لوحظ ، في الآونة الأخيرة، انتشار ظاهرة التسول بالأطفال، وهي الظاهرة التي اتخذت كوسيلة قصد استمالة قلوب المواطنين بعدما تنفذ إليها عبر كلمات مؤثرة ونظرات أطفال صغار بريئة حتى يحصل المراد في الحصول على بعض السنتيمات أو الدريهمات التي قد تجود بها أريحيتهم . هذه الظاهرة أصبحت اليوم من الأمور المعهودة التي ألفها الناس دون أن تحاربها الجهات المسؤولة، طبقا لما تنص عليه القوانين والاتفاقيات الموقعة في هذا الجانب ، أو يتخلى عنها الأطفال الذين يمارسون التسول تحت ضغط خارجي معين أو الآباء أنفسهم ، أولئك الآباء الذين يجبرون أبناءهم على جلب المال بأية طريقة غير مهتمين لما سيؤول إليه مستقبلهم المجهول مع التسكع والتسول سواء في الأسواق أو الشوارع أو المقاهي أو أمام المساجد أو بالقرب من أبواب المؤسسات البنكية ... ليس من الغريب على مدينة سيدي بنور، أن تستفحل فيها ظاهرة تسول الأطفال بسبب الإهمال وعدم الاهتمام وأحيانا الغربة التي يعاني منها الأطفال بشكل مخيف ، الأمر الذي يجعل معه الحديث عن مرحلة عمرية اسمها الطفولة، ضربا من المستحيل . فمدينة سيدي بنور تعيش هذه الأيام على وقع انتشار ظاهرة التسول، خصوصا في صفوف الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 7 سنوات و 12 سنة ، يجوبون الشوارع ويلجون المقاهي... وأيديهم ممدودة للمارة والجالسين على حد سواء، متوسلين إليهم قصد منحهم « صدقة » أو بما جادت به عاطفتهم عليهم حسب التأثير ... ومن باب الفضول ولرصد الظاهرة قامت الجريدة بتتبع عينات من الأطفال الذين يمارسون التسول، حيث تم الوقوف على حالات اجتماعية متنوعة تختلف من طفل إلى آخر ، وتبين أن من بينهم من يعيل أسرة يقدر عدد أفرادها بالسبعة ، وهناك من يظل النهار كله وجزء من الليل وهو يتسول بين عدة أماكن طامحا في الوصول إلى مبلغ معين من المال ، ومنهم من يظل النهار كله بدون أكل حتى عودته إلى منزلهم الذي قد يبعد عن المدينة بعدة كيلومترات . فبقدر ما كان الحديث إليهم مثيرا بقدر ما كان في نفس الوقت يحز في النفس اغتصاب هذه الطفولة وحرمانها من اللعب ونمو بنيتها الجسدية والعقلية في إطار تربوي وصحي لتتحول إلى إنسان صغير مثقل بهموم ومصاريف الزمن بعيد كل البعد عن الرعاية والحنان والتربية والتعليم ، مما يشكل تناقضا صارخا لما نصت و تنص عليه اتفاقية الأممالمتحدة حول حقوق الطفل والتي صادق عليها المغرب ، وبالرغم من الترسانة القانونية التي يزخر بها المغرب في مجال حماية الطفولة (القانون الجنائي، قانون الأطفال المهملين، قانون الإحسان العمومي، مدونة الأسرة..) إلا أن ظاهرة تسول الأطفال أضحت مستفحلة بشكل خطير داخل المدن وقد نجد من بين أسبابها الفقر، والبؤس، والبطالة، والانحراف، الجهل، والطلاق، ومشاكل عائلية، والهجرة القروية، وانعدام الوعي الجماعي واعتبار التسول وسيلة للعيش وممارسته كعادة. يعيش أغلب الأطفال الذين صادفتهم الجريدة بالقرى المجاورة لمدينة سيدي بنور أو الدواوير الهامشية ، حيث ترتفع نسبة الفقر بين الساكنة ، مما يجعل غالبية هؤلاء الأطفال يغادرون أماكنهم داخل المؤسسات التعليمية ، ويلتحقون بالشوارع بإيعاز من أحد أفراد الأسرة ( الأب أو الأم أو الإخوة ) الذين يدفعون بهم إلى التسول والانحراف المبكر قصد الرفع من مدخولهم لمواجهة ظروف العيش الصعبة التي يعانون منها ، أو بسبب سلوك طائش انفرادي في غيبة عن الأسرة ومراقبتها لسبب أو لآخر، فيكون للأطفال أن يكبروا عن سنهم ليعانقوا هموما هي أكبر منهم بكثير تاركين فترة العطلة الصيفية تمر ضياعا ، قافزين في حياتهم على الاستمتاع بمرحلة الطفولة إرضاء للأسرة أو لطيش تملكهم في غيبة من هذه الأخيرة ، مصطفى البالغ من العمر 10 سنوات القاطن بدوار القرية المنضم مؤخرا إلى المجال الحضري للمدينة يقول : « غادرت المدرسة من المستوى الثاني ابتدائي ، أجول كل يوم رفقة أخي وسط المدينة طالبا الصدقة ، لأن أبي معوق لا يقدر على الحركة بينما أمي فرت من البيت والتحقت بفرقة ( عبيدات الرما ) لم تعد ترغب في العيش معنا فتركتنا لوحدنا ، أعود إلى البيت مع أخي في حدود الساعة السابعة مساء » . تحدث مصطفى للجريدة ويده ممدودة في انتظار الصدقة بدون كلل أو ملل ، حالة ملابسه وملامح وجهه تشير إلى قساوة الإهمال الذي يعاني منه والفقر الذي يعيش فيه ، فمصطفى غابت عنه أمه تاركة إياه مع أبيه الذي لا يقوى على الحركة داخل بيت صغير يفتقد لأبسط شروط العيش البسيط رفقة أربعة من إخوته ، وضعية مؤلمة بالفعل يزيدها آلاما غياب حضن الأم الدافئ بالحنان ليجد حضن الشارع المليء بالعجائب في انتظاره . استمرارا في رصد الظاهرة. انتقلنا إلى إحدى المقاهي القريبة من مؤسسة البنك الشعبي ، التي لم يمض على جلوسي بها سوى بضع دقائق حتى دخل طفل إلى المقهى يطلب من زبنائها صدقة حيث كان يردد جملة واحدة « صدقة الرجل ! صدقة الرجل ! » ثم يتنقل من مائدة إلى أخرى يرتدي ثيابا ممزقة ليس على طرف لسانه سوى جملة « صدقة الرجل ! صدقة الرجل ! » وبمجرد ما أن اقترب منا دون أن أنتظر وصوله إلينا، حتى ناديت عليه وطلبت منه الجلوس قبالتي غير أنه رفض ذلك قائلا « صدقة الرجل ! » . حاولت أن أتقرب منه أكثر فعرضت عليه التكفل به وأنني سأشتري له مقابل ذلك ما يريد ، ورغم ذلك ظل يردد تلك الجملة غير مكثرت لكلامي ،حينها طلبت من النادل أن يمنحه درهما على أساس أن يحكي لي الأسباب التي جعلته يغادر المدرسة ليصبح متسولا وهو لا يزال صغيرا ، آنذاك وبعد أن أخذ الدرهم قال وبصوت خافت : « أبي لم يدخلني إلى المدرسة ، لأنني كنت أساعده في أمور البيت ، حيث كنت أجلب العشب للبهائم و أسقي الماء من البئر ... وهذه السنة بدأ يحملني معه إلى المدينة حيث يشتغل بالعربة بينما أقوم أنا بالتسول وفي المساء نعود إلى منزلنا بعدما أكون قد سلمت مدخول اليوم لوالدي ... » اسمه حسب قوله رشيد يبلغ من العمر حوالي 8 سنوات ، معدل ما يجمعه في اليوم هو 30 درهما ، غير أنه لا يحتفظ ولو بدرهم واحد، حيث استطاع أبوه أن يقنعه على أنه سيشتري له عجلا لكي يربيه في البادية هناك. الأطفال الذين صادفتهم في طريقي كانوا يحكون عن واقعهم المزري ويشكون عوزهم الذي يتضح من خلال مظهرهم الخارجي، ملابس رثة ذهب الزمان بلونها تحمل من الأوساخ ما لا يقدر على إزالته أي مسحوق رفيع ، البسمة غائبة عن وجوههم والحزن يتقاطر من عيونهم وكأنهم غرباء يتمنون من ينقذهم من همومهم ويعيد إليهم البسمة بإرجاعهم إلى حيث يجب أن يكونوا رفقة باقي الأطفال ، إلى من يمنحهم طفولتهم المسلوبة وحقهم المهضوم في العديد من القضايا ، وهنا يتضح غياب دور جمعيات المجتمع المدني خاصة تلك التي تهتم بأمور الطفولة في محاربة هذه الظاهرة بالإضافة إلى محاربة الأمية والفقر... تقصير الجماعات المحلية في تقديم المساعدات الاجتماعية وتسطير برامج قصد تحقيق مشاريع اجتماعية تعود بالنفع على أطفال المنطقة ، مشاريع تنقذهم من مخالب الضياع والانحراف وبالمقابل تخلق أوراشا للتعليم والتكوين في إطار تحقيق التنمية البشرية المنشودة ، وتسعى إلى توفير المرافق الضرورية وتدارك كل ما من شأنه أن يساهم في صون طفولة هذه المدينة التاريخية المعطاءة حيث يلاحظ وبشكل مثير النقص في دور الخيريات ومراكز الإيواء ... وهي عوامل ساهمت في انتشار هذه الظاهرة في صفوف الأطفال. لمعرفة دور الجمعيات في هذا الجانب بهذه المدينة التقت الجريدة بأحد الأشخاص الفاعلين في المجال الجمعوي فضل عدم ذكر اسمه ، حيث عبر عن ظاهرة تسول الأطفال بالقول : « كما هو معروف ، شكل ويشكل الاهتمام بالطفل لبعض جمعيات المجتمع المدني هدفا رئيسيا مثل جمعيات الآباء وتلك التي تهتم بالتربية والطفل والمرأة ... وهو اهتمام طبيعي باعتبار أن الطفل يشكل رجل الغد لهذا الوطن ، وبخصوص ظاهرة تسول الأطفال وانتشارها بشكل مخيف هذه الأيام ، فهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على عدم توفير الوسط الاجتماعي الإمكانيات والآليات التي تمكن الطفل من تحقيق حاجاته الجسدية والنفسية والعقلية ، وأمام احتياجاته التي تزداد باستمرار والتي يعتبر تحقيقها شرطا أساسيا في نمو سوي واندماج سليم . فالواقع الذي يعيشه الأطفال الذين خرجوا إلى الشارع بسيدي بنور يوضح انعدام الإمكانيات المادية الكفيلة بتحقيق تلك الاحتياجات كغياب أو نقص آليات الحماية والرعاية وغيرهما من العوامل، وبالتالي وأمام هذا الوضع بالإضافة إلى الأوضاع الاجتماعية ... يجنح العديد من الأطفال إلى ممارسة التسول ، وبالمناسبة أود أن أضيف هنا أن نسبة تعاطي الأطفال الذكور لهذه الظاهرة أكثر بكثير من نسبة الإناث قد تتجاوز نسبة 90 في المئة وذلك راجع بطبيعة الحال لعدة أسباب . بينما تبقى مواجهة جمعيات المجتمع المدني لهذه الظاهرة على مستوى سيدي بنور، شبه منعدمة إن لم أقل منعدمة فعلا، وهذا راجع بالأساس إلى النقص في تكوين أعضائها من جهة وعدم الاقتناع بأهدافها المسطرة والدفاع عنها من جهة ثانية والأكثر من كل هذا ضعف الإمكانيات... ». اذا كانت الاتفاقيات تؤكد على حقوق الطفل في التعليم والعيش الكريم وضمان سلامته وسلامة صحته التي تتأثر بوضعه المعيشي وأحواله الاجتماعية ... فإن تفعيل النصوص القانونية والتشريعية المتعلقة بهذا الجانب نظرا لما تشكله من ردع ، سيساهم لا محالة في الحد من هذه الظاهرة ، وبالتالي سيضمن الحقوق الكاملة لهذه الفئة المحرومة من الأطفال.