هو واحد من أهم الباحثين السوسيولوجيين والمفكرين العرب اليوم.. هو واحد من أشد المعارضين الدائمين لنظام الأسد (الأب والإبن) في المنفى.. هو واحد من أنزه المثقفين السوريين، الذي ظل ينتصر للعقل والحداثة، في الفكر وفي السلوك، وبنى مشروعه الفكري تأسيسا على آلية تحليل القيم وجرأة ممارسة النقد ضد الطائفية والإقصاء.. هو، أخيرا، واحد من أكبر أصدقاء المغرب من بين المفكرين العرب، الذي نسج علاقات قوية جدا مع كل مثقفيه ومفكريه ورجال السياسة الوطنيين التقدميين فيه، إلى الحد الذي جعل الكثيرين، يعتبرونه «مفكرا مغربيا» مهاجرا بباريس. هو الذي تواصلت وتعددت زياراته ومحاضراته ومشاركاته التلفزيونية المباشرة أو المسجلة عبر القنوات التلفزية المغربية. مثلما ظلت له علاقة وثيقة مع المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، ومع فريق المفكرين والسوسيولوجيين المغاربة (خاصة مع الراحل عبد الكبير الخطيبي). برهان غليون، الذي اختير منسقا عاما للمعارضة السورية بالخارج، إبن مدينة حمص، الحائز على دكتوراه الدولة في علم الإجتماع بباريس من جامعة السوربون، الأستاذ المحاضر منذ سنوات بذات الجامعة، مدير مركز دراسات الشرق المعاصر بباريس، صاحب الكتاب الشهير «بيان من أجل الديمقراطية»، والكتاب الأشهر «اغتيال العقل»، هو واحد من أكثر مفكري الشام (لبنان وسوريا وفلسطين والأردن)، الذين لم يتموقعوا سوى في قارة العلم، ولم ينساقوا قط وراء يافطة طائفية ما. بل إنه يعتبر واحدا من أشد المنتقدين لروح الفكرة الطائفية، المحللين لها، علميا، عبر آلية البحث السوسيولوجي، من خلال كتبه المعروفة «نقد السياسة: الدولة والدين» و «المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات» و«مجتمع النخبة». مثلما أنه امتلك دوما فطنة المفكر الذي ينضج مواقفه السياسية، تأسيسا على تحليل ملموس لواقع ملموس، هو الذي اختبر عائلة اليسار تنظيميا، وانتقد الكثير من الدوغمائيات التي أطرت تجربة اليسار العربي، في شقه الماركسي اللينيني، في بلاد الشام وعموم المشرق العربي. ومن هنا قربه الكبير من التجربة المغربية، سياسيا وفكريا، خاصة التجربة السياسية الإتحادية واليسارية عموما بالمغرب، وكذا من النسيج المعرفي والفكري الذي أنضجته الجامعة المغربية، من خلال ما أفرزه واقع التدافع الفكري والسياسي المغربي على مدى سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات. برهان غليون، الذي اختير من قبل تجمع المعارضة في الخارج، منسقا عاما لها، واحد من أبناء سوريا، الذي يدرك عميقا تركيبة المجتمع السوري سوسيولوجيا. بالتالي، كما لو أعطي القوس باريها، لأن الرجل يعرف طبيعة الذهنية السورية العامة، وتراكب المصالح وتقاطعها في بلاد بردى. وأن التعدد الطائفي والتوزيع الإقتصادي وتعدد المرجعيات الدينية والفكرية، يجعل سوريا حالة خاصة في تجربة الحراك الشعبي العربي. فالرجل، من موقع الباحث المتخصص في علم الإجتماع، المغتني بتجربة سياسية رصينة منذ شبابه الأول، يدرك أي حقل ألغام تواجهه بلاده، وأية لعبة خطيرة يمكن أن يلعبها النظام السوري لآل الأسد في تأليب الإثنيات الطائفية وإيقاظ النعرات المدمرة، التي قد تحول مسار الثورة بالكامل. لهذا فإنه حين رفع، مع أغلبية المعارضة السورية شعار اللاءات الثلاث ( لا للفتنة الطائفية .. لا للتدخل العسكري .. لا لاستعمال السلاح)، كان مدركا بشكل جيد مكامن الخطر. ومع توالي أيام الثورة، واتساع رقعة الإحتجاج، وارتفاع فاتورة الدم بشكل رهيب، وتصاعد حجم الهمجية التي يواجه بها «شبيحة» الأسد وجنده المتظاهرين الأبرياء العزل، ورغم الألاعيب التي استعملت لإثارة الفتنة والنعرات الكردية والدرزية والشيعية والمسيحية والسنية، فإن الثورة السورية، وتنسيقياتها من الشباب في الداخل، قد أبانت عن وعي سياسي رفيع وعن قوة تنظيم هائلة، خاصة أمام ضخامة الآلية المخابراتية للنظام ومدى ما يتوفر عليه من لوجيستيك أمني هائل، وأنهم بقوا مدافعين وملتزمين بتلك اللاءات الثلاث بقوة. اختيار برهان غليون، إنما يأتي ليعزز من الوعي السوري للثورة أن المشترك بين أبناء سوريا أهم وأكبر من نقط خلافهم. وأن اختيار الرجل راجع بالأساس إلى إدراكه، من موقعه العلمي والتكويني، حجم كل طرف من أطراف الثورة. وأنه يفلح جيدا في أن يلعب دور الناظم بين كل تلك الأطراف. فقد سبق لبرهان غليون أن أكد: « أن سوريا ليست مهددة بصراع طائفي. وذلك لأنه لا توجد أية نخبة سورية تؤمن بالحل الطائفي أو ذات ميول طائفية عميقة. فلا تخلو الساحة السورية من وجود حزازات، لكن السوريين يريدون الحرية والسلام والمساواة وحكم القانون والخلاص من حقبة دُمر فيها حكم القانون وسيطر فيها نظام طائفة البعث. وهذه هي الطائفة التي يكرهها الشعب السوري. السوريون يريدون الإنتقال من هذا النظام الذي فرّغ الدولة والمؤسسات من مضمونها، بسبب سيطرة المخابرات وطائفة الدولة، إلى نظام ديمقراطي تحترم فيه الحريات والحقوق والشعب كأفراد. وأعتقد أنه ليس هناك حتى روح الإنتقام». مضيفا في تحديد سياسي واضح: « توجد أقليات داخل هذه الطوائف ذات أحقاد طائفية وتصور طائفي للموضوع، ولكن أغلبية الشعب السوري بكل طوائفه تريد الخلاص من نظام العنف والإنتقام والقتل على الهوية والتعذيب، إلى نظام مدني حضاري يشعر فيه الناس أن كل إنسان مواطن محترم وحقوقه محترمة ومتساو مع الأخرين. وإذا نظرنا إلى شعارات الثورة وإلى سلوك الثوار نرى أنهم قاوموا كل الإستفزازات الطائفية حتى الآن. وهذا يؤكد أن الناس يريدون وحدة الشعب السوري والحرية والدولة المدنية، كما أنهم رفضوا حمل السلاح والتورط في الطائفية. والذين يدعون إلى الطائفية هم قلائل ولا ندري إن كانوا مدسوسين من قبل النظام». قوة أطروحات غليون السياسية تظهر أهميتها أكثر، حين نكتشف أنها تتأسس على رؤية علمية رصينة تدرك مواطن أسرار الملف السوري. بالتالي فالرجل لا يصدر عن مواقف عمومية، عاطفية انفعالية بل إنه دارس جيد لبنية مجتمع بلاده بدليل رؤيته الصريحة لما يمور في الساحة السورية ورؤيته للمعارضة السورية. حيث أكد قبل أسبوعين فقط، قائلا: « إن الحديث عن المعارضة خارج سوريا، بمعنى منظمات كبيرة ذات وزن، هو كلمة جديدة. المعارضة في الخارج هي ثمرة شعور السوريين المغتربين بأن الوضع تغير وبأن لهم دوراً يلعبونه. وهم متحمسون للعب دور في سوريا وليس لديهم آراء سياسية مبلورة ومعروفة وقديمة. هم يحاولون أن يكونوا قوة تدعم بإتجاه الثورة السورية وتدفع بالبلاد نحو الديمقراطية. كما أنهم لا يشكلون خطراً وليسوا منقسمين، لكن لا يوجد عندهم خبرة سياسية، ينظمون أنفسهم بمؤتمرات مختلفة وهذا لا يشكل خطراً على الإطلاق، كما أنهم ليسوا متضاربين وليس هناك تنافس على هذا الموضوع. أما المعارضة الداخلية فقصرت حتى الآن وتأخرت في تنظيم نفسها. وهي منظمة في مجموعتين رئيسيتين: مجموعة إعلان دمشق ومجموعة التجمع الوطني الديمقراطي، وكل مجموعة تضم عدة أحزاب. هذه هي المعارضة السورية المنظمة، إضافة إلا تنسيقيات الشباب التي تشكل اليوم العمود الفقري لكل معارضة سورية. الشباب منظمون بإطار وسياق العمل والمهمة التي يقومون بها وهي تنظيم المسيرات والتظاهرات ومواجهة عنف النظام. وقد أصبحوا أقرب إلى النضوج السياسي حيث نشرت لجان التنسيق المحلي وثيقة مهمة، هي أفضل وثيقة صدرت حتى الآن من كل الأطراف السورية بما في ذلك أطراف الأحزاب المعارضة. وكان إتحاد اللجان التنسيقية قد أصدر بياناً قريباً من هذا الموضوع ولكن بتفصيل أقل. وتضم هاتان أكثر من ثمانين بالمئة من التنسيقيات، كما أن التنظيم أصبح له الناطقون الرسميون به. المعارضة الحزبية لا زالت تحتاج إلى تفعيل أكثر، بمعنى أنهم بدأوا يتنظمون ورأينا هذا من خلال إعلان دمشق، حيث بدأوا إجتماعات لتفعيل أنفسهم والتجمع الوطني الديمقراطي أعاد تجميع حركاته المختلفة، وأعتقد أنهم أصبحوا جاهزين للعمل كمعارضة منظمة. ما ينقصهم هى الخبرة وأن يكون عندهم ناطق رسمي يعرف كيف يتفاعل بشكل يومي مع الأحداث وتعليق الأحداث وتوجيه الحركة، وهذا سيحصل في هذه الفترة والأهم أنه لا يوجد إنقسام داخل المعارضة. وليس هناك تنافس بين الأطراف. الجميع يؤمنون باللاءات الثلاثة التي سبق وقلتها وبهدف واحد. الهدف هو الديمقرطية واللاءات الثلاثة هي: لا للتدخل العسكري ولا للفتنة الطائفية ولا لإستخدام السلاح بأي شكل كان. أعتقد أن هناك توافق كبير جداً بين أطراف المعارضة، إلا أنه يوجد تقصير في التعبير عن الوحدة والتعبير في موقف المعارضة بسبب قلة الخبرة والضغط الشديد للأجهزة الأمنية. إن قسماً كبيراً من قادة المعارضة مختف وقسم آخر مثل نجاتي طيارة مسجون وقسم يعيش تحت الأرض ولا يجرؤ على السير بشكل علني في الشارع كي لا يعتقل، أي أن جزء من مشكلة المعارضة هو أسلوب القمع والقهر الشديد الذي يمارسه النظام السوري الراهن على المعارضة. ولكن أعتقد أن النظام اليوم في موقع الدفاع، حاول المستحيل والأن كسرت شوكته ولم يعد بإمكانه أن يستمر في سياسة قمع المعارضة. وعلى العكس بدأ يستجدي بعضها كي تجد له مخرجاً بحوار شكلي ولكن حتى هؤلاء لن يدخلوا بحوار شكلي وسيجد نفسه أمام معارضة بجميع أطرافها لا تقبل إلا الإتفاق على هدف الوصول إلى الديمقراطية. موضوع الحوار طبعاً ليس الهدف. الموضوع كيف ننتقل بسلام إلى الديمقراطية لنوفر على شعبنا ضحايا جدد». تمة بعد آخر لذكاء الرجل السياسي، هو أنه غير مستعجل في رؤيته لتطور الأمور بسوريا، وينظر بأكبر قدر من العقلانية لمسار التحولات هناك. ويكاد يكون الوحيد حتى الآن الذي يمتلك شجاعة الإعتراف بكابحات تطور الثورة السورية، حين كتب يقول: « أعتقد بالفعل أن هناك مجموعة من الشعب السوري ما زالت صامتة وهي مجموعة مهمة وليست بالقليلة. أحد الأسباب الرئيسية وراء هذا الصمت هو إهتمامهم بالإستقرار. وهنا نتحدث عن رجال الأعمال والمهن والصناعيين والإقتصاديين. حياة هؤلاء تتطلب الإستقرار ويعتقدون أن نظام الأسد يؤمن لهم هذا الإستقرار. الآن، أعتقد أننا ننتقل إلى مرحلة جديدة، حيث أصبحت لديهم قناعة أنه من المستحيل ضمان الإستقرار بالعودة إلى النظام السابق، وأن العودة إلى النظام السابق أصبحت مستحيلة بعد أشهر من الصراع الدامي وسقوط القتلى والجرحى والشهداء. إذن هذه المجموعة أمام خيارين: إما الإستمرار بالصمت وترك البلاد تتدهور بصورة أكبر فيفقدون مصالحهم. والخيار الثاني التفكير بأن يكونوا شريكاً نحو الديمقراطية وبالتالي بأن يكونوا أحد عوامل بناء إستقرار جديد. وأعتقد أنهم سيختارون، عقلياً ومصلحياً، أن يكونوا شريكاً في نظام مستقر جديد في سوريا. وكلما أسرعوا بهذا الإختيار فسوف يوفرون على سوريا تضحيات بالإضافة إلى إحتمالات الإنهيار الإقتصادي. هذه الطبقة من التجار وأصحاب المصالح مهمة لحسم الصراع وخاصة في كل من المدن الكبيرة، دمشق وحلب. وأعتقد أن هذه الطبقة الرئيسية، التي فيها تجار وأصحاب مصالح، وهم في الواقع مهمون في دمشق وحلب، إذا انظم أهلها إلى الخيار الديمقراطي وقالوا إنه لا يمكن خلق إستقرار جديد بدون نظام ديمقراطي، فسيحسم هذا الأمر». أي سيحسم أمر الثورة ومصير النظام القائم بصفة نهائىة.. ما نفهمه من كلام برهان غليون أن المسألة مسألة تراكم في الفعل السياسي المنظم، وبالتالي فإن خصوصية الملف السوري عكس اليمن وليبيا، أنه لا يحسم سوى بأبناء سورية وداخل سوريا وبقوة الحراك الشعبي السوري. بل إن برهان غليون، قد سبق وطرح خارطة طريق واضحة رأى فيها أن الوضع الإقليمي أهم بكثير بالنسبة له، من الوضع الدولي. والوضع الإقليمي هو الذي سيؤثر أكثر على الوضع في سوريا. و«عند الحديث عن الوضع الإقليمي المقصود هنا دور تركيا وإيران والعربية السعودية ومصر. هذه الدول لها دور كبير جداً. ربما الذي يعيق التقدم هو عدم التفاهم بين هذه القوة». فالإيرانيون يريدون أن تبقى سوريا حكراً وجسراً على لبنان ومحوراً اساسياً في سياستهم المعادية للغرب. الأتراك يريدون سوريا لأنهم عملوا منها حليفاً إستراتيجياً وهم أكثر أناس لهم منافع وإستثمارات إقتصادية في سوريا. وأيضا بالنسبة للعرب فإن سوريا جزء مهم من الصف العربي والسعوديون يخشون أن تنعكس التحولات في سوريا عليهم. مؤكدا بالحرف: «أعتقد أنه عندما تنضج الظروف، وفي فترة قريبة إذا وصل الوضع السوري إلى مرحلة إستعصاء، (وقد وصلها اليوم) فالحل هو مؤتمر إقليمي بمشاركة هذه الأطراف من أجل وساطة لإيجاد حل. وهذا ما يجعلني أقول إنه لا يوجد خطر من حرب أهلية أو تدخل عسكري، لأن هناك تنافسا كبيرا وتضاربا كبيرا في المصالح لا يمكن لأي دولة أن تدخل إلى سوريا أو تدخل دون أخذ مواقف ومصالح الدول الأخرى بعين الإعتبار. الوضع الإقليمي يمكن أن يصبح لصالحنا وليس ضدنا وعلى السوريين أن لا يخافوا من الوضع الإقليمي. فالوضع الإقليمي يخلق توازناً. لذلك أقول أن عامل الحسم هو سوري وهو في كسب الفئة المترددة، وأعتقد أن هذا سيحدث قريباً، لأن النظام القائم لم يعد يقدم لها ما يضمن مصالحها، أي الإستقرار». وفي الأول وفي الأخير، فإن قيمة اختيار برهان غليون منسقا للمعارضة السورية في الخارج في انتظار أن يشمل ذلك المعارضة في الداخل خاصة تنسيقيات الشباب، وهو أمر وارد جدا، لمكانة الرجل بين قومه وأهل سورية، فإن قيمة ذلك الإختيار هي في أنها تترجم فعليا من خلال التجربة السورية، أن للمثقف والمفكر دورا لا يزال منذورا للعب في حياة أمته. وتجربة المفكر السوري برهان غليون هنا مهمة جدا للكثير من المفكرين والنخب العربية، لأنه هذا مفكر يتزعم معارضة وليس عسكريا يركب دبابة ليسقط نظاما مستبدا. وأكيد سينتصر الفكر بصحافته على دبابة العسكري السوري بعنجهيته وعماه السياسي والوطني والإنساني. بشكل لا رجعة فيه سوريا الجديدة قادمة.