مـع كل صباح يخرجـون مع مرافقيهم من المتسولين، إلى الأرصفـة والشوارع، بحثا عن محسن، يعطيهم ورقة نقدية، يشقون طريقهم إلى خطا الضياع، وخارج حدود المستقبل، يتسولون مكرهين بمآسيهم، وأحزانهم، وتناقضاتهم...إنهم المتسولون الصغار، الذين يحملون طفولتهم على ملامحهم البريئة، ويعرضونها صباح مساء على أرصفة الحاجة والضياع، لتكون سببا يستجلبون به عطف الناس وشفقتهم. وراء كل منهم قصة، ومفارقات كثيرة. وهذا الربورتاج يشكل رحلة مختصرة إلى عالمهم، الذي يخفي الكثير من الأسرار والقصص. طفولة في التسول كشفت دراسة أجريت العام الماضي، عن وجود حوالي نصف مليون متسول، كثير منهم أطفال أبرياء؛ يستغلون للتعاطف معهم، والحصول على الصدقات والأموال. وذكرت نزهة الصقلي وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن، أن التسول الاحترافي، الذي يمثل حسب البحث الذي قامت به وزارتها سنة 4 ,2007,62 في المائة من مجموع المتسولين بالمغرب، يستغل فيها الأطفال والإعاقة والأشخاص المعاقون. وحسب دراسة أجرتها الرابطة المغربية لحماية الطفولة، وهي منظمة غير حكومية سنة 2004 بتعاون مع مديرية التعاون الوطني، وبدعم تقني من وزارة الصحة المغربية. وشملت الدراسة مدينة سلا، والعاصمة الرباط، وضاحيتها الصخيرات وتمارة. فإن الذكور يشكلون 56 في المائة، والإناث 44 في المائة، تربطهم بالمرافقين في الغالب علاقة عائلية. كما أفادت دراسة أن 76في المائة من المتسولين في العاصمة الرباط، يفوق سنهم 35 عاما، و6 في المائة منهم أطفال. وقال رئيس القطب الاجتماعي بولاية الدارالبيضاء زين العابدين الزهر، إن عملية الضبط والتجميع، التي تمت ما بين 12 مارس و31 غشت الماضيين، سجلت ضبط 1838 حالة تسول، مضيفا أن عدد الأطفال الرضع بين المضبوطين؛ بلغ 101 طفل، والبالغين.1030 وهذه نتائج بحث ميداني قامت به العصبة المغربية لحماية الطفولة، بتعاون مع مديرية التعاون الوطني ووزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن، ودعم تقني من وزارة الصحة بولاية الرباطسلا، تمارة الصخيرات : 56 في المائة من الأطفال المتسولين هم ذكور، مقابل 44 في المائة للإناث، وأن 15 في المائة، يتم كراؤهم لمزاولة نشاط التسول، 25 في المائة منهم لم يلتحقوا بالمدرسة، 64 في المائة وصلوا للمستوى الابتدائي، و3 في المائة للثانوي، 28 في المائة في كوخ، 19 في المائة يسكنون الشارع، 70 في المائة يمارسون التسول بصفة دائمة، و30 في المائة بشكل موسمي. و عن الأسباب جاء البحث كالتالي: 9 في المائة من هؤلاء الأطفال يتسولون لمساعدة العائلة، 3,27 في المائة من أجل المأكل والملبس، 3,11 في المائة بسبب المشاكل العائلية، 9 في المائة بسبب الفقر، 9,2 في المائة لجمع النقود، 7,1 في المائة بسبب تشجيع الأصدقاء لهم، 3,1 في المائة يفضلون العيش في الشارع، 9,29 في المائة يكونون مجموعات للسيطرة على الغير، 8,11 في المائة لجمع النقود واقتسامه. أشكال لصورة واحدة تختلف صور عرض الأطفال وطرائق استغلالهم في التسول لاستعطاف الناس، فبعضهم يلجأ إلى تعريته وإظهار أماكن إصاباتهم بأمراض، أوالكشف عن عاهاتهم، وبعضهم يوظف لتوزيع أوراق تحكي الوضع الاجتماعي على ركاب الحافلات. أو ضربه إذا اقتضى الحال لدفعه إلى البكاء للتأثيرعلى المتصدقين، كما يظل الطفل لساعات طويلة دون حركة؛ جالسا على بعض الأوراق الكارتونية، ويقوم بعض المتسولون بتقديم بعض الأقراص المنومة للأطفال، مما يدفعهم إلى النوم لمدة طويلة. كما يشاهد الكثير من الأطفال في حالات مرضية تستدعي العلاج السريع، وقد يصر المتسول به على بقاء الطفل على هذه الحالة لكسب مزيد من الأرباح ... عند عمود الإشارات الضوئية على رصيف شارع شوفوني بسيدي البرنوصي، جلس أحمد - 10 سنوات- بجانب صندوق ورقي يضع فيه المارة بعض الدريهمات، ترقبه عين والده من وراء نظارة سوداء قاتمة، وهو يتلصص على الفئات النقدية التي تملأ فراغ الصندوق، يعدها بصوت مهموس، يستجلب عبره وقتا مستقطعا يسترجع به أنفاسه شي حسنة...(درهم) قبل أن توقظه عصا والده وهي تهوي على رأسه بلا رحمة، ينتفض جسده الصغير وهو يستكمل اللازمة..الله يرحم الوالدين..، إنه الناطق الرسمي بحاجة والده، وحالات الشرود عن المهمة لا مكان لها في المهنة... مشاهد تحتضن الواقع اليومي للطفل أحمد، في رحلة تمتد من ساعات الصباح الباكر إلى أن يحل ظلام الليل، مصير مجهول . . مستقبل قاتم ينتظر أحمد، الذي قادته ظروف أهله، قهرا، لاستبدال فضاء المدرسة بالشارع العام، لتصيد رزق يومي، وتعلم فن حياة التسول، التي يحيا بين أحضانها، لغات متعددة عليه أن يتقن التعامل مع متطلباتها، فتارة والده أعمى وهو يقوده، وتارة هو مريض ولهفة الوالد على علاجه تدفعه للتسول به، ومرة طردتهم الفاقة للشارع، وتارة أنهكهم الجوع، ويحتاجون إلى ما يسدون به الرمق، وأحيانا أخرى هم عابروا سبيل انقطع بهم الحال.. لكن الطفلة عطوة كما يسميها زملاؤها في الدراسة، اكتسبت هويتها من تسول والدتها، التي ظلت تتنقل بها منذ بلوغها سن الثالثة من عمرها، بين الشوراع والدروب والأزقة،وبينما كانت الأم تعتبرعطوة مصدر استدرار عطف القلوب الرحيمة، كانت الطفلة ترى في ذلك فسحة يومية تحس فيها باهتمام زائد من والدتها، خاصة وأن غنيمتها من الحصيلة تكون وافرة من نقود وحلويات...عندما أدرك وعيها حقيقة الواقع، كانت قد اعتادت على ارتداء ملابس بالية، وترك شعرها أشعثا، واستأنست بالأخذ، فصارت الصورة عندها مرتبطة بأن كل ما تريده يمكنها أن تتسوله. بمجرد ما تنتهي حصصها الدراسية، تلتحق بالمكان الذي تستغله أمها للتسول، وهي وجهتها الوحيدة أيام العطل والإجازات المدرسية. واكشفت أن ابنتها كثيرا ما تعرضت للضرب من قبل مجموعة من الأطفال، وكثيرا ما يسرقون منها كل ما تتسوله، و أضافت أنها كثيرا ما تسمع من بعض المراهقين كلاما سيئا... بعيون متسولين تحت ضغط الواقع المعيشي الصعب؛ لجأ محمد إلى امتهان واحتراف التسول وسيلة للكسب، بعدما سدت في وجهه كل محاولات البحث عن العمل. يتسول ونظراته مشدودة إلى طفله الصغيرذي الأربع سنوات، يتابع شغبه باهتمام وانشراح، وكلما لاح له أن طفله ابتعد عنه، يسرع لاحتضانه وهو يلاعبه. حين طلبنا منه الحديث في الموضوع لم يجد مركب نقص في ذلك، قال : لدي من الأبناء ستة، وكلهم مروا من هذه المرحلة، هي ست سنوات ضرورية في تكوين صغاري قبل بلوغهم سن التمدرس، اصطحبهم بالتوالي، وكلما بلغ أحدهم سن السادسة أدخله إلى المدرسة، وأجلب أخاه الأصغر منه، وهكذا.. محمد يصر على أن وجود ابنه معه، يدخل في إطار ما سماه بالتسول بالأطفال من باب عدم غش الناس، حين أصطحب ابني - يقول محمد - ليس بقصد استغلاله لاستعطاف الناس، وإنما فقط هو يجلس بجانبي، وأحاول أن أوفر له كل ما يحتاجه من رعاية، لكي يعلم الناس أنني أعيل أسرة، ولأجل ذلك أنا مضطر للتسول، ولكنني لا أتمنى لهم هذه المسار، لذلك أنا أعول على مسارهم الدراسي في انتشالي من هذه المهنة. أما العربي، وبعد تمنع شديد، فقرر الحديث عن الموضوع، وأشار إلى أن ابنه الأكبر ضاع منه بعدما بلغ 15 سنة من عمره، قال: شهدت على انحرافه، عندما كان يغافلني ويحمل سجائر من دون أن أردعه، ثم بدأ يغيب للحظة ويتسول المارة، ليقتني مواد مخدرة، قبل أن يعود إلي فاقدا لوعيه، كنت أعنفه، ولكن حاجتي إليه في التسول، كانت تجعلني أتغاضى عن تصرفاته، وهو يكبر كان يكبر معه عناده، إلا أنه استقل عني في احتراف التسول، فزاد تعاطيه للمخدرات، إلى أن ذهب بغير رجعة. على الطرف المقبل، نساء يحملن أطفالا، يستجدين المارة في ساعات النهار وفي آخر الليل، تقول فاطمة في لقائنا بها بعد تردد هذا رزقي ورزق أولادي، ليس لدي شهادة أعمل بها، ووجدت أن خير وسيلة للحصول على المال، هي التسول، ولأن قلوب الناس أصبحت من حجر، ولأنه كثر المتسولون، فالشاطر هو من يحسن شكل التسول، لذلك؛ وحتى أحصل على المال من المارة؛ أحتضن ابنتي الرضيعة مكرهة لتحن القلوب من أجلها. وتصف خديجة ظروف حياتها السيئة؛ التي دفعتها إلى التسول، تقول: أخرجت ابنتي من الصف الثالث ابتدائي، لأنني لم أكن قادرة على الإنفاق عليها بعد وفاة زوجي، لذا أخرج صباحا من الساعة السادسة، وترافقني في الجولة؛ فهي تساعدني على طرق البيوت ونحن نتسول. أمنيتي في الحياة أن يتحسن وضعنا، وبعدها أقسم أنني لن أتسول أبـدا، وأعوضها عما حرمتها منه.