لما نستحضر تاريخ المغرب النضالي القريب, نجد أن تازة (مدينة وإقليم) كانت حاضرة ومؤثرة في الأحداث التي عجلت بجلاء المستعمر .. وذلك بوجودها في موقع جغرافي استراتيجي صالح للتحرك والمناورة وتقديم الدعم اللوجستيكي لرجال جيش التحرير الذين انطلقوا من جبالها. لكن تازة هذه لم تأخذ حقها بعد في إبراز الجهود التي قدمتها ورجالها من أجل استقلال هذا الوطن العزيز وعودة ملك البلاد وضامن وحدته . من جهتي فقد كتبت صفحات مضيئة في هذا المجال لا زالت تتسع لتشمل هنا مقالة تلامس ترجمة ومعركة وحدث .. وهي قصة تتسم بالجرد التاريخي والبحث الميداني .. وتحكي ما جرى خلال ثلاثة أيام ما بين 28 فبراير و 2 مارس 1956 . ترجمة للمواطن مولاي الصديق الودغيري الذي بتر الاستعمار رجله . معركة باب مطيق التي وصفت بالشرسة . حدث التعجيل بإمضاء وثيقة الاستقلال . (باحث في الحضارة المغربية) الحالة العامة بالمغرب وتازة .. عاش المغرب فترة انتقالية بالغة الأهمية في تاريخه النضالي الحديث دامت حوالي خمسة أشهر .. امتدت من تاريخ وصول ملك البلاد محمد الخامس إلى المملكة قادما من منفاه يوم 16 نونبر 1955. إلى يوم الإمضاء على وثيقة إعلان الاستقلال يوم الثاني من مارس 1956 .. وهي فترة تربص فاصلة ما بين زمن (الحجر والحماية) وزمن «الحرية والاستقلال» . لقد تيقن الفرنسيون أن كل شيء بالنسبة لوجودهم قد انتهى ، ولم تعد لهم أية سلطة فعلية في المغرب . هنا بدأ المغاربة ينظمون أنفسهم محليا في اتصال مع العاصمة الرباط لإقرار ما هو صالح للمرحلة . وكان جيش التحرير لا يزال يرابط في «مثلث الموت» شمال جبال تازة ورجاله يزورون وقتها مدينة تازة القريبة منهم ، بتراخيص خاصة من قياداتهم ، فرادى وجماعات صغيرة ومتفرقة للاتصال بمعارفهم وقضاء بعض الأغراض . يقول الملك الحسن الثاني عن هذه الفترة في كتابه «ذاكرة ملك : « أكيد أنه لم يسجل حينها بتازة انفلات امني خطير لوجود اللجان الوطنية المكلفة بالسهر على التهدئة والامن (2) ومع غليان الشعب المغربي بفرحة الانتصار وتحقيق الاستقلال خلال المظاهرات المنظمة هنا وهناك . لم يمنع هذا من وقوع أحداث كانت لها دلالتها السياسية على ما حدث سابقا . وعلى ما سيتلاحق من مفاجآت . في هذا الصدد فقد تمت تصفية بعض الخونة الذين كانوا متعاونين مع إدارة الاستعمار الفرنسي قتلوا في عمليات انتقامية خاطفة سمعنا حينها خبر بشاعتها تنكيلا وتشنيعا . كما تم اغتيال وطنيين مخلصين عدوا من الشهداء ، وفيهم من أصيب برصاص الغدر ونجا من الموت ، ومنهم المناضل محمد أبو عبد الله ( مدير ثاني مدرسة حرة بتازة ) الذي كتبت ترجمة له بمجلة : « ملفات من تاريخ المغرب « (3] . - حظر التجول : في هذه الأجواء الشديدة الحساسية كانت جيوش اللفيف العسكري الاستعماري الفرنسي لا زالت تمسك بخناق ساكنة تازة وتتواجد بثكناتها في طوق يحاصر المواطنين داخل أسوار المدينة . وعند كل تصعيد جراء حدث ما كانوا يعلنون حظر التجول ليلا داخل المدينة ، فيقف جنود «لاليجو» في كل باب ومنفذ . - رشق المواطنين بالرصاص .. كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلا من يوم الأربعاء 17 رجب 1375 ه الموافق ليوم 28 فبراير 1956 .. شوارع مدينة تازة وأزقتها فارغة من المارة تطبيقا لقرار حظر التجول المفروض عليها ، علما انه في هذه الحالة يخرج الجيش الفرنسي من تكناته ليشدد الحراسة على المدينة ومداخلها .. بحي باب الزيتونة خرج من منزله شاب يبلغ من العمر حوالي 25 سنة وهو من الأسرة الودغيرية بالمدينة ، واسمه مولاي الصديق(4) يرافقه ضيفه القادم من جماعة بني فتح ، واسمه الحاج عبد السلام البوقرعي البرنوسي . بعد تناولهما العشاء مع عمه الحاج قدور أحد اعيان المدينة وشيخ الطريقة الدرقاوية الحبيبية بها ، صاحب مولاي الصديق الرجل ليبيت في الحمام الذي تشرف أسرة الوغيري على تسييره ، وذلك دون أن يعييرا أي اهتمام لحالة «حظر التجول» المفروض ليلته على المدينة . وبمجرد ما ظهر الرجلان على ضوء القمر في الزقاق الذي يسكنه بباب الزيتونة ، حتى سمعا بنبرة حادة كلمة ‹› هالت Halte ‹› وهو الأمر الذي وجه لهما بالوقوف ، من طرف جنود اللفيف الأجنبي الفرنسي الحارسين لمدخل باب الزيتونة .. ولما لم يمتثلا للأمر وهما بالفرار ضربا من رشاش الجنود بوابل من الرصاص . سقطا أرضا . حينها حملا في شاحنة عسكرية ( كاميون جيمسي ) إلى (معسكر كانكودير) القريب من هناك ، ثم إلى مستشفى أحراش «روني درباص» - «بن رشد» الحالي . وفي قاعة العمليات باشر الطبيب الجراح أخطر الحالتين ، فوضع جسد الحاج عبد السلام البوقرعي المخروم بالرصاص على المشرحة حيث لفظ أنفاسه.. فرصاص المستعمر كان قد خرق بطنه ومزق أمعاءه ، وهذا الرجل القروي مات شهيدا مثل ما وقع لآخرين ماتوا في أحداث متفرقة ، وقد انطوت صفحتهم .. والواجب يفرض التذكير بهم والتعريف بنضالاتهم . ويأتي دور مولاي الصديق فيوضع على المشرحة الطبية وهو لا يتحكم في رجله التي كسر الرصاص عظمها ، ولم يجد الطبيب مخرجا إلا بإتمام بترها . وفي يوم الغد الخميس فاتح مارس 1956 ،[ 18 رجب 1375 ه] يزور كوميسير تازة ‹›كوشار›› (Couchar ) شخصيا المستشفى ويستجوب مولاي الصديق ويفتح له بحثا في النازلة ، كما زاره في حينه عمه الحاج قدور الودغيري رفقة مجموعة من الوطنيين والكثير من عامة سكان المدينة ، وزاره كذلك عامل إقليمتازة محمد الخياري وسأله عن حالته وظروف واقعته . هذا اليوم كان غير عادي في تازة .. كانت المدينة تعج فيه بالتحركات وكأنها على برميل بارود . بعض الرجال قد نزلوا إليها من الجبال متخفين عند معارفهم بها يخفون أسلحتهم ويتجولون في دروبها بحذر وبشكل ملفت عند العارفين من ساكنتها ( وهم هنا لغرض سنعرفه لاحقا ] كنت أبلغ من العمر إحدى عشرة سنة ، وكنت في هذا اليوم مأخوذا بما يجري في تازة ، فانجذبت مع الزائرين إلى مستشفى أحراش حيث يوجد مولاي الصديق الودغيري ، كما انجرفت مع الفضوليين الذي تقاطروا على مكان الحادث الذي ضرب فيه مولاي الصديق ورفيقه الحاج عبد السلام ، فعاينا آثار ضربات الرصاص على الحائط المواجه لمكان وقوف القناصة ‹› لا ليجو ‹› عند حلول ساعة حظر التجول ليلا . - اليوم الثالث للأحداث .. في جبهة القتال معركة باب مطيق الزمان : الجمعة 2 مارس 1956 ( 19 رجب 1375 ه ) الساعة السابعة والنصف صباحا المكان : على بعد 15 كيلومترا جنوبتازة موقع جبل تشقه طريق تسمى «باب مطيق» في اتجاه مصطاف باب بودير ، الطريق اسفلتي ضيق غائر في الجبل تبقى جنباته العالية المطلة عليه في انحدار .. تؤثته الأحجار الكبيرة والصخور المنبتة وسط شجيرات البلوط الغابوي ، تشكل مكانا آمنا يرصد بوضوح ما يمر على الطريق .. خلف هذه الأشجار والأحجار ، رابط قرابة 300 مجاهد من رجال جيش التحرير المغربي ، وذلك منذ الفجر حيث أخذوا يترقبون مرور وحدات من فرقة اللفيف الأجنبي الفرنسي قادمة من مصطاف باب بودير في طريقها إلى مدينة تازة على عربات عسكرية وقد تهيأوا لهذا بعد أن توصلوا من جهازهم الاستخباراتي بمعلومات تخبر بتوقيت هذا التحرك. وبمجرد ما توسطت هذه الوحدات المكان المهيء للوقوع بها فيه حتى خرج رجال التحرير من مخابئهم ، وبإشارة من قائدهم أمطروا اللفيف الأجنبي بوابل من الرصاص ، بعد أن أعطبوا عجلات العربة المتقدمة ، فأغلقت الطريق . وعلى مرمى البصر لم يبق لجنود المستعمر منفذ ولا مفر ، فسقط منهم 34 قتيلا ، وعدد كبير من الجرحى استمرت الطائرات العمودية ( الهيليكوبتر ) تنقلهم إلى المستشفى العسكري بتازة حتى المساء . - تدخل الطيران الفرنسي وقد اضطر الطيران الفرنسي إلى التدخل ، فنقل كميات كبيرة من القوات القتالية على وجه السرعة لنجدة جنود اللفيف الأجنبي من قبضة المجاهدين قبل أن يتم القضاء عليهم جميعا . وبتعاون مع سكان المنطقة العارفين بتضاريسها ومسالكها انسحب رجال جيش التحرير بسلام دون ان تسجل أيه إصابة بينهم . وفي حينه تناقلت وكالات الأنباء الدولية «بلاغ فرنسي» رسمي اعترف بوقوع المعركة ، وقال انها كانت من أجرإ الهجمات التي قام بها جيش التحرير . وأضاف ان الطيران تدخل إلا أنه لم يعترف إلا بفقدان عشرة من القتلى بينهم ضابطان و 12 من الجرحى . وحاولت القيادة الفرنسية ان تخفف من وقع خسائرها ، فقالت انه من المعتقد ان المجاهدين حملوا معهم قتلاهم وجرحاهم حينما انسحبوا . معركة باب مطيق هذه اعتبرها المراقبون العسكريون أعنف اشتباك حدث بشمال المغرب منذ بداية الحرب .. وخطورتها تتجلى بالدرجة الأولى انها وقعت في منطقة توجد بجبال الأطلس المتوسط جنوبتازة ، وهو الشيء الذي كان يتخوفه الفرنسييون من انتقال حرب المقاومة وجيش التحرير من الريف إلى الأطلس فتصبح شاملة . -الإمضاء على وثيقة الاستقلال : -الزمان : يوم 2 مارس 1956 ، الساعة الثالثة والدقيقة الخمسين زوالا .. علاوة على ما سبق ذكره .. ما كاد نبأ معركة باب مطيق جنوبتازة ينتشر في فرنسا حتى تم الإسراع وفي نفس اليوم بالتوقيع على التصريح المشترك الذي اعترفت فيه فرنسا باستقلال المغرب ووحدته . ذلك ان المجندين الذين قتلوا وعددهم 34 جنديا فرنسيا كانوا من أبناء الأسر الراقية والميسورة بفرنسا كانوا لما يصلون إلى المغرب لا يرسلون إلى جبهات القتال بل يحتفظ بهم لحراسة الثكنات المحصنة والإدارات الاستعمارية المختلفة ، وهي المهمة الأقل خطرا على هؤلاء المجندين المحظوظين .. وهي العملية التي شكلت ورقة ضغط قوية على أصحاب القرار الفرنسيين . -الثورة حققت أهدافها .. بعودة محمد الخامس وبإعلان الاستقلال هدأت الأنفس وعمت الأفراح جميع المدن والقرى فنظمت المظاهرات ، ورفعت الأعلام والهتافات بحياة المغرب وملكه . في حماس منقطع النظير . وبذلك تكون الثورة التي أعلنها المغاربة إلى جانب ملكهم محمد الخامس «ثورة الملك والشعب» قد حققت أهدافها ومعركة باب مطيق بتازة التي ختمت النضال المغربي المسلح من أجل استقلال المغرب (5) كانت اكبر وآخر معركة قتالية يخوضها جيش التحرير المغربي بالجبال .. ويمني فيها اللفيف الأجنبي الفرنسي خسائر جسيمة . وبمجرد ما نزل رجال التحرير الأبطال من منطقة «باب مطيق» إلى المدينة حتى تشكل وفد منهم توجه للتو إلى المستشفى قصد زيارة المناضل الجريح مولاي الصديق الودغيري ، وهم في حضرة الشاب الوسيم ، القوي البنية ، الممتد أمامهم مبتور الرجل اليسرى وسط حشود المواطنين الذين تقاطروا على المستشفى في خضم الاحتفالات بإحراز الاستقلال . قال ناطق باسم وفد رجال المقاومة وجيش التحرير المنتصر في معركة باب مطيق كلمة مؤثرة بالمناسبة ، ختمها بعبارة لا زال التازيون العارفون يرددنوها إلى اليوم قال فيها : « فْ خَاطرْ رْجلْ مولاي الصديق ، درنا غزوة ف باب مطيقئ . هوامش ومراجع 1] ?» ذاكرة ملك» . الطبعة : 2 . سنة 1993 . ص : 20-21 . 2] - كانت جميع السلطات في يد لجنة من الوطنيين بمدينة تازة العليا كان تنظيمها عفوي دون تكليف إداري .. وذلك لاجتياز (حالة نقل السلط ) .. وخوفا من أي تسيب تولى عملية التهدئة والتنظيم من داخل اللجنة : الأكثر مهابة ووجاهة المناضل «عبد السلام بن الحاج الصديق بلقاسم « وذلك لبعض الأيام في انتظار البت في المناصب الرسمية لكل من العامل والباشا والقاضي وكبار الموظفين وغير ذلك .. كان عبد السلام يتجول داخل المدينة وفي حزامه مسدس ظاهر ، وبجانبه حارسين مسلحين برشاشين ، وكان يتصرف في الأمور باستشارة مع من هو مكلف بالديمومة في مقر العمالة او مع العامل إن وجد ، وكانت دوريات اللجنة تجوب أحياء المدينة لاستتباب الأمن. 3] - ملفات من تاريخ المغرب . العدد : 6 شهر نونبر 1996 . 4] - مولاي الصديق الودغيري : من مواليد مدينة تازة سنة 1931 من أعيان المدينة ووجهائها ، معروف بريادته في مجالس الذكر والسماع والإنشاد .. وهو الآن مقدم للطريقة الدرقاوية الحبيبية بتازة يعيش بيننا ما تبقى من عمره يتكئ على « الركيلات» او الرجيلات المصنوعة من الألومنيوم والخشب, بتر جنود الاستعمار رجله رميا بالرصاص لما خرق حالة حظر التجول. يحمل بطاقة مقاوم رقم 005093 ، قرار اللجنة الوطنية : 15456 ، قرار اللجنة العليا 404691 . سلمه قياديون في جيش التحرير منهم : بحتات ، بن داود ، وقضاض : شهدات العمل في المقاومة ، شغل منصب النائب الثاني لرئيس الجماعة الحضرية بمدينة تازة لما كان يرأسها بجدارة واستحقاق المرحوم الأستاذ محمد بهطاط . 5] - وبهذه المعركة تكون حرب الريف التحريرية المغربية قد بدأت يوم 2 أكتوبر 1955 ، وانتهت مع رجوع محمد الخامس من منفاه إلى الوطن يوم 16 نونبر 1955 . وبقي رجال جيش التحرير في معاقلهم في انتظار التوقيع على وثيقة الاستقلال الذي تم يوم 2 مارس 1956 . وقد بدأت في جبال الريف شمال تازة وانتهت بجبال الأطلس في جنوبها .