يصعب التكهن بما ستؤول اليه الاوضاع في سوريا. لكن الثابت ان النظام يشعر بخطورة المرحلة. ولذلك عبّأ عشرات الآلاف وانزلهم الى الشارع في دمشق وحلب لاظهار انه لن يكون من السهل اسقاطه. يفترض بالقدرة على التعبئة ان لا تمنع القيمين على النظام من الاعتراف بانه يمرّ في ازمة عميقة لا يمكن تجاوزها عن طريق اطلاق الهتافات ورفع شعارات مؤيدة على الطريقة الكورية الشمالية. الازمة عميقة وتحتاج الى اجراءات استثنائية تستند اول ما تستند الى الاعتراف بأن الهروب المستمر الى امام لا يوفر اي حل في المستقبل المنظور وان الحاجة الى اعادة نظر شاملة في كل الامور، بدءا بالاعتراف بان ليس في الامكان استغباء الشعب السوري الذي يمتلك طاقات ضخمة وعقولا منفتحة. هل هناك منْ يعرف ان اكبر عدد من الاطباء العرب في الولاياتالمتحدة وكندا من السوريين؟ هل هناك منْ سأل لماذا لا وجود لمستشفى لائق في سوريا كلها؟ لماذا فضّل هؤلاء الاطباء الغربة؟ متى تمعّن المرء في الاحداث الاخيرة التي شهدتها مناطق سورية عدة، يجد ان القضاء على الحراك الشعبي، الذي بات على شفا التحول الى ثورة شعبية عارمة، لا يمكن ان يكون عن طريق قرارات ذات طابع اصلاحي من النوع المضحك المبكي صدرت او ستصدر عن الرئاسة السورية. مثل هذه القرارات اشبه بمحاولة مداوة مريض مصاب بالسرطان بواسطة الاسبيرين. الموضوع يتجاوز اصلاحات ما، حتى لو تناولت اعترافا بضرورة اطلاق حرية الاعلام وانشاء احزاب وتوفير الضمان الصحّي لموظفي الدولة وزيادة الرواتب والغاء حال الطوارئ. الموضوع موضوع نظام يعتقد ان الشعب السوري مجرد قطيع وانه قادر على قيادة هذا القطيع بمجرد اطلاق شعارات لها علاقة بالممانعة والمقاومة في حين لا وجود لمقاومة او ممانعة، في سوريا، سوى لدى ذوي المخيّلات المريضة المستعدين للتضحية بآخر لبناني وآخر فلسطيني بحجة وجود مقاومة. لا يستطيع المواطن السوري ان يشبع من سندويش اسمه ممانعة وآخر اسمه مقاومة... في النهاية، ان المواطن السوري ينتمي الى شعب يمتلك حضارة قديمة تعرف معنى تسخيف النظام السياسي والاقتصادي على يد حزب البعث بغية وضع السلطة والدولة في يد مجموعة لا تشبه سوى النظام البعثي- العائلي الذي كان قائما في العراق في عهد صدّام حسين. ما ينقذ سوريا هو اعتراف النظام بازمته العميقة التي لا يستطيع الاستمرار في الهرب منها. عملية الهروب الى امام التي مارسها النظام، والتي صارت جزءا منه، كانت ممكنة في الماضي، خصوصا ايام الحرب الباردة عندما كان الرئيس الراحل حافظ الاسد يمارس لعبة الاستفادة من التوازنات الاقليمية والدولية بطريقة ذكية مكنته حتى من الدخول عسكريا الى لبنان بضوء اخضر اميركي- اسرائيلي وفره هنري كيسينجر. الحرب الباردة انتهت. التوازنات الاقليمية صارت مختلفة. لم يعد هناك مجال للمناورات. لم تعد لعبة تجاهل التوازنات الجديدة تجدي. الدليل على ذلك طبيعة العلاقة الجديدة القائمة بين دمشق وطهران والتي تجعل من النظام الايراني صاحب الكلمة الاخيرة في كل ما هو مرتبط بهذه العلاقة، خصوصا بالنسبة الى لبنان الذي تحول ضحية السياسة التوسعية القائمة على اثارة الغرائز المذهبية للنظام الايراني... يظل لبنان المقياس الحقيقي لقدرة النظام السوري على ان يتغيّر. لا ينفع اي كلام عن اصلاحات في سوريا من دون مراجعة للسياسة الخارجية للدولة بما يمكنها من لعب دور ايجابي في الاقليم. انها سياسة مبنية، الى اشعار آخر، على تغطية الازمة الداخلية بالهرب الى الخارج. مثل هذه السياسة لم تعد ممكنة لسبب في غاية البساطة يتمثل في ان العالم تغيّر. من كان يصدّق ان القوات السورية المنتشرة في لبنان يمكن ان تنسحب يوما من الاراضي اللبنانية؟ من الواضح ان النظام السوري لم يفهم يوما ان دم رفيق الحريري الذي سعى الى كل ما يمكن ان يخدم سوريا ولبنان سياسيا وماليا واقتصاديا وحضاريا هو الذي اخرج القوات السورية من لبنان. هناك اصرار على عدم استيعاب معنى الانسحاب العسكري السوري من لبنان وان ذلك كان مفترضا ان يمهد لعملية اصلاح حقيقية في سوريا نفسها بدل اعتماد المكابرة ولا شيء آخر غير المكابرة، وكأنه يمكن ان تقوم سياسة على المكابرة. في السنة 2011 ، تجد سوريا نفسها تحت رحمة ميليشيا مذهبية تابعة لايران في لبنان. تقبل بهذا الوضع، بل ترضخ له، من اجل ان تقول ان في استطاعتها التحكم بالسياسيات الداخلية اللبنانية، علما بان ذلك ليس صحيحا وان كل ما في الامر انها مضطرة الى التعاطي مع حثالات الحثالات من سنّة ومسيحيين ودروز في لبنان من اجل القول انها تمتلك اوراقا لبنانية وان في استطاعتها فرض رئيس للوزراء غير سعد الحريري. من حسن الحظ ان رئيس الوزراء الذي تحاول فرضه، والذي تعتقد ان في استطاعتها ارضاء اهل السنة في لبنان عبره، غير قادر على تجاوز خطوط حمر معينة لاسباب مذهبية واخرى مرتبطة بطبيعة الاعمال الخاصة التي يمارسها الشخص المعني في الوقت نفسه. يظل لبنان المكان الذي يستطيع ان يبرهن النظام السوري من خلاله انه يستطيع ان يتغيّر في العمق. كل ما تبقى تفاصيل. يستطيع النظام ان يتغيّر في حال تصرف بطريقة مختلفة في لبنان. وهذا يعني ان يتصرّف تصرفا طبيعيا تجاهه، بصفة كون سوريا دولة مجاورة وليست قوة اقليمية عظمى تعطي دروسا في المقاومة والممانعة اللتين لا وجود لهما اصلا. مثل هذا النظام يستطيع عندئذ التصالح مع شعبه. كذلك، يستطيع الاعتراف بان هناك تيارا دينيا متطرفا يزداد قوة في سوريا وان ذلك ليس في مصلحة مستقبل البلد والمنطقة والمجتمع السوري في اي شكل. ويستطيع الاعتراف بان لا وجود لاقتصاد منتج في سوريا وان رجال الاعمال القادرين على خلق وظائف في البلد انما فرّوا من سوريا منذ فترة طويلة. ويستطيع الاعتراف بان ليس طبيعيا ان يكون النظام التعليمي متدنيا الى هذه الدرجة وان لا مفر من وضع حدّ للنمو السكاني غير الطبيعي في وقت لا مجال لاي تقدم في مجال زيادة الدخل القومي وحتى زيادة المساحات الزراعية او الحد من العشوائيات المحيطة بالمدن. هل في استطاعة النظام السوري اصلاح نفسه؟ ليس في الامكان اعطاء جواب حاسم. كل ما يمكن قوله ان الخطوة الاولى التي يمكنها حماية النظام تتمثل في الابتعاد عن المكابرة. سوريا ليست قوة اقليمية. موقعها الجغرافي في غاية الاهمية، لكنّ اقتصادها لا يسمح بذلك. سقوط الاتحاد السوفياتي وانهياره اهمّ دليل على ذلك. كان الاتحاد السوفياتي، الذي انهار قبل عقدين، يستطيع على الاقلّ صنع لمبة كهربائية وجرارا زراعيا وحتى قنبلة نووية فضلا عن دبابات وصواريخ... للمرّة الالف، ان الابتزاز والمكابرة لا يمكن ان يكونا سياسة. من يراهن على الانقسامات الطائفية والمذهبية في لبنان وعلى «هشاشة» الصيغة في لبنان، سيكتشف يوما ان هذه الانقسامات لا يمكن الا ان ترتد عليه، كذلك «الهشاشة» اللبنانية. من يراهن على اسوأ نوع من اللبنانيين من امثال ميشال عون وما شابه ذلك من اشباه الاميين، من الذين لا يريدون الخير لا لسوريا ولا لبنان، لا يمكن الا ان يفشل. لن يخدم هذا الفشل السوري لا لبنان ولا سوريا... ولا اللبنانيين ولا السوريين للاسف الشديد! ثمة حاجة الى مراجعة تامة وفي العمق لكل ما له علاقة بالسياسات السورية على الصعيدين الداخلي والخارجي. كان اغتيال رفيق الحريري، بغض النظر عن مدى تورط النظام السوري في الجريمة، افضل تعبير عن الازمة العميقة لهذا النظام. انها الازمة التي تطل برأسها كلّ يوم والتي ربما يكون افضل تعبير عنها العجز عن فهم ان ليس في الامكان حلّ اي مشكلة عن طريق الغاء الآخر، بما في ذلك الغاء الشعب السوري!