إن نتحدث عن التشكيل في فترة الستينات، معناه أن نتحدث عن بداية مرحلة انتقالية جديدة بمنظور مغاير حاول الرواد في هذا المجال ترسيخه لولوج باب الاهتمام بالأصالة في بعدها المعاصر بحثا عن هوية ضمن نسق الثقافة المغربية بجميع أنواعها وتعدديتها واختلافها... فبداية الستينات هي الخطوة التي دشنها عدد من الفنانين التشكيليين المغاربة برجوعهم من المهجر بحثا عن منفذ، لفهم أصولهم وجذورهم من خلال تراكمات مرجعية على مستوى التأريخ ومناهج وتقنيات حديثة مرتبطة بنوعية الدراسات والبحوث الدقيقة في تفاصيل الثقافة المغربية برمتها وفي أغلبية المجالات منها ما هو أدبي أو فلسفي أو اجتماعي أو فني، مع التفكير في خلق منابر متعددة للتواصل كأسندة ساهمت فيها أهم الأقلام المغربية في تلك الفترة، منها مجلة (أنفاس Souffle) والتي ظهرت سنة 1966 ثم اختفت سنة 1972 حيث كانت محطة أساسية وملتقى لمبدعين مغاربة في شتى المجالات الأدبية منها والفنية، (محمد خير الدين، عبد الكبير الخطيبي، عبد اللطيف اللعبي، محمد زفزاف، الطاهر بنجلون، ابراهام السرفاتي، محمد برادة، محمد شبعة.. وآخرين). لكن الحديث عن فترة الستينات بالذات تقتضي الإشارة إلى أن الوضع السياسي كان له تأثير واضح كذلك ومباشر في الوضع الثقافي على مستوى الحريات العامة وحريات التعبير، ما سيتسبب في فترة لاحقة (السبعينات) في اعتقالات متعددة في صفوف المثقفين والأدباء والفنانين.. إن حكومة (باحنيني) تاسع حكومة تأسست سنة 1963 لتليها الحكومة الثانية لنفس الوزير سنة 1965، السنة المقترنة بأحداث الدارالبيضاء والتي تولى فيها محمد أوفقير منصب وزير الداخلية، فكل هذه العوامل مرتبطة ولايمكن فصلها عن الوضع الثقافي العام في تلك الفترة، ففي هذه الأجواء المشحونة اتخذ التشكيل منحى دلاليا ومغزى له علاقة بقضية الوجود والكرامة والحرية بعيدا عن فهم السلطة للقضايا المطروحة آنذاك من خلال هذا النوع التعبيري الذي لايتضمن خطابا لغويا مباشرا، بل خطابا مرئيا أداته مكونات تشكيلية معقدة، حيث انصبت اهتمامات بعض التشكيليين على طرح أسئلة راهنية لتحديد موقعهم من الخريطة الثقافية المغربية بتناقضاتها وهمومها عامة، لتلتقي هذه الأسئلة بمجالات أخرى أدبية لتكون كتلة أو حركة تدافع عن نفس الأهداف للتحرر من الرقابة والاستبداد السياسي، وإن كانت بعض الإشرافات الفنية في عهد (باحنيني) قد عرفت طريقها للتحقق فيما بعد، خاصة (البينالي العربي) سنة 1977 بباب الرواح. إذن نستنتج بصفة عامة أن فترة الستينات هي بداية لمشروع ثقافي ومجتمعي بامتياز سوف يتبلور خلال فترة السبعينات مع ظهور أقلام وإبداعات هامة في شتى المجالات تتوفر على شروط مبدئية تحمل معاني ودلالات عميقة جعلت من هذه الفترة إلى حدود أواخر التسعينات وبداية الألفية الثالثة، فترة التزام الفنانين بقضايا وجودية وجوهرية حفاظا على الجذور والهوية، إلى أن تراجع الاهتمام بمثل هذه القضايا لاحقا من طرف بعض الفنانين الشباب، خاصة في أيامنا الحالية، لأسباب مادية وأخرى وصولية بانسلاخها عن محيطها وإفراغها من محتواها الثقافي تحت ذريعة الحداثة الطلائعية حسب اعتقادهم وتكوينهم (الهجين) وإشباعهم بأفكار مفاهمية عدائية واستفزازية سوف ندرجها في هذه الورقة. فاستنادا لما يمور حاليا في الساحة التشكيلية المغربية مع حمى التهافت من أجل العرض لوجود سوق مثمرة طالما انتظرها التشكيليون بفارغ الصبر لترويج أعمالهم، فإن هذه الظاهرة تعتبر صحية في سياقها الإيجابي والصحيح، لأنها تضمن استمرارية وجودية على مستوى المعيش والإبداع بالنسبة للفنان، لكن للأسف وهذا (رأي شخصي) استفاد بعض الجماعين والسماسرة بجشع كبير إلى جانب أصحاب الأروقة بالمغرب، من سرعة خلق وفبركة ما يسمى بالفنان ،في إطار تبعية ممنهجة، دون الاعتماد على الشروط الأساسية والمكونة لموهبته ومؤهلاته ومرجعياته الثقافية وتراكم تجاربه الذاتية، مما أفرز هوة سحيقة بين الفعل والخطاب التشكيلي المبني على تصور جمالي في سياق مشروع ثقافي واضح المعالم مرتبط بهويتنا، ترتب عنه بعد ذلك اهتمام تزييني ساذج وتجاري بعيد عن طرح الأسئلة الحقيقية النابعة من عمق وإحساس الفنان، في حضور أعمال جاهزة تخضع في أغلبيتها لمنطق العرض تحت الطلب، مع محاكاة للتجارب الغربية الحديثة التي لايتسع الحيز الآن لذكر بعض الأمثلة منها، وحتى لانقلق بصراحتنا بعض الفنانين ونفسد عليهم انتشاءهم العابر، وكل هذا في (غياب كلي لحركة نقدية موضوعية وفاعلة) تتماشى وهذا التراكم. إن فترة السبعينات إلى حدود الألفية الثالثة، عرفت اهتماما خاصا بهذا الجنس التعبيري (التشكيل) سواء على مستوى الإبداع أو على مستوى محاورة ومجاورة الكتابة لهذا المجال، نظرا لاشتغال عدد من التشكيليين المغاربة (المليحي ، بلكاهية، القاسمي، هبولي، بوجمعاوي، بلامين، مغارة...) على تقنيات بتعدد مشاربها، مرتبطة بقضايا فكرية وتاريخية في بعدها الجمالي والوجودي والمفاهمي، وانفتاحهم على أجناس تعبيرية أخرى، ومصاحبتهم للكتاب والأدباء والنقاد، وتحقيق ذواتهم ليس بمعزل كما هو الحال عليه الآن عن الحركة الثقافية المغربية بصفة عامة. وبما أن الضرورة الموضوعية أصبحت تلح علينا كفنانين ومتتبعين للحركة التشكيلية المغربية في مراتب تطورها وتشكلاتها، تدوين حالات إبداعية نادرة في اضطراباتها وانتهازيتها الشاذة وجاهلة بمرجعياتها وجاحدة بكينونتها، نجد أنفسنا أمام وضع مخجل يصعب تجاوزه، لأنه يمس بماهية أصولنا كمغاربة أولا ثم كعرب ومسلمين ثانيا، بدعوى جهلنا لأصول الفن التشكيلي المعاصر ، على حد الفهم القاصر لبعض الفنانين الذين اتخذوا من الفن المفاهمي (Art conceptuel) وما يشغله من حيز في مجال التجهيز(Installation) والتعبير الجسدي (Bobody art) سندا ومدخلا لاهتماماتهم المتأخرة عن موعدها اقتباسا ومحاكاة للغرب، وبما أننا مطالبين من الناحية المبدئية و الأخلاقية بمناقشة بعض الأفكار والمفاهيم الواردة في تجاربهم التي لاتعتبر في الواقع إلا اجترارا لما سبق في تاريخ التشكيل العالمي، محاولين من خلالها ولوج العالمية وتحديد السومة الشرائية في غياب مواقف محددة، ارتأينا حسب فهمنا البسيط أن نستعرض باختزال مبادئ الحركة المفاهمية التي تلت مباشرة الحركة الدادائية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كان من روادها الفنانون : (مارسيل دوشون، جوزيف كوزوت، كلاوس رينك، جوزيف بويز، وغيرهم)،حيث كانت الفكرة أهم من الإنجاز التقني، مع استحضار لنص مواز للفعل الإبداعي، تارة يصاحبه وتارة أخرى يتجاوزه، ليصبح النص في جل الأحيان يقوم مقام الأيقونة أو القطعة الفنية، فالمفهوم كفن عبارة عن معلومات تافهة للأحداث اليومية، وتحليل آوتوماتيكي للأشكال المرئية لمحيطنا الفيزيائي والثقافي، مع ضرورة حضور النص الكتابي كتزكية أو كتكملة لأي عمل إبداعي، وقد حددت قاعدته بطريقة حسابية على الشكل التالي : (رسم = قصة، الفن المفاهمي = الصحافة)، فالرسم من خلال هذه المعادلة عبارة عن قصة محكية بمقاييس تشكيلية من ألوان وخطوط وأبعاد وتكوينات ومواد وغيرها.. بينما الفن المفاهمي وكما ذكرنا سالفا، عبارة عن معلومات للأحداث اليومية التي تدخل نطاق الصحافة وما يترتب عنها. ومن بين الذين مهدوا للحركة المفاهمية منذ بداية القرن، الفنان الفرنسي(مارسيل دوشون)، امتدادا للحركة الدادائية الجديدة، إلى جانب كل من الفنانين الفرنسي (إيف كلاين) والإيطالي(مانزوني) اللذين نشرا هذا الاتجاه باعتباره صلة الوصل بينه وبين الحركة الدادائية في مختلف تطوراتها، إذ تصبح الفكرة الهدف الفعلي بدلا من العمل الفني. مما يؤكد ارتباط هذا الاتجاه باللغة، والتلاعب الجناسي بالألفاظ لا غير. إلى جانب هذا فهو يعتمد أي (الفن المفاهمي)، على التوثيق والصورة الفوتوغرافية والشريط التيليفزيوني.. كظاهرة في البداية لما سمي ب ( فن عمل) سوف يتم التراجع عنها فيما بعد لتصبح ( فن لغة)، هذا باختصار شديد عن ملامح الفن المفاهمي. واستنادا لكل هذا تطفو تساؤلاتنا بعد صمت طويل عن وضعيتنا التشكيلية المغربية، التي غدت بمسلكياتها العبثية، انعكاسا متداعيا لطرح أسئلة عميقة حسب اعتقاد بعض الفنانين، لخدش ذاكرتنا بحجة المغامرة الاستفزازية، بمرجعيات معطوبة لا تستند لمعرفة أصول الهوية والثقافة المغربيتين، في خضم الاستيلاب التكنولوجي، الذي لا نعارضه ولا نقف ضده بحكم إيماننا بالحداثة وبكل ما هو جديد، لكن في حدود احترام وجودنا وكياننا،خاصة في تجربة (المهدي جورج لحلو)(قوائم حذاء الله،)، التي تناولت المفهوم الديني بطريقة قدحية لا داعي لذكرها الآن، حتى لانعطي حجما لا تستحقه في الأصل هذه التجربة ، لا على المستوى الفني أو المعرفي، وحتى لا يستفيد من معطياتها ماديا من يروج لها، علما منا بالطرق الملتوية لإظهار تجربة استفزازية فاشلة، يفكر مبدعها بعقل الآخرين، دون مرجعية ثفافية عميقة تنتمي لديننا ولوطننا، مع ضعف واضح في التركيبة الفنية، إذا ما قارناها من الناحية الموضوعية، بعيدا عن الانتماء الديني أو الإديولوجي كفعل كوني، بتجارب من سبقوه من الفنانين، مما يبرهن عن عدم نضج طريقة معالجة القضايا تشكيليا من هذا الحجم، بحجة حوار الحضارات، وقد كتب عن هذه التجربة على أن الاهتمام بالعري ليس استفزازا بل هو تساؤل عن مسألة وضعية الجسد في الموروث الثقافي التقليدي، وإلى حدود هذه السطور لم نناقش هذه المسألة لأنها لا تهمنا، بقدر ما تهمنا وظيفة هذا الجسد بمحيطه وما قد انعكس عليه كسناد(القرآن الكريم)، ثم في الأخير لا ننتظر رأي الآخر وما يمليه علينا من تساؤلات حول موروثنا الثقافي، لأننا أولى بطرح هذه التساؤلات التي نمارسها ونعيش في صلبها يوميا كفنانين ومتتبعين، والأمثلة على ذلك متعددة، من خلال تجارب جادة ومتزنة لها مصداقية معرفية وثقافية في إطار حوار الحضارات، ولا تسعى للبهرجة على حساب معادلات واهية، من أجل الشهرة والربح السريع، (تجربة الفنانين نور الدين فاتحي وحكيم غزالي نموذجا). أما فيما يخص الفنان (منير الفاطمي) فهو يسير في نفس السياق، وما ينطبق على زميله الفنان (المهدي) ينطبق عليه بالضرورة، نظرا للتشابه من حيث الفكرة والإنجاز، غير أنه ذهب أبعد من ذلك،وهو حضوره المتميز ضمن معرض جماعي بمتحف بالأراضي الفلسطينية المحتلة، راغبا في فتح حوار فني على شاكلته، ضمن نسق يدعو لحرية الرأي، في غنى عن المواقف السياسية التي لا تهمه كفنان، ليلج باب العالمية، ضاربا عرض الحائط معاناة الشعب الفلسطيني، وما تعرض له من اغتصاب واختطاف ونفي وقتل لمدة خمسين سنة من طرف الصهاينة ومازال الأمر قائما، دون أن يستشير أو أن يطرح السؤال، فبمجرد ما أن تلقى الدعوة من الجهة المنظمة بإسرائيل،حتى ذهب مهرولا لكي لا تضيع منه الفرصة، فنحن لسنا ضد هذا الاختيار، فقد عبر عنه بوضوح وتحدى أكثر من مرة في بعض المنابر الإعلامية المغربية، لكننا نتساءل عن الجهات المشجعة لمثل هذه السلوكات التي ينقصها حس المسؤولية واحترام إحساس وعواطف الآخرين، وعن (الأروقة Galeries) التي تساهم في انتعاش مثل هذه التجارب والمواقف من أجل الربح وإفراغ المحتوى الفني من دلالته المرجعية والثقافية بدعوى تحقيق الكونية، مع العلم بأن الكونية تتحقق غالبا انطلاقا من الهوية المحلية وليس بالضرورة التخلي عنها، وقد انبهرت مؤخرا بأعمال فنان كوني حقيقي من كولومبيا، وبموقفه الثابت وهو الفنان (بوطيرو)، الذي اشتغل على موضوع ربما لا يهمه بالمفهوم الجغرافي الضيق، بل يهمه كضمير إنساني و وجودي، وهو موضوع (سجن أبو غريب) حيث منع من عرضه بالولايات المتحدة، ليستقر به المطاف بمعهد فالينسيا للفن المعاصر(إسبانيا)، ليبرهن عن موقفه كإنسان أولا ثم كفنان تشكيلي، دون اعتبار لأي طموحات جشعة على حساب الغير، ودون رضوخ لابتزاز الأروقة ، ولهذا سوف نخصص في الورقة المقبلة موضوعا خاصا عن دور وأهمية الأروقة في فبركة وصناعة الفنانين العابرين، وما ترتب عنه من خلط في المفاهيم الحقيقية للتشكيل المغربي، في غياب الوصي الأساسي(وزارة الشؤون الثقافية)، كمؤسسة وطنية، وانسحابها الرمزي من المشهد الثقافي المغربي. 2011/10/11