرورة المراجعة النقدية الشاملة للتراث الاشتراكي في اتجاه تقوية رصيده المعرفي وتأسيس مرجعيته النظرية في ضوء الخبرة المكتسبة وتراكمات المعرفة الإنسانية. في تعيين القواسم المشتركة بين قوى اليسار الاشتراكي عادة ما يتجه التفكير مباشرة إلى نصوص الخطابات والبرامج للبحث عن المتشابه فيها، بينما الهوية الحقيقية لأي حزب تملأ تاريخه الفعلي الممارس في مجموعه.. ولذلك غالبا ما يقع إغفال أحد أهم القواسم المشتركة لهذا التاريخ لحساب تشابهات الخطاب وفن القول. وهي مسألة في غاية الخطورة في اللحظة السياسية الراهنة التي يحاول فيها» »اليمين»« تقمص خطاب اليسار لتمييع الحياة السياسية وزرع الخلط واللبس لدى الجماهير... إن القاسم المشترك الأول والأساسي، والذي ينبغي إبرازه على غيره في هذا التاريخ، يتجسد في الممارسات النضالية التي أدت بقوى اليسار الاشتراكي إلى تقديم تضحيات غالية مازالت ذكرياتها حية وعالقة بالأذهان. إن هذه الركيزة الروحية، إن صح التعبير، هي الخلفية التاريخية الأساس لكل القواسم المشتركة الأخرى. بعد ذلك وعلي ضوئه يمكن إبراز القواسم المشتركة التي سنعرضها .. وبطريقة تكاد تكون وصفية. 1) على المستوى الإيديولوجي: من اللافت للنظر أن اليسار مازال يعلن عن تشبثه وعن نسبه الصريح الى الإيديولوجية الاشتراكية وإلى كل تراثها الإنساني. وهذه علامة فارقة ينبغي الوقوف عندها، إذ رغم المخاض العسير الذي تعيشه النظرية الاشتراكية، ورغم تفاوت الاجتهادات في استثمار هذا التراث وتقييم حصيلته التاريخية، فإن اعتماد اليسار للاشتراكية كمرجع ثقافي رئيسي ينمي لدى مكوناته ثقافة مشتركة تتقارب في إشكالياتها وهمومها ومنطلقاتها. إن كون اليسار منشغلا بقضايا وهموم واحدة في حواره مع التجربة التاريخية الاشتراكية واستنطاقه لمستقبلها هو في حد ذاته عامل تقارب وتشابه بين القوى اليسارية..و علامة دالة على رفض اليسار في اجتهاده من أجل تغيير الحياة لهيمنة الفكر الوحيد والخضوع للنزوعات البراغماتية السائدة والفاقدة لكل منظور تاريخي إنساني شمولي والمفتقرة للبعد الثقافي الحضاري. أضف إلى هذا أن اليسار في بلادنا يتفق في الجملة على «»بيت القصيد» «من ضرورة المراجعة النقدية، حيث يبدو أن عنوانها الواضح يدور، نظرا «»للمرحلة التاريخية»« التي يمر منها مجتمعنا حاليا، حول «»التقدم والحداثة««لا غرو في ذلك، فالمعضلة التاريخية التي يواجهها اليسار ليست بكل المعايير »التقليدية« مهمات اشتراكية، إنها بالأحرى معضلة التأخر المجتمعي بكل حمولاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية... وفي هذا الصدد، لا يوارب اليسار في أنه صاحب نزعة تقدمية تحديثية واضحة المعالم في كل القضايا التي يطرحها علينا واقع التأخر. ومن البين لدى اليسار أن معاركه التحديثية لا يمكنها أن تتنكر لإطارها الحضاري المغربي، أو أن تكون ضده، بل هي تنطلق منه وتتواصل معه لكي تؤسس لمعاصرة صلبة ضاربة بجذورها في العمق الثقافي للشعب المغربي بأبعاده الإفريقية والأمازيغية والعربية التي تشكل المبادئ السامية للإسلام أسمدتها. 2) على المستوى السياسي، حقق اليسار بالمغرب منذ ثلث قرن على الأقل، طفرة نوعية في وعيه الديمقراطي، طفرة برأته من كل الاختلاطات والنقائص التي شابت قسما من مسيرته، وأرست اختياره الديمقراطي على أساس نهائي وثابت. لقد استعاد اليسار للاشتراكية طابعها الديمقراطي الأصيل. فالاشتراكية باعتبارها تحرير للإنسان، وهو قيمتها العليا، لا يمكنها أن تكون إلا ديمقراطية في المبنى والمعنى أو في الوسيلة والغاية. ويتوفر لليسار، بالمغرب، اليوم، برنامج مرحلي، منها ما تحقق من خلال الدستور الجديد، ومنها مازال على أجندة الإصلاحات المرتقبة. 3) على المستوى البرنامجي: لقد استطاع اليسار أن يكيف برامجه مع المعطيات الدولية الجديدية أولويات المرحلة. وتكاد تكون نقط الاتفاق بين الأحزاب اليسارية على الاختيارات الكبرى متطابقة هنا أيضا. ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: - اختيار الانخراط الإيجابي في الاقتصاد العالمي، لا رضوخا لواقع إمبريالي، لكن تأكيدا على فكرة الكونية Universalisme التي أتى بها رواد الاشتراكية وبما يستلزمه هذا الانخراط من تأهيل للاقتصاد المغربي ليكون قادرا في المواعيد المحددة (الانعكاسات المترتبة عن المنطقة العالمية للتجارة واتفاقية الشراكة مع أوربا..) على المنافسة والاستفادة من التحولات التي يعرفها الاقتصاد العالمي، دون إغفال ولا قبول الجانب الإمبريالي بالمفهوم اللينيني للاقتصاد العالمي الراهن. - اختيار الاقتصاد المختلط مع الاحتفاظ للدولة بدور وازن في القطاعات التي لا يستطيع الرأسمال الخصوصي ولوجها, سواء في ميدان التجهيزات التحتية أو غيرها من المشاريع الكبرى أو القطاعات الرائدة... إضافة لدورها في التوجيه وضبط التوازنات الاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما يفرض نفسه بإلحاح أكبر جراء الأزمة العالمية وعواقبها علي اقتصادنا الوطني. - اختيار العدالة الاجتماعية والتضامن المجتمعي، بما يعنيه من ارتباط صميمي بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، مع إعطاء الأولوية لتكافؤ الفرص في ميادين الشغل والتعليم والصحة، ومحاربة الفقر وإدماج المرأة في عملية التنمية الشاملة، وتشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة، والاقتصاد الاجتماعي مع الوعي التام أن المجتمع هو مجتمع يعتمد الصراع الطبقي, بالتالي فلا هوادة في الدفاع على مصالح الكادحين ورفض كل أنواع استغلال الإنسان للإنسان. - اختيار البعد المغاربي أولا، والعربي بمعناه اللاإثني ثانيا، باعتبارهما البعدين الحضاريين والاقتصاديين الأكثر ملحاحية في عالم التكتلات الضخمة والرافعة التاريخية للخروج من حلقة التخلف والتبعية المطلقة. - الاختيار الثقافي الذي ينطلق من الهوية المغربية ذات الأبعاد الإفريقية والأمازيغية والعربية المجتمعة في البوثقة الإسلامية. - الاختيار السياسي الديمقراطي الذي ينبذ كل أشكال الكليانية totalitarisme ,d وينبني على احترام الحريات العامة والفردية والرأي الآخر. - الاختيار التقدمي: الذي يروم مواجهة كل أشكال الماضوية والرجعية والنكوصية وبالتالي الدفع بالمجتمع إلى التقدم والتحرر، بناء على القيم العقلانية. كل هذه الاختيارات هي قواسم مشتركة بارزة في برامج أحزاب اليسار أو في تصوراتها وتكون في مجموعها محاور مشروعه المجتمعي الديمقراطي والمتجدد البناء وترتيب الأولويات بحسب طبيعة كل مرحلة. الآن، أي مستقل لليسار؟ لقد سئمنا من تلك المقولة التي تفيد أن تاريخ اليسار هو تاريخ انشقاقاته، هناك تسعة أحزاب يسارية (مع التفاوت في هذا الشأن)، فهل هناك 9 مشاريع يسارية؟ ثم أين هي المشاتل والمحاضن الطبيعية لليسار؟ كالحركة الطلابية أو الحركة النقابية التي باتت مشتتة، إن واقعنا في هذه المجالات الاخيرة يفرض علينا تقديم نقدنا الذاتي. وعليه فلا مناص من العمل الوحدوي في اتجاه قطب اليسار. وتأسيسا على ذلك، ظل السعي الوحدوي لحزبي حاضرا عبر مختلف مراحل تاريخه النضالي الحافل، بدءا بالعمل من أجل ميثاق وطني، ثم الدعوة إلى جبهة وطنية تقدمية والسعي الدؤوب لتطوير علاقات متميزة مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وباقي أحزاب اليسار، والإسهام البين لقيادة حزبنا في إنجاح تجربة الكتلة الديمقراطية، وصولا إلى ما يبذل من جهود لبلورة مشروع قطب اليسار. إن العبرة في التحالفات، من منظور حزب التقدم والاشتراكية ليست في التضخيم المصطنع للتنظيمات وأعداد المناضلين، بل المبتغى هو ما ينتج عن دينامية الوحدة من حركية مجتمعية منفتحة على المستقبل، بمقدورها صهر مجهودات مناضلات ومناضلين ينحدرون من آفاق مختلفة، في قوة مادية موحدة، تمكن من تأطير وقيادة الحركة الاجتماعية من أجل التغيير، وتؤلف بشكل خلاق بين إسهامات القوى المتحالفة وكل من يناصرها داخل المجتمع، في احترام للخصوصية وبعيدا عن الحسابات العددية وبالأحرى الذوبان. إن وحدة اليسار من شأنها أن تبعث من جديد الأمل في صفوف أنصاره وأن تساهم في تعبئة المواطنين والمواطنات التواقين إلى الديمقراطية الحق والحرية والعدالة الاجتماعية، أي بعبارة أخرى إلى الديمقراطية المشاركاتية والحداثة الحقيقية، خصوصا في هذا الظرف الدقيق الذي تجتازه بلادنا والذي يتميز بمخاطر تهدد مصير ومستقبل المسلسل التقدمي والمكتسبات الديمقراطية التي حققها الشعب المغربي من خلال نضالاته بقيادة قوى الصف الديمقراطي ومن ضمنها اليسار. ومن نافلة القول، إن فوز الديمقراطية في جانبها التمثيلي أولا، ثم في جوانبها الأخرى ثانيا، ورسوخها في أي مجتمع، يبنيان فيما يبنيان عليه على مدى نضج المجتمع المدني ومدى حضوره وفاعليته. ولا يخامرنا شك في أن اليسار الديمقراطي هو القوة الأكثر انسجاما والأكثر مصلحة في الدفع بقوى مجتمعنا المدني إلى هذا المستوى التاريخي المطلوب، وهي مهمة صعبة المنال في ظل التشتيت والضعف الذي يعاني منه يسارنا اليوم. إن حالة الضعف والتشتت التي طالت كل القوى الديمقراطية في بلادنا، هي المحفز الأول والأخير لقيام القطب اليساري الموحد، وبالتالي فإنها تستحق منا التفحص في معانيها البعيدة. ومن منظور الرد على الهجمة اليمينية وعلى الأخطار المحدقة بتجربة بلادنا الفتية في ميدان الدمقرطة والتقدم، فإننا في الوقت الذي نعمل فيه من أجل توحيد اليسار الاشتراكي في قطب جماهيري كبير, علينا أن نعمل في آن واحد من أجل تطوير الكتلة الديمقراطية وتوسيعها والرفع من فعاليتها... قناعة منا من أن اليسار الاشتراكي لا يمكنه أن ينمو ويقوى إلا في نهوض جماهيري ديمقراطي واسع يشمل كل القوى والفعاليات ذات نفس الطموح. هكذا ننظر، في حزب التقدم والاشتراكية إلى الإشكال المطروح. لاندعي أننا نمتلك الحقيقة, وبالتالي نحن على أتم الاستعداد للنقاش الموضوعي الرزين. (*) ألقيت هذه المداخلة في ندوة «اليسار ومغرب المستقبل» التي نظمها الاتحاد الاشتراكي