لطالما طمح الفقيد المفكر عابد الجابري إلى تكوين كتلة تاريخية تضم جميع القوى الفاعلة في المجتمع، والتي من مصلحتها التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف الوطنية. جزء من هذا الطموح تحقق أول أمس في حفل تأبينه بمسرح محمد الخامس، فقد حضر أعداؤه قبل أصدقائه، والعلمانيون والإسلاميون والعرب والأمازيغيون والمعارضة والحكومة، والمسلمون والمسيحيون والمشارقة والأوربيون... شريط قطار الحياة ارتأى المنظمون أن يُفتتح حفل تأبين الراحل عابد الجابري بجزء من شريط أعدته القناة الأولى، يلخص المسار العلمي والسياسي لعابد الجابري المعروف في منطقته ب«حمو»، منذ ولادته سنة 1935 بزناكة قرب الحدود الجزائرية حتى يوم الاثنين 3 ماي المنصرم.. تاريخ وفاته. مر شريط قطار الحياة الذي دام خمس عشرة دقيقة.. منذ تعرف الجابري على الحاج محمد فرج وهو من رجال السلفية النهضوية، والذي كان مدير مدرسة «النهضة المحمدية»، وهي مدرسة وطنية لا تخضع للسلطات الفرنسية ولا تطبق برامجها، بل يشرف عليها رجال الحركة الوطنية. وتحدث الشريط عن منعطف الجابري العلمي والسياسي في يونيو 1957 حين اتصاله الأول بالمهدي بنبركة، حيث ساعده على الالتحاق بجريدة العلم. ساهم في انتفاضة 25 يناير 1959، والتحق بجريدة «التحرير» منذ تأسيسها يوم 2 أبريل 1959 كسكرتير تحرير متطوع. انتُخب عضوا في المجلس الوطني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية في المؤتمر الثاني في ماي 1962. أتاحت القدرات العلمية التي كان يتميز بها الجابري أن يحرر التقرير الإيديولوجي للمؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي 1975، وانتخب في هذا المؤتمر عضوا في المكتب السياسي. قدم استقالته النهائية من المكتب السياسي وتفرغ لانشغالاته العلمية في أبريل 1981، ومنذ ذلك التاريخ اقتصر حضوره في الاتحاد الاشتراكي على الجريدة ككاتب مقالات من حين إلى آخر. اليوسفي: نقلنا من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث مازال تقدير عبد الرحمن اليوسفي، رئيس اللجنة الوطنية لتأبين عابد الجابري، يتأرجح بين اليقين والشك حول موت الجابري، رغم مشاهدته احتواء التراب لجثمانه، ورغم هذا الإحساس الذي مازال يلازم الوزير الأول الأسبق، فقد تحدث، باسم اللجنة المنظمة في شهادته حول الراحل، عن تاريخ العلاقة التي جمعت بينهما منذ أن «تعرفت عليه وهو طالب في دمشق إثر اختطاف طائرة القادة الجزائريين من فرنسا، وكنت مكلفا بمهمة من طرف الملك محمد الخامس من أجل ربط الصلة بالمقاومين بالخارج». ومنذ ذلك الحين، يقول اليوسفي: «ظل المرحوم نموذجا للالتزام الوطني والأخلاقي، وحتى أثناء تقديم استقالته من المكتب السياسي 1981 كان الهم الوطني والمشروع التقدمي حاضرين في مشروعه الفكري وفي كل الإشكالات البنيوية والظرفية»، وبقي حريصا على الجمع بين الممارسة السياسية ومجال التفكير من خلال مساهمته في تحرير وثيقة التقرير الإيديولوجي في مؤتمر 1975، الذي رسم منعطفا تاريخيا بالنسبة إلى الحركة الاتحادية والنضال الديمقراطي المغربي. وتناولت شهادة اليوسفي إسهامات المرحوم الجابري المتميزة، سواء في تحقيق التراث الفكري من خلال إسهامه في التحول من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث، أو من خلال نقده للقراءات السلفية والاستشراقية والماركسية. وانتهت شهادة اليوسفي بالقول إن «خير تكريم لليوسفي هو إغناء رسالته واستلهام دروسه والسير على درب مشروعه الفكري». ورغم اعتزاله العمل السياسي سنة 2002، إلا أن كلمته في حق الجابري تضمنت شهادة سياسية عن المسلسل الديمقراطي الذي قاده، والذي اعتبره مازال منفتحا على آفاق واسعة، لكن يلزمه نكران الذات والكثير من التبصر. الراضي: عصامي ورفيق درب تكلف عبد الواحد الراضي، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، بتقديم شهادة حزبه عن الراحل عابد الجابري، فقد أكدت شهادة الراضي على دور الجابري البارز في الحركة الاتحادية منذ كان عضوا في اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني، مرورا بدوره المحوري في المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي، الذي وضح الاختيارات السياسية والاجتماعية والثقافية، ومواصلة الفقيد دوره النضالي من خلال عضويته في المكتب السياسي وإشرافه على التوجيه والإعلام. كما أن الجابري المناضل كان له دور كبير في الحركة الوطنية منذ ترعرعه في أحضانها وتعرفه على قادتها، بالإضافة إلى اتخاذه مسارا علميا عصاميا، حسب رئيس مجلس النواب، لا يقل قوة عن حراكه السياسي. وقد اتسم هذا المشوار، حسب شهادة الراضي، بقراءة متجددة للتراث العربي وقراءته للقرآن الكريم وفلسفة العلوم، ومقاربته للقضايا الوطنية، والعمل على ولادة القطب الحداثي الديمقراطي ولم شمل قوى الديمقراطية. وبكثير من التأثر أثناء شهادته في حق الجابري، اعتبر الراضي أن المغرب فقد في الراحل «أحد أعمدة الفكر، وفقد فيه الاتحاد الاشتراكي مناضلا ومنظرا سياسيا، وفقدتُ فيه صديقا حميما ربطتني به أثناء النضال لحظات السراء والضراء». أسرته: سيبقى حيا كالإمام مالك كانت شهادة عائلة الجابري أكثر تأثيرا على نفوس الحاضرين، فقد نقل عصام الجابري، الابن البكر للفقيد والناطق باسم العائلة، تفاصيل دقيقة عن وفاة والده حينما استيقظ الجابري من نومه في الثانية صباحا من يوم الاثنين «وقرأ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وبعد الشهادة أغمض عينه. لقد رحلت فجأة يا أبي ودون سابق إنذار بعدما ودعناك يوم الأحد (أولاده، أصهاره وأحفاده) بعد نقاش فلسفي في الدين والأخلاق والاشتراكية والليبرالية». غير أن شهادة عصام في حق أبيه ليلة تأبينه لن تكون كاملة بدون شهادة في حق أمه التي لم يجد لها خيرا من إهداء كتاب الجابري مدخل إلى القرآن الكريم حيث قال: «إلى العظيمة حقا وصدقا زوجتي التي تكلفت بشؤون البيت لأتفرغ للبحث دون أن ترى في الكتاب منافسا لها...». واعتبر ابن الفقيد أن أباه «ستبقى خالدا ورائدا في الفكر الإنساني كالإمام مالك وابن رشد وابن خلدون وكانط وإدوارد سعيد»، فلا «التاريخ قادر على طي فكرك ولا الجغرافيا قادرة على حبس أنفاسك». وأنهى عصام شهادته بإعلانه عن التحضير لتأسيس مؤسسة محمد عابد الجابري. مفاجأة حفل التأبين، والتي جاءت بالتماس من عبد الرحمن اليوسفي، تمثلت في إلقاء أرملة الجابري، مليكة زكري الجابري، شهادتها المؤثرة في حق زوجها الراحل، حيث أكدت أنه ملك مشترك بين المغاربة والعرب»، وقد كان يجعل من الاهتمام بالقضايا العربية صحنا يوميا على مائدة العائلة»، غير أن ذلك «لم يمنع من القيام بواجبه كزوج وأب ويكون حازما عند الحاجة». وعن مسار حياتها مع المفكر عابد، أوضحت مليكة زكري أنها تعلمت في مختبر الجابري الفكري قيمة انبثاق الفكرة في صمت قبل أن تنمو وترى النور»، وانتهت في شهادتها إلى أن المفكرين من أمثاله «يهزمون الموت بخلودهم». بشارة: طائر الحكمة اعتبر عزمي بشارة، المفكر الفلسطيني، في شهادته في حق الجابري أن «الأمة المغربية والعربية مدينة لعابد الجابري كما هي مدينة لعبد الكريم الخطابي»، وأضاف بشارة أن الجابري هو «فقيد فلسطين كما هو فقيد المغرب»، ما يجعل الجابري، في نظر المفكر الفلسطيني، متميزا عن غيره هو «تحرره من فجيعة السؤال وصياغته كمشروع فكري، وهذا ما لم يفعله إصلاحيو النهضة»، وفي صياغته لأسئلة النهضة «لم يطرح الجابري محاكاة أوربا بل طرح العودة إلى ما انفصل في التراث مستخدما آخر أدوات الفلسفة من إنتاج الحداثة الأوربية». لقد أبدع الجابري على تخوم الخيبات التي سعى إلى تحويلها إلى أمان، وقد تحول الجابري، حسب بشارة، إلى نموذج لطائر الحكمة الذي يبدأ حركته أثناء الغروب، حيث أخذ على نفسه قراءة التراث بنقد علمي، مما جعله ابن فكر هذه المرحلة وحافظ أسرارها. ما شغل الجابري طوال مشواره العلمي، حسب شهادة بشارة، هو سؤال: كيف يمكن أن تؤدي المعرفة إلى الفضيلة؟ فالجابري ناضل ومارس السياسة ولم ينشغل بما هو خارج متطلبات الممارسة السياسية الأخلاقية، لأنه لم يملك الوقت للتطرف الاستعراضي، ولم يصمم أسطورة عن ذاته. لم يكن بحاجة إلى مفكر لأنه كان مفكرا، لقد كان غنيا عن الادعاء لأنه حقيقي. حنفي: صاحب « تمشرق المغرب وتمغرب المشرق» تجمل شهادة المفكر المصري حسن حنفي مسار عابد الجابري في اعتباره «مشروع حياة». فالجابري، حسب حنفي، هو مشروع تربوي أثر في التكوين والتربية والفلسفة، وهو كذلك مشروع فكري يحلل الأقاويل، والتي قسمها إلى القول الخطابي والبرهاني والعقلي، وهو مشروع تراثي، حيث كتشف أن التراث القديم مازال حيا فينا، وهو صاحب المشروع النقدي من خلال الرباعية الشهيرة: تكوين بنية العقل السياسي والعقل الأخلاقي. كان يود إنهاء مشروعه بنقد العقل الأوربي، وهو صاحب المشروع الوطني الذي يبحث الصلة بين الدين والدولة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو صاحب الدوائر الثلاث.. لكل عربي وطن ولسان عربي وينتمي إلى الثقافة العربية التي تجمع في صياغتها الثقافية المسيحيين واليهود والعرب، وهو قبل ذلك، حسب المفكر المصري، صاحب مشروع ثقافي يؤسس لدور المثقفين في الحضارة العربية، وصاحب مشروع إسلامي تمثل في المدخل إلى القرآن الكريم وفي فهم القرآن، وهما ما يعادل علم القرآن عن القدامى. وهو قبل كل ذلك صاحب مقولة تمشرق المغرب وتمغرب المشرق. غليون: قدرة فائقة على تعميم الصداقة اعتبر المفكر السوري برهان غليون، في شهادته في حفل التأبين، أن الجابري «صديق كل من يعرفه»، كان يملك «القدرة على الصداقة وتعميم علاقة الصداقة على كل معارفه، تماما كما كان يسحبهم فكره ودراساته». وأضاف برهان أن عابد الجابري لم يسحب علاقته على أصدقائه، لكن سحب صداقته وحلمه على أعداءه الذين ارتدوا عن أفكاره أو انتقدوه. واعتبر المفكر السوري أن الجابري أعطى المثل للمناضل كسلوك دائم، وحتى عندما تخلى عن السياسة اليومية فقد انتقل إلى السياسة العظمى بالمعنى النبيل: التفكير في مستقبل الأمة العربية وطرق نموها. ورغم انغماس الجابري في تحليل التراث من أجل خلخلته وإعادة تركيبه بما يسمح بتفجير ديناميات جديدة، فإنه مثل كذلك المفكر في حداثة العالم العربي. خير الدين: واحد من الكبار تحدث خير الدين حسيب، رئيس مركز دراسات الوحدة العربية، في شهادته في حفل تأبين الجابري، عن انتصار رسالته، وقال إن «الكبار وحدهم يملكون أن يوقظوا فينا أخلاق الاجتماع وإن تفرقت بنا السبل «. وخلص إلى أن مركز دراسات الوحدة العربية سيبقى وفيا لفكر الراحل. واعترف حسيب بالمعاملة الخاصة التي كان يتعامل بها المركز مع إنتاج عابد الجابري، والذي كان لا يحتاج إلى لجنة القراءة قبل نشره، كما تنص على ذلك تقاليد النشر داخل مركز الوحدة العربية. وفجر المفكر اللبناني مفاجأة كبرى من العيار الثقيل حينما كشف عن إحداث كرسي وقفي بمليون دولار وجائزة تحمل اسم الجابري وقيمتها 25 ألف دولار دولار، واستمر حسيب في عرض مفاجآته حينما كشف عن نية المركز في تنظيم أربع ندوات دولية في الوطن العربي خلال السنة المقبلة. مواعدة: هزة في تونس اعتبر السياسي والمفكر التونسي محمد مواعدة رحيل الجابري شكل هزة في تونس، ومازالت الندوات عن فكره تنظم يوميا، خصوصا وأن الجابري كان يكتب يوميا في جريدة الرأي التونسية. وتحدث مواعدة عن الحوارات العلمية التي كان يجريها الجابري حتى مع منتقديه، مثل محمود العالم. وأيد مواعدة اقتراح تأسيس مؤسسة عربية دولية تحمل اسم محمد عابد الجابري. هيكاسي: صالح جيلا بكامله مع موروثه كشفت شهادة الباحثة الألمانية صونيا هيكاسي، التي أطر الجابري بحثها أكاديميا عن المجتمع المدني بالمغرب منذ عشرين سنة، أن الطلبة الباحثين كانوا يعتمدون كمرجعية فكرية لقراءة التاريخ والمجتمع المغربيين على كتابات الجابري. وأشارت الباحثة الألمانية، التي ساهمت في ترجمة بعض كتب الجابري إلى الألمانية، إلى أن الجابري لعب دورا مهما لإرساء الدعائم المعرفية للمجتمع المدني في المغرب، غير أن أهم ما قام به المفكر المغربي الراحل هو مساهمته في مصالحة جيل من الباحثين المغاربة مع موروثهم الثقافي. سبيلا: الفقيه التقليدي والمفكر الحديث تكلم المفكر المغربي محمد سبيلا باسم الجماعة العلمية التي كان ينتمي إليها الجابري، سواء في التدريس أو نقابة التعليم العالي، حيث قدم في شهادته جردا للمناقب العلمية للفقيد الجابري، الذي مثل «قدوة فكرية ومنارة ثقافية ووصل إلى آفاق كونية رحبة دون عقد وبدون أي مشاعر سلبية». صلابة فكر الجابري مستمدة، حسب أستاذ الفلسفة، من مصادر التي كان يستقي منها الجابري معينه العلمي، والتي جمعت بين الفقه التقليدي الراسخ في الثقافة العربية الإسلامية وبين مقومات الفكر الحديث. لم تكتف شهادة سبيلا فقط بذكر المناقب بل ألقت الضوء على صلابة النسق الفكري للجابري، معتبرا أن محاور هذا النسق تتجاذبه أربع رؤى، وهي «الرؤية النقدية والرؤية العقلانية والشمولية والاستشرافية».