بنا من المتعارف عليه أن مثقفي دول العالم الثالث الذين هاجروا أو تم نفيهم إلى المدن الكبرى، ينطلقون من وعي رافض في تناولهم للخطابات السائدة وإعادة كتابتها في خطاب مضاد للغرب، مؤكدين حضورهم في هذا العالم وإزاءه، بوصفهم منتمين إلى هويات حضارية مختلفة، وتراثات متباينة، ومدارس فكرية متعددة، يجمع بينهم التمرد على الخطاب المركزي الذي يصدره العالم الأول، وعلى كل خطاب مركزي في أي شكل من أشكال الكتابة، و الهدف منه تفكيك محاولاته للهيمنة على المناطق التي قدِم منها هؤلاء المثقفون و الكشف عن تحيزات العرق والجنس، وآليات القمع والاستغلال، وتخييلات الاستعلاء، وتمثيلات التابع في خطاب المتبوع، بصورة أدق زحزحة أسطورة الأصلاني الكسول -المرادفة للسيطرة والسيطرة في العمق هي القوة- التي روجت لها سرديات الغرب و مروياته ، وبذلك يصبح الناقد المابعد استعماري بفضل عبور الحدود أكثر قدرة على التحرر من العوائق التي قد يقع في شركها الناقد القومي في العالم الثالث، وبذلك تم تأسيس محاور مركزية للنقاش من خلال التركيز على كيفية تأثير الإمبريالية في مستعمراتها ، ومن ثم كيفية رد تلك المستعمرات السابقة على الخطاب الإمبريالي وتعرية لتجليات أساطير الهيمنة البيضاء، و بحثا عن عوالم أخرى تؤكد التعددية الإنسانية، وفي محاولة لتصحيح وجهة نظر الغربية عنها، و في هذا الإطار يعتبر الكاتب الأمريكي من أصل فلسطيني (إدوارد سعيد)، من أشهر من تحدث عن مصطلح ما بعد الاستعمارية و طوّره ووسّع مباحثه، لاسيما في كتابه (الاستشراق) والذي شفعه بكتاب آخر هو (الثقافة والإمبريالية)، ولعله هو المؤسس الحقيقي لهذا الموضوع وهو من لفت النظر إلى المصطلح . * أستاذ باحث بالكلية المتعددة التخصصات بالرشيدية في المصطلح : إن مصطلح «ما بعد الاستعمار» أحد مصطلحات «ما بعد» :( ما بعد البنيوية ، و ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار ...الخ )،وهي مصطلحات،راحت على مدار العقود الثلاثة الماضية تتكاثر على الساحة الثقافية وتنتقل من حقل من حقول الثقافة إلى آخر من السياسة و الاقتصاد إلى الفلسفة إلى الأنثربولوجيا إلى التاريخ و الجغرافيا إلى الأدب و النقد الأدبي ...إلخ ، فالشمولية التي تحوي المصطلح تكمن في أسلوب الطرح والتعامل مع قضايا متفرعة ومتنوعة لا تقف عند حد معين، ومن ضمنها الصراع الحضاري والتعالي في استخدام مصطلح الشمال في مواجهة الجنوب، والنظرة الفوقية والمركزية الأوروبية أو الغربية... و يأتي إدوارد سعيد في طليعة من حدد فضاء «ما بعد الاستعمارية»، فقد استطاع في كتابه «الاستشراق» 1978 أن يفتح حقلا معرفيا من البحث الأكاديمي هو الخطاب الاستعماري، خطاب تلتحم فيه القوة السياسية المهيمنة بالمعرفة و الإنتاج الثقافي، فهناك شبه إجماع بين الدارسين على الدور الذي لعبه الكتاب السابق كعلامة هامة على بداية هذا الحقل في صورته الأكاديمية و التنظيرية، لأنه يشكل الأساس الذي تقوم عليه أحدث النظريات النقدية المعاصرة وهي«نظرية ما بعد الاستعمار»، من خلال الكشف عن إشكاليات الخطاب النقدي و الثقافي الغربي . وإذا كان مفهوم «ما بعد الاستعمار» بمعناه الحالي دخل إلى الخطاب النقدي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، فإن نظرية مقاومة الاستعمار تعود إلى بداية حركة الاستعمار ذاتها. فدلالة مصطلح«ما بعد الاستعمار» لا يتضمن فقط ما بعد المرحلة الاستعمارية، بل إنها مقاربة نقدية أيضا تبرز من الاستعمار لتصارع أسسه، إنه مصطلح يحاول العثور على القاسم المشترك بين مجتمعات العالم الثالث في مواجهة الاستعمار، وما تركه من آثار على الثقافات والمجتمعات. على الرغم من أن مصطلح «ما بعد الاستعمار» لم يستخدم بلفظه إلا في عام 1985، وذلك من قبل الناقد الأسترالي SIMON DURING في مقالة له بعنوان «بلوغ اليابسة»1 ، إلا أن الدراسات «ما بعد الاستعمارية» كانت قد بدأت في الظهور منذ بداية العقد الخامس من القرن العشرين، ومنذ ذلك التاريخ أي منتصف الثمانينيات بدأت الدراسات تستخدم المصطلح بلفظه، وأصبحت الكلمة «ما بعد الاستعمارية» تظهر في عناوين المجلات و الدوريات المختلفة، واستعمل بشكل موسع و معمق في مجموعة من المقابلات مع ناقدة أمريكية من أصل هندي GAYATRI SPIVAK حملت عنوان THE POST- COLONIAL CRITIC (الناقد ما بعد استعماري) ونشرت في كتاب بهذا العنوان سنة 1990. ولعل المفهوم الذي قدمه مؤلفو كتاب : THE EMPIRE WRITES BACK , THEORY AND PRACTICE IN POST COLONIAL LITERATURES (الإمبراطورية ترد بالكتابة ، آداب ما بعد الاستعمار، النظرية و التطبيق)، وهم ثلاثة من بين المنظرين لهذا الحقل من الدراسة ، يوضح دلالات هذا المصطلح و مجالاته، بقولهم «نحن نستخدم مصطلح «ما بعد استعماري» ليغطي كل مجالات الثقافة المتأثرة ماضيا و حاضرا بالعملية الاستعمارية، من اللحظة التي بدأت فيها تلك العملية وحتى الآن».. وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم «ما بعد الاستعمار» لا يعني أن البلدان المستعمرة سابقا قد تخلصت من آثار المستعمر سواء كانت ثقافية أو لغوية أو اقتصادية أو عسكرية أو صناعية أو كل ذلك مجتمعا ، فمعظم الأمم لا تزال خاضعة ثقافيا واقتصاديا للدول الكبرى عبر أشكال متنوعة من الاستعمار الجديد. إذا كان خطاب «ما بعد الاستعمار» هو خطاب نشأ في الغرب وإن قادها نقاد غير غربيين، أي أنه ظهر في المشهد الثقافي الجامعي للدول الأنجلوفونية وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وارتبط بجامعة كولومبيا ودشنها جامعيون من الأقليات المهاجرة من بلدان ما بعد الاستعمارية ، وفي مقدمتهم الثالوث البارز : إدوارد سعيد و هومي بابا و جياتري سبيفاك ، فإننا سندرك أن ثمة ما يعد بتغير أساسي في الخطاب الغربي في النقد الأنجلو أمريكي، إلى أي حد سيصل ذلك التغيير ؟ لا أدري ، وإن كنت أستبعد أن تتنازل المؤسسة الثقافية الغربية عن هيمنتها تماما، فقد تتغير معالم الخطاب، ولكن من المستبعد أن يكون التغير جذريا. وما تطرحه «ما بعد الاستعمارية» ضرورة تقبل العالم الغربي رواية المهاجرين الذين أتوا إليه من المستعمرات السابقة، وتأكيدا على تقبل الغرب باندماج هذه الأقليات داخل بيئته الاجتماعية،ومشاركتها في تشكيل هويته القومية المتعددة الحديثة، وكثيرا ما تكون رواية هؤلاء المهاجرين منطوية على إعادة قراءة المرحلة الاستعمارية السابقة بعيون الشعوب المستضعفة التي تؤسس لإعادة قراءة كتابة التاريخ من جديد. ويمكن تلمس معالم هذه النظرية خصوصا في كتابي إدوارد سعيد «الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية» في تصحيح وجهة نظر الغرب، و قراءة للخطاب الثقافي الغربي وفي فضحه وتعريته. أهمية كتابات إدوارد سعيد: قبل الدخول في صلب الموضوع، لابد من وقفة وجيزة للتذكير بعظمة الراحل و نضالاته لنصرة قضايا كل الشعوب المستعمرة في جميع أرجاء العالم، فقد كان مناضلا و مفكرا طليعيا، وبفضل نظرياته الرائدة في ميادين النقد والأدب والدراسات الثقافية والأنثربولوجيا والأدب المقارن و العلوم السياسية والنقد الموسيقي و الدراسات الإثنية، وقد يكون بهذا المسار الثقافي المتنوع هو السمة المميزة التي طبعت نتاجه الواسع على مدار سنوات عديدة ، وبذلك استطاع التأثير في شريحة هامة من المثقفين، وكذلك التأثير في الرأي العالمي خاصة ما يرتبط بمعاناة الشعب الفلسطيني . فقد كانت مواقفه تحظى بالإهتمام كما هو الشأن بالنسبة لبعض المفكرين اليساريين الأمريكيين : نعوم شومسكي نموذجا ، فإدوارد سعيد استفاد من تجربته كمواطن أمريكي قادم من الشرق الأوسط لفهم أيديولوجية الغربيين و مخططاتهم ، مما مكنه من إنجاز دراسة دقيقة حول علاقة الشرق بالغرب الاستعماري ، ويقول في هذا الصدد: « إن معظم ما في هذه الدراسة من استثمار شخصي ينبع من وعيي لكوني شرقيا، نشأ طفلا في مستعمرتين بريطانيتين، ولقد كانت كل دراساتي ، في هاتين المستعمرتين -فلسطين و مصر- وفي الولاياتالمتحدة غربية، بيد أن ذلك الوعي العميق المبكر استمر رغم ذلك بإلحاح ، وبطرق عديدة ، فإن دراستي للاستشراق كانت محاولة لجرد تلك الآثار علي «أنا» الموضوع الشرقي، للثقافة التي كانت سيطرتها عاملا على درجة كبيرة من القوة في حياة جميع الشرقيين ، وذلك هو السبب في أن الشرق الإسلامي بالنسبة إلي كان لابد أن يكون مركز الاهتمام . لقد حاولت أن احتفظ بوعي نقدي كما حاولت أن أستخدم أدوات البحث التاريخي و الإنساني والثقافي، التي جعلت دراستي متلقيا سعيد الحظ لها، بيد أنني في أي من هذا لم أفقد أبدا السيطرة على الواقع الثقافي «الشرقي» أو الانشباك الشخصي لكوني قد تكونت ك«شرقي».، فقد أراد بهذا أن يبرهن على أن كل الأنظمة الثقافية الغربية مرتبطة ارتباطا وثيقا بسياسات و استراتيجيات القوة. دون اغفال أن سعيد أنتج عدة كتب في ميدان الأدب والثقافة نذكر منها : «الاستشراق» 1978،«تغطية الإسلام 1981، «العالم و النص و الناقد» 1984، « الثقافة و الإمبريالية» 1993، «خارج المكان» 1999. كتاب«الاستشراق» ونظرية ما بعد استعمارية: انطلق سعيد من فرضية أساسية لكتاب الاستشراق على نحو يوضح أن هناك خطابا للهيمنة، يقوم بفرض تصوره ، أو تمثيله للآخر التابع الذي لا يملك خطابا يستطيع أن يمثل نفسه عبره، من هنا قام سعيد بفحص ومساءلة العديد من الكتابات و الخطابات الأيديولوجية الغربية التي جعلت من الشرق موضوعا لها في ميادين معرفية مختلفة كالفيلولوجيا و الأنثربولوجيا و المسرح و الأدب ( أدب الرحلات) ، والقاسم المشترك بين هذه الخطابات حسب إدوارد سعيد هو النظرة الدونية إلى الشرق و اعتباره كيانا مختلفا ثقافيا و حضاريا ، مما أدى إلى تكوين فكرة أيديولوجية استعمارية مفادها أنه من واجب الغرب أن يحمل النور و الحضارة والتقدم و الحرية لأولئك الشرقيين المتخلفين في سائر المجالات،ما هي إلا خطابات أيديولوجية فجة غرضها الأول والنهائي هو الهيمنة الاستعمارية على هذا العالم الآخر، و بتحديد أدق هو مناورة حاذقة تدعم و تساهم في تشكيل صورة للغرب كحضارة متفوقة ، ومن الأمور التي عمل سعيد على تقصي أبعادها في كتابه «الاستشراق» هو كيفية تشكيل الأمم معرفيا عن طريق السرديات. فقد أوضح أن الاستشراق مرآة تعكس سلطة الغرب و شهوته الإمبريالية، معرفة تطورت جنبا إلى جنب مع توسيع الاستعمار الأوروبي- الفرنسي و الإنجليزي- وأصبح التعبير عن المجتمعات و الشعوب الأخرى ينطوي على عمل سلطوي يصورهم كمجتمعات و شعوب يتعين حكمها و السيطرة عليها، وليس ككيانات يتعين فهمها و الحكم عليها بطريقة نزيهة وموضوعية، وبهذا أصبح الاستشراق هو الخيط الأول لبداية الحديث عن الخطاب الاستعماري. فكتاب الاستشراق إذا بمنزلة نقد مضاد أو يمكن تسميته ب«الخطاب المهاجر المضاد» لكل النزوعات الأصولية في فهم الثقافة و الأدب و النقد ، فسعيد اختار لهجومه موضوعا من بين أكثر الموضوعات الشائكة في الفكر الغربي حول الشعوب الأخرى ، وهو الدراسات الاستشراقية، لذلك يؤمن بأن البحث عن المعرفة في الميدان الاستعماري لا يمكن أن يكون نزيها، أولا كون العلاقة القائمة بين الثقافات هي علاقة غير متكافئة، وثانيا لأن المعرفة سواء تناولت اللغة، العادات و الأديان لهذه الشعوب، فإنها دائما ما تستخدم لمصلحة الإدارة الاستعمارية. فالفكرة الأساسية التي يدافع عنها سعيد ويركز عليها هي أن الشرق كما يتصوره الغربيون ما هو إلا اختراع أو اختلاق لغوي و أيديولوجي لا صلة له بتاتا بالشرق الجغرافي الموجود موضوعيا في الواقع ، الهدف منه تحقيق السيطرة و ممارسة الهيمنة الثقافية و الإمبريالية على الشعوب الأخرى ، هنا تلتقي المعرفة بالقوة حسب تعبير فوكو، أي أن قوة الغرب منحته فرصة اتخاذ الشرق كموضوع لدراساته و أبحاثه المعرفية لكن هذه المعرفة نفسها استغلت كغطاء أيديولوجي لممارسة الهيمنة و السلطة الاستعمارية على الشرق. إذن، فالرؤية المهيمنة في كتاب «الاستشراق» تقوم على أن العلاقات بين الغرب و الدول الأخرى ستظل متسمة بالانقسامات و النزاعات كنتيجة حتمية ، و كردود فعل للعنف الذي تولد من التاريخ الاستعماري. مصدرا إدوارد سعيد في طرحه لمنهجه: إن تحليل إدوارد سعيد جاء مرتكزا على سياق معرفي و بحثي سابق له ، يتضمن أعمال اثنين من المفكرين الغربيين المعاصرين هما : الفرنسي Michel Foucault و الإيطالي Antonio Gramci، ومن الممكن اعتبار هذين المفكرين ممن وضعوا أسس البحث في الخطاب الاستعماري. فقد تزود إدوارد سعيد بترسانة من الأدوات النقدية المتميزة في كتابة Foucault التي تقرن المعرفة بالقوة و الخطاب،والتمثيل، والحقيقة، و السيطرة، والإقصاء،و الإنشاء،والاختلاف،وسواها وظفها في خدمة المفهوم المركزي المعتمد «الإنشاء»، فما كان نظريا ربما لدى Foucault ، أصبح لدى سعيد تطبيقيا حين ذهب إلى أبعد مداه في معالجة مفهوم الخطاب المؤسساتي عن الشرق. و الخطاب كما يشير العديد من المحللين هو عبارة عن أنظمة معرفية تحدد و تتحكم بطرق وأساليب التمثيل في أي مجتمع. وإذا كانت منهجية Foucault في تحليل علاقات القوة و المعرفة،تعمل على فضح أنظمة الاستبداد و أشكال عملها في الفكر والمؤسسات، فإن ذلك لا يقود إلى أي مقاومة ، و لا يحفز في وضع برنامج عمل، وهذا هو الفرق الحاسم بين تفكير Foucault و إدوارد سعيد، الذي يشدد على مفهوم المقاومة وعلاقة النصوص بشروطها المكانية و الزمانية، لأنه من ثقافة الهيمنة تولد في رحمها ثقافة المقاومة طال الزمن أم قصر، وهي أطروحة من أطروحات ما بعد استعمارية. وينبه إدوارد سعيد إلى أن المقاومة أو ثقافتها يجب ألا تكون مجرد رفض للآخر أو معارضته، فموقف الرفض و المعارضة سيقوي من شوكة الهيمنة، لأن الآخر يرى فرصة ربما تكون ذهبية لاستعادة هيمنته، أواستمرارها في رفض الرفض بكل بساطة. إلى جانب Foucault و مصطلحاته، يعتمد سعيد التمييز الذي قدمه المفكر الماركسي Gramci في تمييزه بين المجتمع المدني و المجتمع السياسي، وتداخلات المجتمع السياسي مع المجتمع المدني عبر ما أسماه Gramci ب«الإقرار» الناتج عن سيطرة أشكال ثقافية معينة في مجتمع كلياني، وقد استخدم هذا المفهوم كأداة لاستبيان علاقة الثقافة بالسياسة، وتأتي أهمية Gramci في هذا المضمار في طرحه لمفهوم ديناميكية الهيمنة، وربطها بالهيمنة الثقافية التي أعطت الاستشراق القوة التي يتحدث عنها ادوارد سعيد في كتابه. كتاب «الثقافة و الامبريالية»: في مقدمة الطبعة العربية لكتاب الثقافة و الإمبريالية يقول مؤلفه «ولقد حاولت أن اظهر أن أدبا ونقدا جديدين قد بزغا منذ المرحلة العظيمة لفكفكة الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية ، فللمرة الأولى يصبح الأفارقة والأسيويون -عربا و غير عرب- الذين كانوا دائما موضوعا لعلم الإنسان الغربي، وللسرديات الغربية والنظريات التاريخية و التكهنات اللغوية الغربية، وكانوا في النصوص الثقافية الدليل السلبي على شتى أنواع الأفكار حول الشعوب غير الأوروبية الأقل تطورا التي ظلت جواهرها ثابتة، رغم التاريخ خلاقين لآدابهم و تواريخهم الخاصة، كما يصبحون أيضا قراء ناقدين لسجل المحفوظات الغربي». يمكن النظر إلى كتاب«الثقافة و الإمبريالية» على أنه امتداد وإعادة رؤية في العديد من الأفكار و الأطروحات التي تم تناولها بإسهاب في كتاب «الاستشراق»، فمن جهة حاول الكتاب أن يفتح فضاء أوسع للجدل الخاص بالعلاقات بين الثقافة وتاريخ الإمبريالية، وذلك بتناول العديد من المناطق الجغرافية تتجاوز الشرق-أي العالم الإسلامي و الشرق الأوسط- و كما تشمل حقول بحث وإبداع كالرواية و الشعر، يقول إدوارد سعيد في هذا السياق :«إنها الكتابات الأوروبية على إفريقيا و الهند و بعض مناطق الشرق الأقصى و استراليا و جزر الكاريبي ، إنني لأعتبر هذه الإنشاءات الافريقانية و الهندانية يسمى بعضها،جزءا من مجمل الجهود الأوروبية لحكم بلدان و شعوب نائية، و أعتبرها لذلك مترابطة مع الأوصاف الاستشراقية للعالم الإسلامي». يبدو جليا من خلال هذا أن ما يسميه سعيد بالخطابات و الإنشاءات الأفريقانية والهندانية، لا تختلف في جوهرها وفي إيديولوجيتها عن الخطاب الاستشراقي، خطابات و إنشاءات تعتمد على التنميط و الاختزال في عكسها لصورتي الذات و الآخر ، وتعد الثنائيات الضدية المركز و الهامش أو الذات والآخر، كلازمة تتكرر في جميع نصوص الخطاب الاستعماري، ولتفنيد ذلك يورد إدوارد سعيد أمثلة عديدة لنصوص روائية استعمارية هدفها تكريس الصورة النمطية السلبية عن الآخر، و تأكيد مركزية الذات الغربية . ويوضح ذلك إدوارد سعيد بقوله « لقد تناولت بشكل خاص أشكالا ثقافية كالرواية ، أعتقد أنها كانت عظيمة الأهمية في صياغة وجهات النظر والاشارات و التجارب الإمبريالية ، وأنا لا أعني أن الرواية وحدها كانت هامة ، بل أعتبرها المشروع الجمالي الذي تمثل علاقته بالمجتمعات المتوسعة في بريطانيا و فرنسا ظاهرة شيقة بصورة خاصة للدراسة». وفي هذا الإطار، هناك ارتباط وثيق بين الثقافة و الإمبريالية، في الرواية كنتاج ثقافي، قد يستغل من طرف كاتبها أيديولوجيا لتكريس تصورات تبرر الهيمنة الاستعمارية، إنه تحليل للإمبريالية من خلال السرد الروائي ، وأحيانا الشعر، فالمركز في النص بالنسبة إليه، هو البحث عن تجليات الإمبريالية و أشكالها ودلالاتها من حيث تمركزها حول معنى القوة ومحو الآخر من النص وإنتاج أشكال معرفية و تمثيلات نمطية عن الآخر، وما يريده سعيد قوله هو أن جماليات الرواية يجب أن لا تنسينا صورة الاستعمار فيها، أي كيف يمكن لعمل فكري أو أدبي مثل الرواية أن يساهم في تمهيد الطريق للسيطرة على رقاب وأراضي الآخرين وخيراتهم .. ونود في هذا الإطار التذكير بالروايات الثلاث التي تناولها ادوارد سعيد في كتابه«الثقافة و الامبريالية » يتصل موضوعها بأطروحة الكتاب،من خلال تحليلها وإعادة بنائها لكشف ما خفي من أجندة الإمبريالية فيها أي قراءتها من منظور نقدي « مابعد- استعماري». الأولى رواية «مانسفيلد بارك» للروائية جين اوستن، رواية كما قال سعيد تتمركز حول ثقافة الاستعمار . و المثال الآخر رواية «كيم » لروديارد كبلنج ، حيث بين فيها إدوارد سعيد قدرة كبلنج على توظيف الرواية في تجسيم منظوره الاستعماري . أما المثال الثالث ، فهو رواية «قلب الظلام» لجوزيف كونراد فقد قال سعيد إنه من الكتاب الأكثر وعيا بقوة الاستعمار، ومن نقد لهيمنة الاستعمار، و باعتباره رسالة تبشيرية فيها الكثير من ضياع وتبديد للقوة البشرية الاستعمارية بدون طائل، ورغم ذلك فكونراد حسب سعيد عجز عن تقديم بديل للاستعمار. وقد أصبحت هذه القراءات منذ صدور الكتاب، قراءات نموذجية في الخطاب النقدي ال«ما بعد استعماري». فالأمثلة السابقة تشترك في أرضية واحدة رغم اختلافها في الأسلوب و المنظور، فهي جميعها تخفي سياسة النص وراء جمالياته و لا ترى بديلا للاستعمارولا حاجة إلى المقاومة، وانطلاقها من الاعتقاد بوجود ثقافة واحدة مهيمنة تسوق خطابا مهيمنا، وفق المتخيل الاستعماري الذي يدور في فلك الهيمنة. ومن أبرز مظاهر و مفاصل الكتاب المنهجية مفهوم المثاقفة، ويعني هذا حوارية الثقافة التي ترفض فكرة المركزية و الهيمنة، ونبذ الأسس المعيارية القديمة في تقسيم وجهات النظر إلى كبيرة و صغيرة، وترتبط بهذا المفهوم التعددية الثقافية التي تشكل الهوية الحضارية إذ هي لا تفضي بالضرورة دائما إلى السيطرة، بل تؤدي إلى المشاركة و تجاوز الحدود و إلى التواريخ المشتركة و المتقاطعة. ومن أجل توضيح ذلك يطرح سعيد نموذج جديد في الدراسات الإنسانية يسميه الطباقية او التناغم الطباقي، هذا المصطلح النقدي يطبقه في القراءات المتوازية ، الثقافة الإمبريالية / الثقافة الأصلانية ، الهدف منه مجابهة الرؤية الثنائية في التفكير الغربي ، ومن أمثلة ذلك رواية «الغريب» لكامو مقابل «نجمة» لكاتب ياسين ، و كتاب «في وصف مصر» لكاتب نابليون- باتيست جوزيف فوريي- مقابل« عجائب الأثار» للجبرتي ، كما بين الوجه الآخر في عملية التوازي الطباقي:جورج انطونيوس« يقظة الأمة العربية» /وفرانز فانون «معذبو الأرض» . فحين يعود سعيد إلى سجل المحفوظات الإمبريالية، يأخذ بقراءته لاواحديا بل طباقيا بوعي متآين للتاريخ الحواظري، و لتلك التواريخ الأخرى المقاومة التي تعمل ضدها ، وهذه الطريقة في النقد المتوازي كاشفة للمفارقات، و تعمق المبدأ الحواري المقارن في أفكار إدوارد سعيد. وتكمن قيمة الطباقية بالنسبة لإدوارد سعيد في أنها تتخطى الحدود المتعارف عليها و التقسيم الذي وصل إلينا في الحقول المعرفية ، وبهذا نستطيع أن نقرأ الثقافة مع السياسة مع التاريخ كفضاءات متصلة ببعضها. محاولة في التركيب : يتأكد مما قلناه سابقا في بداية الدراسة أن أفكار ادوارد سعيد قد لعبت دورا عظيما في نشأة و تطور ما أصبح يعرف«بالخطابات الما بعد الاستعمارية» ، وقد أثرت كذلك دراساته التفكيكية للإيديولوجيات الغربية على العديد من مثقفي العالم الثالث . كما أن منهجه النقدي في تحليل الخطاب الاستعماري ، ساهم في تأسيسه ثلة من الباحثين من أمثال هومي بابا وجياتري سبيفاك، في مساءلة البنيات الإيديولوجية و الإسقاطات العنصرية التي تقوم عليها خطابات المركزية الغربية، وفي هذا الصدد يقول نعوم شومسكي عن إدوارد سعيد « إن عمله خصص لفضح الميثولوجيات الغربية التي كوناها عن أنفسنا ، والميثولوجيات التي كوناها عن الآخرين ، و العمل الأول أي فضح ميثولوجيا الأنا أكثر صعوبة من الثاني ، ذلك إن نظرنا في المرآة لنرى أنفسنا عملية أصعب بكثير من نظرنا للآخرين». فالهدف من تفكيك هذه الخطابات ليس من أجل الهدم، بل من تحرير الأوطان من مظالم الاستعمار في شقيه الكلاسيكي و الحديث على السواء، وكذلك من خلال خلق حوارات حضارية لتجاوز الأيديولوجيات التي تكرس الصدام بين الشرق و الغرب. ولابد من الإقرار بأن «عهد التفسير الواحد و النظرية الثابتة و الخطاب الجامع قد ولى ،وأن المركز لم يملك الهيمنة الفكرية كما في السابق على الأقل من الناحية المعنوية ، وأن للأطراف أيضا خطابات و تصورات حول طبيعة هذه العلاقة الاستعمارية فيها الكثير من العمق، و المعرفة الدقيقة بالذات و الآخر». قد ساهم أدوارد سعيد في وضع الكثير من المصطلحات التي استخدمها الدارسون في مجال ما بعد الاستعمار، بما في ذلك مقولة صنع الآخر الشرقي، طريق إلى تصورات الذات الغربية ، هذا فضلا عن إسهاماته فيما يتعلق بمصطلحات من مثل «المنفى» و «المثقف» و «الهجنة» . كل هذا ساعد على إطلاق مناهج إنشاء وأساليب جديدة، وإعادة تأويل التاريخ و الثقافة في آسيا و إفريقيا و اليابان و أمريكا اللاتينية وأوروبا و الولاياتالمتحدة ، في حين ظل مغمورا في الثقافة العربية حيث كان تأثيرا محدودا، ويقدم في شكل مختزل مجرد صاحب رأي سياسي ، ومدافع عن القضية الفلسطينية في الغرب. ملحوظة: تم الاستغناء عن المصادر و المراجع لضرورات النشر