أضحت علاقة دول المهجر بمهاجريها تتجه أكثر فأكثر في اتجاه الحذر والاتهام والخوف المتبادل بين المكونات الأصلية للمجتمعات الغربية والمكونات الأجنبية الوافدة عليها، وفي هذا الصدد يقول المفكر السويدي إنجماركارلسون في كتابه»الإسلام وأوروبا تعايش أم مجابهة؟»: «لا شك أننا نقف على مشارف تغيرات جذرية في الهوية الأوروبية، إن ظواهر التفرقة والعنصرية والتعصب والقومية الضيقة تستفحل وتتفاقم بسرعة متزايدة في عموم بلدان أوروبا كرد فعل متوقع نتيجة تعاظم معدلات الهجرة التي تبدو حاليا ضئيلة بالمقارنة مع ما ستكون عليه في المستقبل». في البداية لا بد من التذكير بأهمية إدراج هذه الندوة ضمن سلسلة الندوات العلمية والأنشطة التي تستضيفها جامعة المعتمد ابن عباد الصيفية في إطار موسم أصيلة الثقافي الدولي الثالث والثلاثون، والتي جاءت لتناقش واحدا من أهم المواضيع والإشكالات الهامة التي تطرحها الهجرة في علاقتها بالمسألة الهوياتية. فاختيار موضوع هذه الندوة «الهجرة: بين الهوية الوطنية والهوية الكونية»، والتي تنظم بشراكة وتعاون بين الوزارة المكلفة بالجالية المغربية المقيمة بالخارج ومؤسسة منتدى أصيلة، ليكتسي أهمية بالغة بالنظر لما عرفته وتعرفه مجتمعات الهجرة خلال العقدين الأخيرين من تحولات اجتماعية، ثقافية واقتصادية، ناهيك عن التقلبات السياسية الراديكالية، والتي أثرت بشكل أو بآخر على واقع المهاجرين بدول الاستقبال، وأفرزت خطابا جديدا حول الهجرة في علاقتها بالإشكالية الهوياتية ينحو في اتجاه الضغط وفرض إجراءات متشددة وتمييزية تتجه نحو الدفع بالانصهار مقابل التضييق على المهاجرين في الحفاظ على هوياتهم الأصلية وممارسة حقوقهم الثقافية والروحية. لا أحد ينكر اليوم وجود اختلاف وتباين في السياسات والتوجهات والرؤى بين دول الانطلاق ودول الاستقبال في التعامل مع ظاهرة الهجرة والمهاجرين، وحتى بين دول الاستقبال نفسها، ويتحكم في ذلك تداخل مجموعة من المصالح الاقتصادية والأمنية وحتى السياسية التي تخص كل دولة على حدة، وهو ما تترجمه المقاربات المتخذة من طرف مجموعة من حكومات دول الاستقبال في تدبيرها للهجرة والتي غالبا ما يحكمها الهاجس الأمني الصرف في غياب لمفهوم المعالجة الشمولية والتشاركية للظاهرة واستحضار الأبعاد الإنسانية والحضارية والتي من شأنها الإجابة على العديد من الإشكاليات الجديدة التي تطرحها الهجرة، بما في ذلك مسألة الهوية. إن التدبير الأمثل للهجرات الدولية يتطلب عدم النظر إليها كمصدر للمشاكل والتوتر، ولكن يجب التعامل معها كظاهرة إيجابية منتجة للثروات وآلية لإغناء الحوار والتعايش بين مختلف الشعوب والثقافات، فالأكيد أن الدول الصناعية وفي مقدمتها بلدان الاستقبال التي تجني استفادة كبيرة من الهجرة الدولية، وكل الدراسات تؤكد استمرار احتياجها لليد العاملة الأجنبية, سواء في القطاعات التي تتطلب كفاءات عليا، أو تلك التي تحتاج إلى مهارات متوسطة وصغيرة. غير أن الملاحظ ، أنه بالرغم من ذلك، وأمام تعقد وتنوع المشاكل الجديدة التي صارت تطرحها الهجرات الدولية، فلا زال الاتجاه العام في أوربا وسائر دول المهجر الغربية هو تبني حكوماتها تدابير وإجراءات متشددة ومقيدة للحقوق الثقافية للمهاجرين وممارسة الحريات الدينية، ومقاربتها لقضية الهجرة من زاوية أمنية ضيقة تميل إلى الخلط بين تقنين وضبط الهجرة وبين استراتيجيات محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة، وهو الخلط المغلوط الملاحظ بشدة خلال السنتين الأخيرتين على مستوى الربط بين الهجرة و التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية من خلال تأكيد بعض المنابر والتيارات على أن المهاجرين هم السبب المباشر في تزايد نسبة البطالة لدى السكان الأصليين، وهو ما يفتح الباب للعديد من وسائل الإعلام وبعض السياسيين والمثقفين في العديد من الدول الغربية لتشويه صورة وثقافة وحضارة المهاجرين خاصة منهم المسلمين، والمناداة بوقف الهجرة وقدوم المهاجرين. وبالتأكيد، فإن هذه المقاربة والتسييس المبالغ فيهما لموضوع الهجرة هي أحد الأسباب المباشرة في إعاقة عملية الاندماج والتعايش الإيجابي في مجتمعات الإقامة، ومصدر أساسي من مصادر تنامي التوترات الاجتماعية والتطرف السياسي، والانحراف العرقي والديني، مما يجعل مستقبل الهجرة وهوية المهاجرين في وضعية مقلقة. إن ما يقلق في هذا الشأن، أن يكون منبع ومصدر مختلف هذه الأزمات يتمثل في عنصر لا يقل أهمية بل وبات له دور بالغ الحساسية، الأمر يتعلق بالدفع نحو الانصهار عوض الاندماج، وبتراجع ثقافة التعايش والتساكن وعدم احترام الاختلاف مقابل تزايد المد العنصري والتمييزي، وامتداد رقعة التطرف وكراهية الآخر، ومما لاشك فيه أن هذا التراجع وذلكم التزايد يوفران الظروف المناسبة لنشوب التوترات بين مجتمعات الإقامة والمهاجرين، وبروز تداعيات سلبية على الحقوق الأساسية للمهاجرين وعلى المكتسبات التي راكموها خلال عقود متوالية، خاصة ما يرتبط منها بالحقوق الثقافية والروحية حيث أصبح يلاحظ وجود تضييق متنامي على الهويات الثقافية الأصلية للمهاجرين وممارساتهم لحقوقهم الثقافية المختلفة عن ثقافات بلدان المهجر والمضمونة من طرف العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية، وهذا ما ينذر بانعكاسات مدمرة وخطيرة على مستقبل الأجيال الناشئة واستفحال النقص في مد جسور الحوار بين ثقافات الشعوب المختلفة. وأمام التنامي المتصاعد لمختلف الأزمات التي صارت تطرحها الهجرات الدولية بشكل عام يلاحظ تغييب شبه مطلق للمنتظم الدولي لطرح ومناقشة موضوع الهجرة في علاقتها بالهوية وإشكالية الاندماج وتداعياتها المحتملة على الاستقرار والتعايش، مع تسجيل كذلك تغييب البعد الثقافي للهجرة في معظم المنتديات الدولية والمشاورات الإقليمية القائمة حول الهجرات الدولية وفي مختلف الحوارات السياسية بين دول الأصل ودول المهجر. إن استمرار وتكريس مظهر التعايش الحضاري والثقافي الذي تسجده الهجرة والمهاجرين داخل بلدان الاستقبال رهين بضمان احترام حق التشبث بالهوية الأصلية وعدم الانسلاخ عنها وكفالة ممارستها على أوسع نطاق في ظل انسجام وتناغم مع قوانين وخصوصيات مجتمعات الهجرة. إننا مقتنعين كل الاقتناع بأن الثقافة تعد البوابة لتحقيق تكريس هذا التعايش بين الحضارات وتشكل عنصر استقرار للجاليات المهاجرة والمدخل الأساس لإنجاح اندماجها في مجتمعات دول الاستقبال دون الشعور بمركب نقص اتجاهها، وهو الهدف الذي نؤمن بأنه لا يمكن أن يتحقق من دون التعاون وتكامل الأدوار بين الفاعلين الحكوميين والمدنيين في دول المصدر ودول الاستقبال. من هذا المنطلق شرعنا في المغرب في تنفيذ تجربة للنهوض بالعمل الثقافي بدول المهجر، ربما هي متواضعة في إمكانياتها لكن ليس في طموحاتها، قوامها إقامة شراكات متوازنة ومسؤولية مع السلطات المحلية لدول الاستقبال لتوفير عرض ثقافي ملائم للمواطنات والمواطنين المغاربة بالخارج، ما فتئت تطالب به، يمكنها من الاطلاع على هويتهم الأصلية بمختلف مكوناتها وأبعادها وحضارة وطنهم الأم المنفتحة على الآخر. ولبلوغ هذا الهدف الاستراتيجي وضعت الوزارة المكلفة بالجالية المغربية المقيمة بالخارج رزنامة من البرامج والمبادرات الثقافية، يشكل عمودها الفقري إحداث مراكز ثقافية مغربية بعدد من دول المهجر التي تحتضن أكبر الجاليات المغربية بشراكة مع سلطات بلدان الإقامة. وقد شرعت الوزارة في إحداث 7 مراكز ثقافية مغربية في كل من بلجيكا (بروكسيل)، إسبانيا (برشلونة)، كندا (مونتريال)، فرنسا (بمونت لاجولي بضواحي باريس)، ليبيا (طرابلس)، تونس (تونس العاصمة) وهولندا (أمستردام]. وتأتي فكرة إحداث هذا النوع من المراكز الثقافية إيمانا بالدور الاستراتيجي المركزي في مساهمتها الفعالة في تمكين الأجيال المغربية الناشئة بالخارج، التي تتزايد أعدادها يوما بعد يوم، من الحفاظ على هويتهم الوطنية ومساعدتهم على الاندماج الإيجابي داخل مجتمعات الاستقبال، وبالتالي الإسهام في إنجاح مشروع حياتهم الشخصي بكل تبات واطمئنان. فكما يقول المثل «الإنسان الذي لا يعرف من أين أتى لن يعرف أن يتجه أو يذهب». إن أحد المنطلقات الأساسية لهذه الفضاءات الثقافية يتجسد في الإسهام المثمر في سد الفراغ الثقافي الملموس الذي تتسع هوته، من جهة، نتيجة غياب البدائل الثقافية الجادة, سواء من الطرف المغربي أو من طرف السلطات المحلية، ومن جهة أخرى، بسبب تنامي خطر المشاهد المتزايدة للتطرف وكراهية الأجانب. ويجب التأكيد في هذا الصدد على أنه من بين ثوابت الهندسة الثقافية لهذه المراكز، الإنفتاح على ثقافة وحضارة الآخر، عبر احتضان الأنشطة الثقافية لمختلف الجاليات الأجنبية الأخرى والسكان الأصليين لبلدان المهجر، وهو ما من شأنه أن يجعل منها أرضية مناسبة للتفاعل الثقافي وفضاء لتلاقي الثقافات وحوار الحضارات، والإسهام في تعزيز قيم الحوار والاحترام المتبادل، وتوطيد مبادئ التعايش بين الشعوب والأجناس المختلفة، ومن تم تحقيق الاندماج الإيجابي داخل بلدان الإقامة. ومن بين المبادرات والمشاريع التي وضعتها الوزارة كذلك لتعزيز الهوية الثقافية للأجيال الجديدة لمغاربة العالم ما يلي : * تنظيم الجامعات الصيفية لشباب مغاربة العالم، * تنظيم رحلات ثقافية واستطلاعية ومخيمات صيفية لأطفال وشباب مغاربة العالم، * تنظيم المدارس الصيفية لأطفال مغاربة العالم. مع الإشارة إلى الحرص الدائم على إشراك الأطفال والشباب من جنسيات مختلفة في المشاركة في هذه الأنشطة تحقيق لروح التعايش والتلاقح الثقافي المنشود. كما يضاف إلى ذلك، المجهودات الكبيرة التي تقوم بها الحكومة للنهوض بتعليم اللغتين العربية والأمازيغية والثقافة المغربية بالخارج للأطفال المغاربة. لقد أضحت علاقة دول المهجر بمهاجريها تتجه أكثر فأكثر في اتجاه الحذر والاتهام والخوف المتبادل بين المكونات الأصلية للمجتمعات الغربية والمكونات الأجنبية الوافدة عليها، وفي هذا الصدد يقول المفكر السويدي إنجماركارلسون في كتابه»الإسلام وأوروبا تعايش أم مجابهة؟»: «لا شك أننا نقف على مشارف تغيرات جذرية في الهوية الأوروبية، إن ظواهر التفرقة والعنصرية والتعصب والقومية الضيقة تستفحل وتتفاقم بسرعة متزايدة في عموم بلدان أوروبا كرد فعل متوقع نتيجة تعاظم معدلات الهجرة التي تبدو حاليا ضئيلة بالمقارنة مع ما ستكون عليه في المستقبل» وهذا ما ستترتب عنه، لا محالة، جملة من العواقب الوخيمة، التي تقف حجرعثرة في سبيل أي تعايش منشود بين مختلف عناصر ذلك الواقع، كالعنصرية والتمييز والإقصاء وتفاوت فرص العمل والتأخر الدراسي والفقر... و تتجلى أهم الأسباب الراهنة التي تقف وراء تيارات المد العنصري اتجاه المهاجرين فيما تقوم به أحزاب اليمين المتطرف، التي تكشف عن عدائها الكبير للمهاجرين من خلال خطاباتها السياسية وبرامجها الحزبية، من تحريض وتشويه ضدهم، هذا بالإضافة إلى تحامل مجموعة من الحركات الاجتماعية والثقافية والمثقفون والكتاب والسينمائيون الأوروبيون، الذين يساهمون بآرائهم في خلق صور نمطية ومضللة، وإفشائها في المجتمع عبر مختلف وسائل الإعلام. لقد أصبح من الضروري التفكير في الحلول المناسبة لكل المشاكل التي أصبحت عالقة بالهجرة من أجل العمل على ترسيخ ثقافة قبول الآخر المختلف، وذلك عبر المرور من اعتبار الهوية الوطنية ككيان غير قابل للتعايش إلى امتلاك هوية كونية تقبل الآخر وتحتفظ بخصوصياتها الأصلية، ولا يتأتى ذلك إلا بمساهمة الجميع من مثقفين وسياسيين وإعلاميين وباحثين ومواطنين، وذلك عبر وضع مجموعة من الآليات العملية التي تقتضي توظيف جملة من الإمكانيات المادية والبشرية والإعلامية لمكافحة ظواهر العنصرية وبغض وتنميط الأجانب. ويلاحظ في السنوات الأخيرة أن الإعلام أصبح أكثر قربا ومواكبة واهتماما بتسليط الضوء على موضوع الهجرة بكل أبعاده وتجلياته، وبخاصة الإعلام الغربي، الذي أصبحت بعض منابره تؤدي دورا جوهريا في صياغة صورة مغلوطة حول الهجرة والمهاجرين، إذ تعمل العديد من هذه الوسائل الإعلامية المطبوعة والمسموعة والمرئية و الإلكترونية على تقديم مختلف القضايا ذات الصلة بالهجرة بشكل مشوه، يفتقد إلى الموضوعية والمصداقية والتجرد العلمي. إن حملات التضليل الإعلامي المغرضة هاته لا تخدم في شيء مبادئ التعايش وقبول الأخر والاختلاف وقيام مجتمع متماسك تتعايش فيه الثقافات والأجناس، بل يقوض مسلسل الحوار الحضاري والتلاقح الثقافي بين الشعوب. فلا يخامرنا شك بأن مقاربة موضوع الهجرة في علاقته بالهوية وبسطه للنقاش في مثل هذا اللقاء، وبحضور مجموعة من الباحثين والمهتمين بقضايا الهجرة سيساهم في بلورة رؤية جديدة تدفع باتجاه جعل الهجرة رافدا أساسيا من روافد مسلسل حوار الحضارات والثقافات. هذا الأخير أصبح من المفروض توفير الظروف الملائمة والآليات المناسبة لإنجاحه. فما الذي يقتضيه توفير هاته الظروف؟ وكيف السبيل لوضع خطة عمل شاملة ومشتركة للنهوض بأدوار الهجرات الدولية والمهاجرين في تنشيط الحوار بين الثقافات وتحقيق التعايش والتلاقح الثقافي؟ ثم ماذا عن معيقات وأسباب ضعف التبادل والتعاون الثقافي الموجه للمهاجرين بين دول المهجر ودول الأصل والحلول المناسبة والآليات الكفيلة بتطوير هذا المجال والدفع به كأداة محورية لتحقيق الاندماج دون الانسلاخ ؟ وهل دول وشعوب المهجر واعية بأهمية التعدد والتفاعل الثقافي لإنجاح اندماج الأجيال الجديدة للهجرة وماهي الضمانات والآليات التي توفرها للحفاظ على الهوية الوطنية الأصلية للمواطن المهاجر كجزء من الهوية الكونية ؟ ثم ما هي الفرص الممكنة لتأسيس إطار لعلاقات جديدة بين الثقافات الأصلية للمهاجرين وثقافات بلدان المهجر, مبنية على الاحترام المتبادل والتفاهم وعلى التجاوب مع التطلعات والاحتياجات. فما سيتم تقديمه من مساهمات وما سيدور من نقاشات من طرف كل المتدخلين في هذه الندوة، سيقدم إجابات موضوعية وصريحة لمختلف التساؤلات المطروحة، كما ستتمخض عنه خلاصات نوعية وتوصيات مهمة وذات قيمة مضافة، والتي ستسعى الجهات الحكومية من جهتها إلى بلورتها في إطار برامج مندمجة وتشاركية مع مختلف شركائنا ببلدان الاستقبال.