(1) من أجل الوضوح في التعبير نسوق المعنى الذي سنستخدم به هنا لفظ الشعب، وذلك حتى نتعرف على هذه الجهة التي سننسب إليها حقوقا أو نقول إن الحقوق مطلوبة لصالحها في الوقت الحاضر. نقصد بلفظ الشعب: المجموعة البشرية المتساكنة والمتعايشة على نفس الأرض وذات الحدود المعينة مع أراضي أخرى مجاورة من الجهات المختلفة، والتي لها تاريخ مشترك وتحكمها نفس الحكومة، ولها تعاقدات مجتمعية وقوانين تنظم العلاقات بين أعضائها، وبين مؤسساتها، ثم بين مجموع الأعضاء وتلك المؤسسات. وليس من الضروري لكي نطلق لفظ الشعب على مجموعة بشرية أن تكون هناك وحدة في العرق أو اللغة أو الدين، وذلك لأن عددا من الشعوب المعروفة لدينا في الوقت الحاضر تتكون من أعراق مختلفة وينطق أعضاؤها بلغات متباينة، وتكون لهم اعتقادات دينية مختلفة.لكن، من محددات الشعب مايتكون لديه في التاريخ من أنماط للعيش ومن عادات وأعراف وعلاقات بين مكوناته. توزعت الإنسانية التي نعرفها اليوم إلى شعوب وأمم مختلفة في تكوينها التاريخي والعرقي واللغوي والثقافي والديني.ولكن اختلافاتها لاتمنع القول إن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان يشملها جميعا دون تمييز، بل ونقول إن من الغايات العميقة لميثاق حقوق الإنسان ألا يكون بين تلك الشعوب تفضيل أو امتياز في هذا المستوى. وإذا كان الميثاق العالمي لحقوق الإنسان قد صدر بعد حرب عالمية مدمرة ليعبر عن الرغبة العميقة للإنسانية في العيش في سلام، وفي مراعاة القيمة السامية للإنسان على مستوى النوع البشري بأكمله، فإن السياق الذي نشأ فيه دلك الميثاق يدل على أن الإنسانية واحدة من حيث حاجتها إلى التمتع بالحريات والحقوق لافرق بين إنسان وآخر، ولابين شعب وشعب. نلاحظ أن هذا المستوى من حقوق الإنسان لم يكن موضع نصوص واضحة في الميثاق العالمي حول حقوق الإنسان عند صدوره سنة1948، فكان موضوعه محل اهتمام في المواثيق اللاحقة على ذلك الميثاق، كما نلاحظ أن الشعوب التي جعلها ميزان القوى في موقع أضعف هي التي ركزت على المطالبة داخل المنظمات الدولية بإصدار ميثاق يتعلق بحقوق الشعوب والأمم، وبالعمل عبر تضامن عالمي على توفير الوسائل والآليات لتنفيذ بنوده. نؤكد مبدئيا بأن للشعوب من حيث هي مجموعات بشرية ذات تاريخ وحضارة وثقافة حقوقا متميزة عن تلك التي ننسبها للفرد منها. ولكننا نرى، في الوقت ذاته، أن هذه الحقوق التي نطلبها للشعوب، تتحقق بفضل توفر بعض الشروط التي يكون علينا أن نأخذها بعين الاعتبار. أول هذخ الشروط مناخ سلمي على صهيد مكونات كل مجتمع بين مكوناته البشرية والمؤسساتية، ثم على الصعيد الدولي قي إطار العلاقات بين الشعوب. فالسلم بمستوييه المجتمعي الخاص والدولي العام هو الشرط الذي يدفع الفاعلين في هذين المستويين إلى التفكير في الحقوق التي ينبغي مراعاتها لصالح الإنسان، إذا كان الحديث عنه كفرد، أو لصالح الشعوب حين يكون التفكير متجها إلى هذا المستوى.كما أن السلم هو الذي يتيح الفرصة للتفكير في الوسائل والطرق الكفيلة بالحفاظ على حقوق الإنسان فردا وجماعة. وعلى العكس من ذما ذكرناه، فإن المجتمع الذي يوجد في حالة صراع بين مكوناته، وكلما احتد الصراع وتنوعت أشكاله ومستوياته، يجد نفسه في حلة تبتعد به عن مراعاة حقوق الإنسان على الصعيد الفردي والمجتمعي معا. فالصراعات المجتمعية تكون بطبعها مناسبة للتفكير في المصالح والمكتسبات التي تقوم من أجلها ، بينما يكون التفكير في حقوق الإنسان ضمنها معطلا أو مهمشا أو غير مرغوب فيه لعدم توافقه مع للشرط المجتمعي القائم. يكون الأمر بالمثل على صعيد العلاقات الدولية. فإن تحقيق شروط السلام بين الشعوب، والعمل عبر ذلك على تشجيع أشكال التواصل الحضاري والثقافي بينها، شرط إيجابي للتفكير بصورة مشتركة في الحقوق التي تستحقها كل شعوب العالم. وحالة السلام حين تتحقق، ولو لفترة وجيزة، هي التي تسمح بوعي الإنسانية بوحدتها كنوع، وهي كذلك الحالة التي تجعل الإنسان في كل جهة من العالم يشعر بأن الآخر يستحق ما يتصوره لنفسه من حقوق. لكن حين يقع مايدفع الإنسانية إلى مايعارض هذه الحالة، وحين تتغلب روح الهيمنة، وحين تطغى كذلك الرغبة في تحقيق المصالح على كل اعتبار إنساني، وحين يصبح العنف هو السبيل للوثول إلى كل ذلك، نرى الإنسان مندفعا في سلوك متعارض مع العمل بمقتضى حقوق الإنسان.لذلك كله تنتفي حقوق الإنسان مع حالة الحرب والصراعات العنيفة بين الشعوب. لم يغب هذا التعارض عن الفكر الإنساني في مجال حقوق الإنسان، ولكن حيث يتبين في نفس الوقت أنه لامجال لإيقاف الحروب وإلغاء آثارها المدمرة، فقد وقع الاتجاه نحو التفكير في حقوق الإنسان في حالة الحروب ذاتها ووضعت نصوص تبين تلك الحقوق. تستحق هذه المسألة تخصيصها بدراسة تدخل في إطار النصوص التي تعلقت ببعض الحقوق الخاصة والتي صدرت تباعا لاحقة على النصوص الأولى الصادرة عام 1948. الشرط العام الثاني لضمان تطبيق حقوق الإنسان على مستوى الشعوب هو سيادة نظام الحكم الديمقراطي.فإن أنظمة الحكم الديمقراطي التي تحتفظ في وعيها بأنها منبثقة من الشعب الذي هو دائما مصدر مشروعيتها، تعمل دائما، مادام هذا الوعي يحركها على احترام شعبها وعلى عدم حرمانه من حقوقه التي هو أهل لها. أما النظم الاستبدادية، فإنها تتوجه نحو التنكر لمصدر مشروعيتها كسلطة، وتنطلق من ذلك لحرمان شعوبها من الحقوق الواجبة في حقها. ومن خلال الحروب والفتن التي سادت في القرن العشرين وما مضى حتى الآن من القرن الواحد والعشرين، بدا في كثير من الحالات الكيفية التي تلتقي فيها في نظام سياسي واحد قمع لحقوق الإنسان داخل بلدانها، من جهة، وفي علاقاتها الصراعية مع الجوار أو مع جهات العالم الأخرى من جهة ثانية. عواقب الاستبداد على حقوق الشعوب كثيرة ومتنوعة تتطلب العودة في دارسة مستقلة لها تتجاوز من حيث التدقيق في الظواهر دراستنا الحالي. نكتفي في حدود هذه الدراسة بالإشارة إلى تعارض كل نظام استبدادي مع احترام حقوق الشعوب. (2) لم تكن غايتنا، في حدود محاولتنا الحالية أن نتابع من بين النصوص المتعلقة بحقوق الإنسان تلك التي تتعلق بحقوق الشعوب. فهذه النصوص متوفرة بأغلب لغات العالم، ويمكن لكالبها أن يعود إليها. كانت غايتنا، في مقابل ذلك، هي البحث في الخلفيات الفكرية والتاريخية التي ساهمت في صياغة تلك الحقوق، خاصة وأنها جاءت جميعها بعد حربين عالميتين مدمرتين للإنسانية وللتصور الذي كانت تحمله عن نفسها من حيث هي أسمى قيمة في الوجود. فقد خلخلت نتائج الحروب هذا التصور، ودفعت نحو التفكير في وضع مواثيق من أجل حماية الإنسانية كاملة من كل عودة لمثل ذلك التدمير الذي عرفته. لابد من ملاحظة هي أن الإنسانية ذاتها التي تبدو، من جهة، حاملة تصور القيمة السامية عن نفسها هي نفسها مصدر تدمير تلك القيم في شروط محددة. والإنسانية التي أصدرت عبر الأممالمتحدة مواثيق حقوق الإنسان هي التي أدركت أنه لايمكنها تجنب الحروب بصورة نهائية، وصاغت مواثيق إضافية عن حقوق الإنسان في حالة قيام حروب. مراعاة لكل الاعتبارات التي سلف ذكرها نتساءل الآن عن حقوق الشعوب كماهي ضمن مواثيق حقوق الإنسان بصفة عامة. ونلخصها كما يلي: 1) لكل شعب الحق في أن تكون له السيادة على نفسه. ويعني ذلك في مستوى أول أن يكون الشعب هو مصدر السيادة، لا أن تعود تلك السيادة إلى مصدر آخر إلا بالاختيار والإنابة والتكليف.ومضمون هذا الحق عدم حرمان أي شعب من حريته في اختيار من يحكمونه بطرق قد تختلف من شعب إلى آخر تبعا لتطوره التاريخي ولتشكلاته وما تطور خلالها من تقاليد وثقافة في علاقة الحكم بالشعب، علما بأنها تلتقي في النهاية عند نفس المبدإ. ولا يجوز تبعا لهذا الحق إخضاع أي شعب بالقوة والقمع على الخضوع لأي نوع من أنواع الحكم دون اختياره له ورضاه عنه. ويلزم عن هذا أن كل أنواع الحكم الاستبدادية متنافية بطبيعتها مع حق الشعوب في اختيار النظام السياسي الذي يدير شؤونها العامة.والإقرار بحق الشعوب دون استثناء في أن تكون مصدر السيادة، وبتوافق عالمي، هو بمثابة مراجعة الإنسانية لتاريخها بالنظر إلى شتى أنواع الاستبداد التي خضعت لها شعوب في مختلف جهات العالم. ويعتبر هذا الأمر أيضا محاولة من الإنسانية متضامنة عبر مضامين مواثيقها لمقاومة كل أنواع الحكم المستبدة بشعوبها. 2) يرتبط بحق الشعوب في سيادتها على ذاتها حقها في إقامة نظام ديمقراطي يمكنها عبر المؤسسات المكونة لهذا النظام من التعبير عن رأيها في كل ما يخص تدبير شأنها العام في حياتها الداخلية وفي علاقاتها الخارجية. فالتنظيم الديمقراطي للمجتمع هو أقرب النظم السياسية للحفاظ على حقوق الإنسان بصفة عامة وحقوق الشعوب بصفة خاصة.ولايوجد اليوم شرط، في إطار التطور الذي عرفه تنظيم المجتمعات، يمكن الاستناد إليه لحرمان الشعوب من حقها في التنظيم الديمقراطي لحياتها. 3) من مظاهر حق الشعوب في ممارسة السيادة في تدبير شؤونها العامة عدم إخضاعها بالقوة والقهر لهيمنة خارجية تستولي على أراضيها وثرواتها. نكتفي من التاريح الطويل لكل محاولات الهيمنة الخارجية بالإشارة إلى الظاهرة الاستعمارية التي اتسع وجودها في القرن التاسع عشرودامت منذ ذلك الوقت إلى مابعد منتصف القرن العشرين.لقد حرمت الظاهرة الاستعمارية كثيرا من الشعوب، قي إفريقيا وآسيا بصفة خاصة،من حريتها في تدبير شؤونها ومن حقها في العيش في حدود أراضيها، ومن حقها في التصرف في ثرواتها. والعمل من أجل تثبيت حقوق الشعوب في حياتها الواقعية معناه في هذه الحالة العمل من أجل التحرر من الآثار العميقة التي تركتها الظاهرة الاستعمارية في حياة الشعوب التي كان من نصيبها أن تخضع لتلك الظاهرة الهيمنية الشاملة، والتحرر من تلك الآثار كذلك على صعيد العلاقات الدولية في الوقت الراهن.فرغم صدور النصوص التي تقر للشعوب دون تمييز بسيادتها على أراضيها وبحريتها في تدبير شؤونها، فإن محاولات الهيمنة لم تنقطع، علما بأنها وجدت لنفسها صيغا جديدة ومبررات أخرى غير التي اعتمدتها في السابق،واستمرارها معناه العمل ضد ماتقتضيه حقوق الإنسان منطبقة على مستوى الشعوب. 4) إذا كان حق الشعوب في السيادة على نفسها ثابتا، فإن المواثيق الصادرة بهذا الصدد تثبت لها الحق في مقاومة كل سيطرة خارجية على أراضيها وحرمانها من سيادتها على شؤونها.ولايمكن الاحتجاج على هذه المقاومة المشروعة بأي حال من الأحوال لأنها تكون دائما ردا على عنف الاحتلال والحرمان من الحرية. وبفضل هذه المقاومة التي صدرت عن الحركات التحررية في القرن العشرين تمكنت كثير من الشعوب من استرداد حريتها وسيادتها على أراضيها، وما زالت بعض الشعوب في جهات أخرى مثل فلسطين والعراق تمارس هذا الحق المشروع. 5) يدخل في نطاق حقوق الشعوب أيضا امتلاكها للسيادة على ثرواتها ومجموع الموارد الطبيعية في حدود أراضيها المعترف بها دوليا على البر والبحر على السواء.وليس من الجائز تبعا لذلك حرمانها من هذا الحق. ولكن هذا الحرمان وقع في كل محاولات الهيمنة في التاريخ، كما عرفته بوضوح السياسة) يتضمن حق الشعوب الحق في الاختلاف، وذلك لأن لها تكوينا تاريخيا مختلفا، كما أن من مكونات كل شعب تعاقداته الخاصة وتقاليده وأعرافه التي يعتبر احترامها من احترام هويته المجتمعية والتاريخية. وتنبغي المحافظة على هذه الحقوق. فالإنسانية التي تكون قد بلغت المستوى المطلوب من نضجها والوعي بقيمتها هي التي يكون لديها وعي بتشكلها التاريخي المتنوع وهي التي تمتلك القدرة على تدبير تعايشها في إطار الاختلاف الذي يشكل بعضا من غنى وجودها. 7) من حق الشعوب على حكامها إشاعة العدالة في المجتمع، وذلك عبر التشريعات التي تكفل لجميع الناس حقوقهم بالمساواة أمام مؤسسات العدالة، وكذلك بمنحهم فرصة الدفاع عن حقوقهم حينما يشعرون بضياع بعض الحقوق منهم. لكن العدالة في معناها المادي تعني أيضا إشعار كل أفراد الشعب باستفادة فئات المجتمع كلها من ثروات البلاد في الأرض وما تحت الأرض وفي البحار إذا كان البلد يتوفر عليها. ونعلم أن الاحتجاجات المجتمعية تأتي من غياب الشعور بالعدل. ومن جهة أخرى، فإن الحق في العدالة يغيب مع عدم تكافؤ الفرص المجتمعية في التعليم والتشغيل. يختار الشعب حكامه لكي يدبروا شؤون المجتمع بما يتوافق مع هذا المطلب، وأما عند غياب تحققه، فإن الشعوب تثور من أجل استعادة حقها في العدالة. 8) التنمية كذلك حق من حقوق الشعوب، إذ أن اختيار الشعوب لحكامها يكون من أجل تنمية أحوالها. وتكون التنمية بوضع سياسات لتنمية الثروات بمختلف مستوياتها، وبتنمية الطاقات البشرية، وتنمية المؤسسات التي تكون قادرة على منح أعضاء المجتمع بمساواة بينهم فرص التكوين والشغل والاستمتاع بالحياة التي تضمن صحتهم واستمرار حياتهم. وعلى العموم، من حق الشعوب على حكامها جعل حقوقها مقصد سياستهم في مختلق المستويات. 9) وأخيرا لاآخرا نذكر من حق للشعوب في العيش في سلام وفي تعايش في عالم واحد وموحد زادت التطور التقني من وحدته. لكن هذه الوحدة التي لم يكن لها مثيل في السابق ينبغي أن تكون إيجابية لا أن تكون مصدر صراعات مدمرة للوجود الإنساني ولكل الحقوق المرتبطة به.وإن صدور الميثاق العالمي لحقوق الإنسان بعد الحرب العالمية الثانية ذو دلالة على أن السلام كان منذ البداية مطلوبا في ذلك الميثاق. لكن الحروب المدمرة التي دارت في جهات مختلفة من العالم بعد صدور الميثاق تبرز، مرة أخرى، الطريق الطويل الذي على الإنسانية أن تقطعه لكي تصل إلى الغاية المنشودة من حقوق الإنسان. تبدو الإنسانية اليوم غير قادرة تمام القدرة على تجاوز سلبيات الهيمنة التي تمارسها القوى الكبرى في العالم. وهي لا تظهر عاجزة عن تدبير اختلافاتها الحضارية والمجتمعية فحسب، بل عاجزة عن التخلص من عواقب عالم يسوده توازن مقلوب تكون فيه القوة هي المعيار الأساسي. والطريق إلى توازن العالم هو في الوقت ذاته طريق إلى العمل بمقتضى حقوق الإنسان. تلك نماذج من الحقوق المطلوبة اليوم على صعيد الشعوب، ونراها متوافقة مع الحقوق التي تخص الشخص الإنساني وقيمته وكرامته.والحديث عنها تركيز على بعد آخر لحقوق الإنسان، وتمهيد للحديث عنها على الصعيد الدولي.