سنجعل فاتحتَنا إلى هذا التأمل الأعمالَ التي وضعها علماء النفس وعلماء الاجتماع الأمريكيون، المؤتلِفون ضمن فريق مجلة «علوم نفس الشعوب». فهي أعمالٌ تسعِفنا في تحديد عدد من المفاهيم والتصورات ذات الفائدة للنقد الغربي في ما يخوض فيه من بحوث ويقوم به من تقصيات. لولا أنها أعمالٌ تظل محدودة الفعالية بحكم نسبيتها، وبحكم أنها لم تحز المقبولية على الصعيد العالمي. إن كل صورة، وكل شعب، نموذج، وكل فترة مختارةٍ تقتضي بناء منهاج خاص لا يمكن سحبه، إلا في نطاق محدودٍ، على تحليل من النوع نفسِه. فالرغبة التي أعربت عنها سلفين ماراندون في خاتمة الفصل الذي عقدته للمشكلات المنهاجية؛ تلك الرغبة المتمثلة في - التمكين من إعادة صنع التجربة -، هي رغبةٌ محمودةٌ، لو اعتبرنا بغاية هذا المشروع، ومن المستحيل علينا أن نسلم بها من الناحيتين النظرية والمنهاجية. فنحن نرى بالإمكان أن نأخذ منها ببعض المفاهيم وبعض التصورات وبعض المقترحات، لكن يصعب علينا أن نتوسَّل المنهاجَ نفسَه إلى الموضوع الذي نريده بهذه الدراسة؛ أعني صورة المغرب في الأدب الفرنسي، وإنه لموضوع شديد الرحابة، بالغ التعقيد. فلدراسة تكوُّن الصورة وتحوُّلها وإنشائها وإعادة إنشائها ووظيفتها واستمرارها، يكون من الضرورة الحيوية أن الشروع في إطار بحث يأخذ بالعديد من التخصصات، في إنجاز أبحاث واستقصاءات تاريخية واجتماعية وعراقية ودراسات تتناول الطبائع والأمزحة، لخلفية كاملة للصورة، التي ربما كان تحليلها الآن أكثر تسويغاً وأكثر استعجالاً من استقصاء الأسطورة. ونؤمل أن يرى ذلك النورَ، وأن تسهم مقاربتُنا في عملية لتفنيد الأسطورة نتوقع لها أن تجوّد اتصالاً صار بعدم التفاهم أو التجاهل أمراً صعباً، وحتى ليكاد يكون أحياناً من قبيل الخيال. لكن ما هي الحدود التي تنحد بها مهمتنا؟ إن من أولى المشكلات التي تواجهنا، إذا استثنينا مسألة الذاتية والحدس والمواقف المسبقة، هي مشكلات من طبيعة تصورية. فهل ينبغي لنا أن نتوسل بمفهوم الصورة أم بمفهوم الأسطورة في حديثنا عن البلد الذي نتخذه نموذجاً، وهو عندنا المغرب؟ وقد ربما بدا هذا السؤال تافهاً، بالنظر إلى أن كلمة «صورة» وكلمة «أسطورة» قد صارتا اليوم تنسحبان على الوقائع نفسها، وأنه بعد التعريف الذي جاءت به ماروندون لكلمة «صورة» والتعريف الذي جاء به روبول لكلمة «أسطورة»، وهما تعريفان يلتقيان مع بعضهما، إلا من بعض الفروق الهيِّنة، حتى ليصيرا في حكم المترادفين أتم ترادف، وبعد العمل الذي وضعه ليون فانوذ سيفر، لم يعد مسوِّغٌ للتردد في اختيار المصطلحية التي باتت، في ما يبدو، مكرسة، قد تحقق حولها الإجماع. غير أننا نعتقد أن هذه الصعوبة النظرية ستواجهنا في شأن بعض البلدان النماذج، بل إنها لتواجهنا في شأن معظم هذه البلدان، ولسوف يتفتَّق الحل المعتمَد بصورة نهائية، عن قرائن ستحسم في شأن المنهاج الواجب اتباعه في هذا البحث برمته. ولذلك يكون التأمل المنهاجي أمراً لازماً كلما اتجهنا إلى دراسة صورة شعب من الشعوب. وينبغي لنا، ونحن نستعين بالتأملات النظرية إلى تناول المشكلات العامة، أن نُعيد ابتكار منهاج خاص بكل نموذج يقع عليه اختيارنا، باعتبار وجوه الأصالة في وضعيته الخاصة. فقد أصبح الباحثون يُجمِعون في الوقت الحاضر على التأكيد أن بلداً من البلدان يكوِّن صورة تمثيلية لبلد آخر حسْب مقدار الاهتمام الذي يكون له نحو شعبه، أو الاهتمام الذي يبعثه فيه، لأسباب سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو وجدانية. فكلما زاد اهتمامنا بشخص من الأشخاص، أو جماعة من الجماعات، إلا زادت الصورة التي نكوِّنها عنه / عنها، بدون وعي منا، قوة وتجسداً، وزادت حظوظ الباحث في إيجاد أرض ملائمة لأبحاثه واستقصاءاته. ومنذ أن بدأ التوسع الأوربي، ولاسيما في النصف الأول من القرن التاسع عشر، شرعت أوروبا في شن حربها السياسية والعسكرية للهيمنة على شمال إفريقيا، يحرِّكها الطمع في خيرات بعض البلدان وطاقاتها. وتُعتبَر سنة 1830 تاريخاً صارخاً بالاهتمام الذي صار لفرنسا ببلدان المغرب. ومن البدهي أنه لسبْر الأسطورة ينبغي اتخاذ هذه الفترة مبدأ لأبحاثنا؛ فهي قد تفتقت عن أدب سيخلِّف لنا وثائق نفيسة لدراسة مسكوكات ومسبقات وكيفية تكوُّنِها. لكن إذا كان هذا الأمر يصح على شمال إفريقيا وإفريقيا السوداء، فيبدو لنا أن صورة بلدان المغرب قد تبلورت قبل حدوث التوسع الاستعماري، غير أن هذه الصورة قد بحثت، مع ذلك التوسع، عما يرسخها ويقيم لها المبررات. فبلدان المغرب عامة، والمغرب خاصة، تشترك في أسطورة أشد اتساعاً وأشد تعقداً؛ تلك هي أسطورة الشرق. فقد أجَّج التوسع الاستعماري من الاهتمام الذي كان لأوروبا على الدوام بالشرق، أواقعياً كان أو أسطورياً؛ ذلك الشرق الممتد من إسبانيا إلى إيران، والذي ظل يستثير الخيال الفرنسي على الدوام. ولذلك نطرح مشكلة مصطلحية «صورة المغرب حقاً، لاأسطورة المغرب، لأن هذا المصطلح المحمَّل إيحاءات وجدانية ينبغي الانتصار به على هذا المجموع الشاسع والشاذ والمخيف المسمَّى شرقاً إسلامياً، وينبغي الاقتصار به على جماع هذه الحضارة الأوروبية، التي كانت على الدوام مثاراً للكراهية والحمية، لكنها لم تلق اللامبالاة أبداً. والمغرب جزء لا تجزَّأ من هذا الشرق، وعنصر خاص تندغم خصوصياته في هذا المجموع الذي لم يشكِّل في الواقع وحدة محققة، وإنما وحَّدتها مختلف سيرورات الأسْطرة التي ابتكرها الوعي الغربي في موضوعات وصور وخطاطات تكون أحياناً في بساطة تبعث على الاستغراب. (زاوية تصدر كل يوم سبت)