- 1 - الحرية بمستوياتها المختلفة وتمظهراتها المتنوعة مطلب إنساني في كل المجتمعات، بحيث يمثل حضورها في الحياة المجتمعية أو غيابها عنها وضعف وجودها فيها معيارا للفرق بين المجتمعات من حيث التزامها بالعيش تبعا لمقتضى احترام حقوق الإنسان.للمطالبة بالحرية تاريخ طويل، وقد قويت تلك المطالبة في كل حالة ساد فيها نظام سياسي ومجتمعي يمس حريات الناس ويفرض شروطا تجعلهم فلقدين لحرياتهم. نظرا لعمق هذا المطلب الحرية بالنسبة للوجود الإنساني الفردي والجماعي صار البحث فيها موضوعا للفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي، وتطورت بصددها مذاهب شتى في العصور المختلفة من التاريخ العام للإنسانية، وفي الثقافات المتنوعة التي تعاقبت أو تعاصرت في ذلك التاريخ. غير أنه ليس من غايتنا، ونحن نتناول الحرية بوصفها حقا أساسيا من حقوق الإنسان، أن نعود إلى التاريخ الفكري لنفحص التصورات المختلفة للحرية، ولنبحث في الدلائل والدلائل المضادة على وجودها أو عدم وجودها بالنسبة للإنسان. ذلك أن الحرية المتحدث عنها في نصوص مواثيق حقوق الإنسان تتعلق بالإنسان ككائن مجتمعي، لاكوجود ميتافيزيقي. ارتبطت الحرية لدى الإنسان بوعيه بوجوده، وكادت مكانتها ضمن هذا الوعي ارتباطها بوجود الإنسان وقيمته، فتصور الناس دائما أن الوجود الإنساني يفقد قيمته الحق إذا انعدم فيه شرط تمتعه بالحرية في مستوياتها المختلفة. ونظرا لقوة تعلق الإنسان بحريته ولطابعها الوجداني، لم يقتصر تناولها على الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين والسياسيين، بل ظهرت في الشعر وكافة الأعمال الأدبية والفنية في جميع الثقافات. نريد أن نبرز المعنى الذي يرد به لفظ حرية في مجموع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. فالأمر لايتعلق بإثبات الحرية للإنسان بتقديم دلائل على ذلك ، ولا بنفيها عنه بتقديم دلائل مضادة للأولى. فقد نتصور أننا نثبت الحرية نظريا دون أن يكون الإنسان، فردا كان أو جماعة، متمتعا بها لأنه يستحقها. أما إذا تصورنا أننا ننفي الحرية عن الإنسان، فإن ذلك يعني بالنسبة للموضوع الذي نتناوله بالدراسة أنه لاحاجة للحديث عن حقوق الإنسان لأن هذه الحقوق تنبني على افتراض الحرية له، مع مايكون في الجدل المجتمعي من افتراض الواجب الذي تفرضه حياة الإنسان في المجتمع. الحرية التي تتحدث عنها نصوص المواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان متميزة بكونها مجتمعية. ونجد أننا بهذا المعنى اقرب من بين النظريات حول أسس المجتمع إلى نظرية التعاقد المجتمعي التي قال بها في القرن الثامن عشر: هوبز ولوك وروسو. والفكرة العامة المشتركة لدى هؤلاء الفلاسفة هي القول بأن قيام المجتمع على أساس تعاقد يقود نحو استبدال الحرية الطبيعية للإنسان في حالة الطبيعة، السابقة لتأسيس المجتمع، بحرية مجتمعية تنظمها تعاقدات المجتمع في عدة مستويات. فالحرية الحق بالنسبة للإنسان هي التي تنتج عن التعاقد المجتمعي وتكون مظهرا من مظاهره وشرطا من شروط حركيته. الحرية التي يوصف بها الإنسان بهذا المعنى الذي حددناه، وبالإضافة إلى كونها حقا طبيعيا له، هي أيضا حق مكتسب له بفعل انتمائه للمجتمع المؤسس على تعاقد بين مكوناته. ونفهم من خلال ماذكرناه معنى ورود ذكر الحرية في المادة الأولى من نص الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان مرتبطة بالحق في الحياة، وهذا مايدل على أهميتها ويبرز أن الحياة الإنسانية التي تنقصها الحرية تغيب عنها بذلك قيمة أساسية من القيم الني تمنح الوجود الإنساني معنى. ومن هذه الجهة من النظر، فإن الاعتراف بحرية الإنسان والعمل من أجل تعميم التمتع بها على جميع أفراد النوع الإنساني، مهما يكن وضعهم المجتمعي وانتماؤهم الفئوي، هو الأساس للعودة بالإنسانية في كل مجتمع إلى وضعها الطبيعي.هذا مايفسر ، من جهة أولى، ربط الحرية بالحياة الإنسانية، ويفسر كذلك القول بالمساواة بين الناس من حيث هم أحرار. الحرية، كما بيناها وأثبتنا ضرورتها في حديثنا السابق عنها أساس لنظام المجتمع ومظهر من مظاهر توازنه، ولذبك يشكل تغييبها مدخلا لاضطرابات وصراعات تخل بذلك النظام. وقد دلت تجارب الحركات المجتمعية أن فئات المجتمع التي تصبح بفضل شروط الحياة المجتمع فاقدة لحريتها - 2 - يمكن النظر للحرية من زاوية أخرى هي دلالتها الأخلاقية في الحياة المجتمعية اليومية.فالحرية فعل فيه تفاعل مع الغير ومع المؤسسات المجتمعية. وحيث إننا في هذا الجزء من بحثنا مسعى إلى فهم الحرية بوصفها فعلا له شروط أخلاقية، فإننا نؤكد أن الإنسان الفرد، وهو يشارك في الحياة المجتمعية، يحيا ضمن جدل اعتراف الغير له بحريته في الوقت الذي ينتظر منه الآخرون ألا يصدر عنه ما يعوق ممارستهم لحريتهم في المستويات المختلفة للحياة المجتمعية. لايشعر الشخص بحريته وهو منعزل، بل يشعر بها وهو يعيش مع الغير. للحرية جدل آخر على الصعيد الأخلاقي هو جدلها مع الواجب. فامتثال الإنسان لأمر الواجب، وهو أمر عقلي في نظر كنط، دليل على حريته، لأن السلوك تبعا لما يحدده الواجب اختيار أخلاقي. وهذا يعمي أن فقدان الإنسان لحريته في أي شرط من الشروط، فرديا كان أو مجتمعيا، يمنعه من القيام بواجبه إزاء ذاته وإزاء غيره. صاغ كنط الأمر بالواجب في قواعد يهمنا في السياق الذي تحن فيه أن نستعيد منه تلك القاعدة التي مضمونها أن على الإنسان عند القيام بأي فعل أن يعتبر فعله ذلك قانونا كليا يهم جميع الناس. ونأخذ من هذه القاعدة مايسمح لنا بالقول: إن كل إنسان يقوم بالواجب بامتثاله للأمر العقلي الذي يحدد له مايجب أن يقوم به، ويعي عبر ذلك بأنه حر يكون عليه أن ينظر إلى جميع الناس من حيث هم أحرار، حتى لوكان الأمر يتعلق باختيار عدم القيام بالواجب. المظهر الآخر لجدل الحرية في المجال الأخلاقي متمثل في علاقتها بالكرامة الإنسانية. ففي التعامل مع الإنسان بكونه كائنا حرا اعتبار لكرامته من حيث هو كائن قيمة سامية على كل ماعداه في الوجود. أما حرمانه من الحرية التي هو أهل لها، فمعناه عدم اعتبار كرامته التي هي أغلى ما في وجوده ، وبها يرتبط وعيه بقيمته السامية. للحرية، من جهة أخرى ارتباط بالمسئولية الأخلاقية. فالحرية واجبة في حق الشخص الذي نرجع إليه المسئولية على عدة مستويات من الحياة المجتمعية. الإنسان حر في اختياراته، ولكن الحرية هي التي تجعله متحملا للمسئولية القانونية والمجتمعية على كل فعل يصدر عنه، وهو ما يتطابق مع صفة الحرية كما قدمناها في هذه الدراسة، أي من حيث هي مظهر من مظاهر تعاقد مجتمعي شامل.الإنسان مسئول عن ذاته، واختياراته في جميع مظاهر حياته الشخصية والمجتمعية ينبغي أن تعود إليه، ولذلك فإن كل شرط يجعل الإنسان فاقدا لحريته يطرح إشكال القول بمسئوليته. - 3 - الحرية، نظرا لقيمتها بالنسبة للوجود الإنساني، موضوع للصراعات في المجتمعات، وشعار رفعته كل الثورات المجتمعية، وحق من الحقوق الأساسية التي نادت بها. ونعلم أن الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر جعلت من الحرية واحدا من المبادئ التي قامت عليها والتي جعلت تحقيقها مهمة الإنسانية في المستقبل ، كما أن وثيقة الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن الصادرة عن الجمعية الوطنية الفرنسية بعد الثورة أشارت إليها. ونجد نفس هذا الأمر في الثورة التي تأسست عليها الولاياتالمتحدةالأمريكية، كما نجده في وثيقة الإعلان عن حقوق الإنسان الصادرة بعد الثورة الأمريكية. ونرى أن الأمر كان كذلك في جميع الثورات المجتمعية على مدى التاريخ، وخاصة انطلاقا من القرن الثامن عشر إلى اليوم. مهما تكن المطالب الأخرى المادية أو القانونية ضرورية، فإن الحرية أكثر ضرورة منها، إذ تبدو بمثابة الأساس الذي تستند إليه كل المطالب الأخرى ويمنحها دلالتها الحقيقية. أصبحت الحرية في المواثيق الصادرة عن الثورات المجتمعية منذ القرن الثامن عشر تنسب للمواطن ، وهو مفهوم يشير إلى شخص في شروط واقعية أكثر مما يشير إليه مفهوم الإنسان نفسه. ولايعني مفهم المواطن العضو الفرد من المجتمع فحسب، بل يعني في عمقه هذا الشخص المندمج في الحياة المجتمعية بتعاقداتها، والذي تصدر عنه أفعاله في إطار تلك التعاقدات. يمنح المجتمع المواطن حرياته مرتبطة بالتزامه باحترام تعاقدات المجتمع والعمل بمقتضاها. مفهوم المواطن الذي ينبغي تمتيعه بحرياته نتاج لمرحلة أسمى من تنظيم المجتمع هي المرحلة التي يصبح فيها هذا المجتمع مبنيا على تعاقدات واضحة تبين الحريات والواجبات في نفس الوقت. وإذا كانت التحليلات المنطلقة من القرن الثامن عشر إلى الآن تتحدث عن المجتمع المدني، فإن المواطن الذي يحيا داخل مجتمعه جدل الحريات والواجبات هو العنصر الأولي لهذا المجتمع. وليس هناك في الزمن المعاصر تمييز بين أعضاء المجتمع من حيث استحقاقهم لصفة المواطنة، كما كان ذلك في بعض المجتمعات في عصور سالفة مثل المجتمع اليوناني القديم. لذلك يتميز الوضع الحالي بتعميم الحرية على كل إغضاء المجتمع الذين يكونون جميعا مواطنين. - 4 - حين يدخل المجتمع مجال الحريات العامة لأعضائه، فإنه يضع أعضاءه ومؤسساته ضمن جدل الحرية والقانون. وقد وقفنا في السابق عند ما يكون مدخلا لهذا الجدل حين أشرنا إلى أن الحرية في نصوص المواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان متصفة يكونها مجتمعية، أي أنها حرية مشروطة بالعمل وفقا للتعاقدات التي تتأسس عليها الحياة المجتمعية. ليست الحرية في هذا المعنى مستندة إلى شعور باطني بها، ولاهي كذلك معطى طبيعي للإنسان من حيث هو كذلك، بل هي ذاتها مظهر من مظاهر تعاقد المجتمع على تمتيع أعضائه بها. القانون تأطير للحياة المجتمعية بكل مظاهرها، وحين توجد ظواهر لايحكم القانون صيرورتها يعني ذلك وجود نقص في القوانين الموضوعة، ويعني ضرورة الاجتهاد القانوني من أجل تقنين الوقائع والظواهر غير المقننة. نبني على ماسبق قولنا إن الحريات المجتمعية هي التي تتيح له القوانين ممارستها. ليست الغاية الأسمى للقانون هي كبس الحريات وتضييق مجالات ممارستها، بل إن تلك الغاية بالأولى هي تنظيم الحريات والحرص على عدم تعارضها أولا، ثم على عدم تجاوزها للأسس التي انبنى عليها المجتمع ثانيا. لا يمكن تصور مجتمع بكل أبعاده دون حضور القانون فيه لأن المجتمع يفقد بذلك أحد الأسس التي قام عليها. وعندما تقوم ثورات مجتمعية مطالبة بالحرية، فإنها لاتطالب من أجل ذلك بإلغاء القوانين المنظمة للمجتمع. هناك، حقا صعوبة في التوافق في جميع الحالات بين الحرية والقانون، ولكن استمرار الاستقرار في الكيان المجتمعي ومؤسساته يقتضيهما معا وبنفس القوة، لأن حضور كل منهما في الحياة المجتمعي يعطي للآخر معناه الحق. يعطي القانون معنى للحرية من حيث هو صيغة للتوفيق بين ضرورتها وبين التعارضات الممكنة لها حين نأخذها على الصعيد الفردي بصفة خاصة. ماتقوم الثورات المجتمعية ضده هو الانحرافات التي تقع في تطبيق القانون، والتي تجعله متعارضا مع الحريات بوصفها مطلبا أساسيا للإنسان. ويشمل هذا الأمر القوانين الخاصة، كما يشمل أيضا قانونا أسمى لكل مجتمع هو الدستور. فقد وقع وضع بعض الدساتير بكيفية تجعل بعض بنودها متعارضة مع حرية المواطنين في نشاطاتهم المجتمعية عامة، والسياسية خاصة. وهذا مايجعل الثورات المجتمعية تدعو إلى الرجوع بالدساتير إلى صيغتها الأصلية باعتبارها تعبيرا شاملا عن التعاقد المجتمعي، والمطالبة بمراجعتها. لن نطيل في سياقنا الحالي النظر في هذا الموضوع لأنه يستحق لوحده أن نفرد له دراسة خاصة به. ونكتفي بالقول إن الحرية بالمعنى الذي ترد به في بنود المواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان حرية مجتمعية، فيها تبادل الأخذ والعطاء بين الفرد المواطن وبين غيره ممن يشاركونه الحياو في نفس المجتمع، ثم بين المواطن وبين المجتمع ومؤسساته. الحرية ضمن جدلها مع القانون مطلب أساسي يكون على القوانين أن تشرع لممارستها، ولكن القانون ، من جهته، مطلب أساسي أيضا من أجل الحفاظ على استخدام الحريات في نطاق حفاظ المجتمع على توازنه وتعاقداته. لايتم في صياغة القوانين في أي مجتمع مقام على أساس سليم قمع الحريات الفردية والجماعية وإقصاؤها، بل يتم التشريع لها من حيث هي مظهر أساسي من مظاهر التوازن في المجتمع، وعامل لاغنى عنه من أجل استثمار الكفاءات المتوفرة في القطاعات المختلفة. ترد الحرية مثل حقوق أخرى ضمن ماينهى الميثاق العالمي عن حرمان الإنسان منه وضمن ما لايجوز في حق أي إنسان بدون تمييز، إذ كان النهي الأول متعلقا بعدم جواز استرقاق الإنسان للإنسان لأن ذلك يكون منافيا للعمل وللعيش بمقتضى حقوق الإنسان.أما الحرية، فهي الواقع الطبيعي للإنسان، وهي كذلك المقابل الإيجابي للنهي عن الاسترقاق. فإضافة إلى عدم جواز حرمان الإنسان منها، هناك وجوب تمتيعه بها حقا من حقوقه الأساسية. نؤكد على الحرية بهذا المعنى لتمييز المقصود منها ضمن الحديث عن حقوق الإنسان في الإعلان العالمي الذي يحدد كيفيات العمل بمقتضاها. فليست الحريات التي نعتبرها حقوقا للإنسان مجرد تحرر من كل القيود الممكنة، بل هي مجموعة من الشروط التي تجعل الإنسان قادرا على معايشة آخرين في نفس المجتمع ومهيئا للمساهمة في الحياة المجتمعية والسياسية والإنتاجية. الإنسان ضمن المفهوم الإيجابي للحريات التي نجعلها من حقوقه ذات لها مطلب بحقوق واجبة في حقها، ولكنه أيضا ذات لها واجبات هي حقوق لغيرها وللمجتمع بصفة عامة.ونؤكد هذا تجنبا للوقوع في التناقض بين الحريات وبين القانون.الحريات بوصفها حقوقا للإنسان هي حريات لشخص إنساني مندمج في المجتمع وفاعل في صيرورته بشكل إيجابي. ليست الحريات المطلوبة ضمن حقوق الإنسان متنافية مع وجود المجتمع والسلطة ولاتكون إلا بنفيهما لصالح الشخص الإنساني الفرد، بل هي الحرية الناتجة عن تفاعل الفرد مع محيطه المجتمعي. هناك،إذن، مجموعة من الحريات التي يتضمنها الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان.فمن خلال تتبع الحريات المشار إليها نتمكن من معرفة المنطق الذي حكم تشكيل نص ذلك الإعلان ، ونتعرف كذلك على خلفيات بعض المواقف منه وعلى أسس بعض الاختلافات حوله. الحرية تعني إمكانية الاختيار بين شيئين أو الاختيار بين موقفين، ولذلك ينص ميثاق حقوق الإنسان على تمتيع الإنسان بحرية الاختيار في عدة مستويات بعضها شخصي وبعضها الآخر يدخل ضمن حريات جماعية.وأول اختيار يهم الحياة الشخصية للإنسان هي اختيار شريك الحياة، إذ يتضمن الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان ضرورة ضمان حرية الإنسان في ذلك .ولكن المجتمعات تختلف من حيث استجابة قوانينها وتقاليدها لمنح أعضائها هذا الاختيار كاملا، حيث هناك موانع مجتمعية وأخرى دينية واعتقادية. وعمق هذا البند في ميثاق خقوق الإنسان أنه يذهب إلى حدود النص على الحقوق التي تهم علاقة الفرد بمحيطه العائلي المباشر. ولكن كثيرا من المجتمعات بنت تقاليدها على أساس تدخل المحيط المباشر في حياة الشخص، ويصعب داخلها، بالتالي، تنفيذ حق الحرية في هذا المستوى. هناك أيضا حرية التنقل.وتهم هذه الحرية تنقل الإنسان داخل بلده، ثم حريته في التنقل إلى بلدان أخرى بصفة مؤقتة أو من أجل حياة دائمة فيها. وكل تقييد لهذه الحرية يكون منافيا لحقوق الإنسان. ونلاحظ في الواقع أن عددا من البلدان تضع قيودا على انتقال الأشخاص بداخلها وعلى انتقال الناس منها إلى بلدان أخرى. كما أن الشروط الحالية للعالم، وهي التي تشهد تزايد أعمال العنف المنظم، فرضت على كثير من البلدان وضع قيود على انتقال الناس إليها. وهناك حرج على الصعيد الدولي بين منح الناس كافة حريتهم في التنقل وبين فرض الشروط الهادفة إلى حماية البلاد من انتقال مظاهر العنف إلى حدودها الترابية. هناك حريات أخرى تهم العلاقات المجتمعية وتتعلق بالنظام العام للمجتمع،ومنها تمتيع الإنسان بحق الاختيار بالنسبة لانتماءاته إلى جمعيات أو نقابات أو أحزاب سياسية، ويرتبط بذلك حقه في المشاركة في الحياة الثقافية والسياسية للبلاد بالكيفية التي يرتضيها لنفسه. ولامجال للتضييق على هذه الحريات. تنضاف إلى الحريات السابقة حرية التفكير وحرية الاعتقاد.وقد ذكرنا عندما كنا بصدد الحديث عن الحقوق التي وردت بصيغة النهي أنه لايجوز في حق الإنسان إرغامه على انتماء محدد ، كما لايجوز دفعه تعسفانحو تبني معتقدات أو أفكار معينة.ويرتبط بهذا كله ضرورة تمتيع الشخص الإنساني بحرية الاختيار في مجال الاعتقاد الديني، وهو مايتضمن في معناه الواسع إمكانية اختيار دين معين أو عدم اختيار أي دين على الإطلاق. ونلاحظ أن هناك اختلافات تخص المدى الذي يمكن الذهاب إليه في هذا الاختيار، وخاصة بين نموذج المجتمعات الغربية المعاصرة والمجتمعات الإسلامية.وهذا موضوع يدخل ضمن بعض الاختلافات والتحفظات بصدد نص الإعلان عن حقوق الإنسان وبعض المواثيق الأخرى المكملة له. تتوافق مع ما سلف ذكره حرية التعبير.وتندرج في هذا الإطار حرية الإعلام والصحافة.والإعلام وسيلة للاتصال بالخبر والتعليق عليه حسب وجهة النظر التي تتبناها الجهة التي يصدر عنها هذا الخبر.وهذا الإشكال مطروح بالبلدان السائرة في طريق النمو بصفة أوضح، وهي البلدان التي لم تنجح مجتمعاتها بعد في التحرر من تقاليد هيمنة جهاز الدولة على كل مظاهر صيرورة المجتمع، وفي تمثل إمكانية وجود إعلام حر. وهذه من صعوبات بناء دولة حديثة في هذه البلدان.فما تزال أدوار الدولة كثيرة ومنها توجيه الإعلام حسب توجه السلطة الحاكمة والمصالح التي ترتبط بها. يندرج ضمن حرية التعبير الحق في انتقاد الأسس التي يقوم عليها المجتمع والحق في الدعوة إلى تعديلها بما يخدم المصلحة العامة لذلك المجتمع. وكل البلدان التي يقع فيها تضييق على هذا الحق تدخل في خانة الدول المنافية في سياستها للعمل بمقتضى حقوق الإنسان ، حتى لو كانت قد وافقت مبدئيا على النصوص المتعلقة بتلك الحقوق. مجال الحرية واسع، إذن، يشمل الحريات التي ذكرناها وغيرها من الحريات.ونرى أن البنود المتعلقة بالحريات ضمن مواثيق حقوق الإنسان أساسية، وأن مضمونها من المعايير الأولية المعتبرة اليوم لتحديد انتماء أي بلد إلى متطلبات العصر. من الملائم أيضا الإشارة إلى أن هناك اختلاقا قي تأويل الحريات التي ينص عليها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وفي إمكانية التدخل في المجتمعات التي ينظر إليها بوصفها موضوعا لنقص في ممارستها. كما نشير إلى أن تصور هذه الحريات موضوع لصراع دولي على الصعيد الفكري والإيديولوجي، وعلى الصعيد الواقعي.