بعد تجريب عدد من المحاولات الهادفة إلى التغيير في المجتمع العربي، بدءا من الدين الذي كان له دور أساس في توحيد الأمة العربية لقرون طويلة، وأسهم بلا منازع في بناء حضارة قوية كان لها أثر بالغ على ما وصلت إليه الإنسانية اليوم من تحولات اقتصادية وعلمية وتقنية، مرورا بالتجيرب الإيديولوجي الذي انطلق مع الماركسية وتوج بالنزعات الاشتراكية والشيوعية في القرن العشرين، وصولا إلى الثورات العربية مع الربيع العربي، والتي راهنت على التغيير في حين أن معظمها لم يكلل بالنجاح في ظل عدم صلاحية الوضع العربي وقصور الوعي عن احتضان هكذا ثورات، أمام هذا الوضع يبدو أن الثقافة بمفهومها الواسع تبقى المدخل الوحيد للتغيير. إن الثقافة الهادفة لبناء مجتمع المعرفة تتخذ من التوعية أساسها لتغيير الوضع انطلاقا من نشر العلم والتوعية ومحو الأمية التي تعشش على معظم الدول العربية، فتكون المعرفة بهذا المفهوم وسيلة وغاية في الوقت ذاته، بحيث إن الإنسان المثقف بالمعنى العميق لا بد أن ينتهج التغيير لصالح الأمة، فالعواقب الوخيمة التي وصلت إليها الدول العربية سببها الأساس هو غياب الوعي، وترهل الفكر، وعدم الإيمان بالاختلاف، والتعصب الذي يتخذ من القبلية والعصبية مصدره لتطويع الغير وإرهابه. وبالقدر الذي تتعدد فيه عوامل تراجع الوعي في الأمة العربية والتي يبدو أن من أبرز أساسبه غياب سياسة حكيمة، وشيوع سياسة التجهيل لخدمة أهداف تجعل الأمر القائم مستمرا، تتعدد المداخل التي بإمكانها أن تعيد إلى الدول العربية ثورتها الحقيقية في وجه التخلف بمختلف أشكاله، والتي سنذكر بعضها وأهمها. مدخل التعليم نلح دائما على أن التعليم هو المدخل الحقيقي لأي تغيير، ويبدو أننا إلى اليوم ما زلنا في حاجة إلى ثورة حقيقية في التعليم لا تمس الوسائل أو البرنامج أو المناهج أو البيداغوجيات المعتمدة فقط، بل تنطلق من سياسة تعليمية هادفة إلى التغيير، وهذه السياسة لا يمكن أن تتم خارج التدخل المباشر للدولة في الإصلاح؛ وإذا كان عدد من الدول العربية لا سيما في الخليج العربي قد قامت بإصلاحات كبيرة جدا في مجال التعليم، مما جعل بعضها يتبوأ مؤخرا مراتب متقدمة في تحقيق الجودة، فإن دولا أخرى تحاول أن تلقي بالقطاع في فوهة الخوصصة، بحيث تريد تلك الدول أن تنفض يدها من هموم التعليم الذي يعتبر مدخل التقدم والتغيير، وهي بذلك لا تخسر القطاع فقط بل تخسر الوطن أيضا، حيث إنها ستكون مستقبلا عاجزة عن تحقيق اكتفاء ذاتي في الأطر العاملة ذات الكفاءة، مما قد تضطر معه إلى استيراد أطر في كافة القطاعات الحيوية. بذلك يبدو أنه لا مفر من معالجة الوضع عبر إعادة النظر في سياستها التعليمية التي ينبغي أن يكون هدفها هو نشر العلم والمعرفة وتجويد التعلمات، من خلال السماح للجميع بالتعلم في ظروف مناسبة، ونهج سياسة جديدة تحارب من خلالها الهدر المدرسي، لينهي المتعلم على الأقل المرحلة الثانوية؛ ومن أبرز هذه الوسائل إعادة النظر في نظام التقويم والامتحانات، ومواكبة التطورات عبر التكوين المستمر وإعادة الاعتبار للمدرس ولباقي الأطر التربوية، ولن يتم ذلك إلا برفع ميزانية التعليم، وكذا الاهتمام بالبحث العلمي في المراحل الجامعية. مدخل الثقافة غالبا ما نجد أن وزارة الثقافة في الدول العربية تقتصر مهمتها في تكريس الوضع القائم عبر نشر ثقافة الفولكلور، على أهميتها، وتبذير المال في المهرجانات وغير ذلك مما لا يعطي نفسا جديدا للثقافة في الوطن العربي، كما أن الجوائز المخصصة لتشجيع الكتابة والإبداع تظل عاجزة عن تشجيع الإبداع الحقيقي الذي عليه أن يواكب التحولات التي يشهدها العالم اليوم. إن ما يجب الاهتمام به في وزارة الثقافة عموما هو «الإنتاج» والذي يمكن أن يكون المقابل الصحيح «للإبداع»، فأن ننتج معناه أن نعطي وأن نجدد وأن نتقدم، في حين أن ما يروج في الإعلام اليوم من (إنتاجات ) يبدو أنه لا يعدو أن يكون «إعادة إنتاج» وهو ما لن يحقق المطلوب، كما لا يستجيب إلى ما يراهن عليه مجتمع في طور التغيير. وإذا عدنا إلى الثورة الغربية والنهضة الغربية وجدنا أن مدخل التغيير عندها قد تم من خلال حركات ثقافية ما زالت حاضرة في ما ينتج اليوم، وإذا عدنا إلى القرن السابع عشر مثلا، وجدنا أن الثورة التي غيرت فرنسا في عهد لويس الرابع عشر كانت نتيجة الصالونات الأدبية والمقاهي الأدبية التي أثمرت حراكا أدبيا انعكس على موجات ثقافية متعددة مثل الباروك (le baroque) والكلاسيكية (le classicisme) والتحديدية (la préciosité)) والتحررية (le libertinage) وغيرها من الحركات التي صنعت الاختلاف في فرنسا وأسهمت في تحولات عدة توجت بالأنوار وانتهت بالثورة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر. من ثم أمكن الحديث عن ثورة النخبة وثورة القاعدة، وثورة النخبة هي التي يبدو أنه بإمكانها أن تنقلنا إلى مجتمع ثقافي وإلى مجتمع المعرفة، ويبدو بذلك أنه لا مفر من أن ينخرط المثقف اليوم في النضال والحراك المعرفي عبر روافد أكاديمية تنقلنا إلى ثورة النخبة من خلال تعليم القيم الوطنية والقومية والإيمان بالاختلاف ومن خلال مدخل العلم والمعرفة. مدخل الفنون والإعلام الفن كان دوما مدخلا للتغيير في الحضارات ووسيلة تنوير وأداة تعتمد مهارات الذكاء والإبداع، مما جعله في أوربا القرن الخامس عشر والسادس عشر البداية الحقيقية للثورة العلمية والصناعية، غير أننا ننظر في الفن اليوم في المجتمع العربي، رغم الإمكانات الهائلة لبعض الدول، ننظر إليه مهمشا تهميشا كبيرا، وأن ما ينتج من أعمال فنية غالبا ما تكرس الوضع القائم وترسم صورة حالكة عن واقعنا، بيد أن أهمية الفن تتلخص منذ أرسطو في التطهير (la catharsis) وتكمن في التغيير والتجديد والتفكير في الراهن والمستقبل. وإذا عدنا إلى ما يروج في العالم العربي نجده تابعا للغرب في جوهر ما ينتجه، أما الإبداعات التي ترتبط بالواقع العربي فغالبا ما تفتقر إلى الموجه العلمي والثقافي والفني الذي من شأنه أن يعمل على إذكاء روح التجديد في المجتمع العربي ومن ثم تكون له القدرة على التغيير. إن الإعلام في الغالب لا ينصت إلى الطبقات المقهورة في المجتمع، والتي قد تمتلك القدرات الهائلة التي يمكن استثمارها، في حين تلتفت إلى ما يشاع من ثقافة بئيسة ثقافة إشعاعية يسميها البعض ثقافة المقاولة وثقافة تكريس الطبقية من خلال ما يروج. إن السينما والمسرح والفن التشكيلي وغيرها من الفنون، يمكن أن تكون منطلق التجديد ومنطلق الابتكار والخلق، لذلك نجد أن الدول الغربية اليوم لا تهمل شيئا مما يمكن أن يبني حضارتها، حيث تسهر الدولة على تشجيع الإبداع الهادف، وبذلك يبدو أن التركيز على المقومات الثقافية الوطنية أساسي جدا من أجل جيل يحب وطنه ويبدع في وطنه ويحترم قيمه الخاصة لمواجهة المد العولمي ومن أجل ثقافة الاختلاف التي من شأنها أن تواجه ثقافة العنف والإقصاء. مدخل المجتمع المدني لاشك أن الدولة وحدها لن تستطيع أن تصنع الثورة الحقيقة للإصلاح وأن المجتمع وحده بكل بنياته وطبقاته وفئاته هو الذي يستطيع بتضافر الجهود أن يغير، بذلك فإن المجتمع بأكمله عليه الانخراط في الإصلاح وفي التنوير العلمي والثقافي، كل من مكانه وحسب دوره الاجتماعي، ومن هنا لا بد من التذكير بأهمية جمعيات المجتمع المدني التي بإمكانها أن تسهم إسهاما كبيرا في القيام بدورها في مختلف ميادين التنوير الاجتماعي، بدءا من دروس محو الأمية، مرورا بالتعليم غير النظامي لإعادة التلاميذ المغادرين إلى طاولات الدرس، وصولا إلى ما يمكنها أن تساهم به في البحث العلمي والإبداع والنشر ونشر الثقافة والفن الباني من خلال المقاهي الأدبية والصالونات الأدبية، وغيرها من الأنشطة البانية. ويمكن التنويه في هذا الصدد بتجارب قامت بها بعض الدول العربية مثل المغرب مثل الجامعات الشعبية التي أسهمت في التنوير، رغم أنه لم تكتب لها الاستمرارية، فضلا عن مؤسسات التكوين المهني والتي أخرجت الشباب من الجهل والأمية إلى التكوين الذاتي في مختلف المجالات كما أنها أسهمت في تكوين نخبة عارفة قادرة على الإصلاح وعلى التغيير الذاتي أولا. مدخل الرقمية الرقمية حسب ميشيل سير (Michel Serre) ليست ترفا فكريا وتكنولوجيا، بل إنها مدخل للديمقراطية المعرفية أيضا، ومن ثم فإن كل من يمتلك حاسوبا، كما يرى الباحث المغربي محمد أسليم، يمتلك مكتبة ودار نشر يستطيع أن يكتب وأن ينشر وأن يراسل، وكم من الكتاب أصبحوا مشاهير بفضل الرقمية والانترنت. فبإمكاننا اليوم أن نجعل من هذه الوسيلة آلية بث المعرفة في العالم العربي، عبر استثمارها أولا في التواصل المعرفي والعلمي مع مختلف الثقافات وخاصة على مستوى المجتمع العربي. إن الرقمية بإمكانها أن تكون بديلا تثقيفيا وتعليميا، يعوضنا عن ندرة الكتب ومصادر المعرفة الأخرى، كما أن هذا الأمر يدعونا بإلحاح إلى رقمنة التراث والاستفادة منه والإفادة في نشره في العالم. الرقمية جسر تواصل، ومن ثم لا بد من استثمارها كرافد لنشر ثقافة التسامح والاختلاف في المجتمع العربي، كما أننا بحاجة اليوم الى التخلص من ضيق الفكر ومن ضيق التفكير، كما أن توجيه وعقلنة استثمار الرقمية يبقى أساسيا للوصول للأهداف المرجوة. إن نتيجة الثورة المعرفية بلا منازع ستكون إيجابية من خلال الإسهام في الاشعاع العلمي والخروج من ضروب الجهل والأمية التي تعتبر مدخل العنف والعصبية، كما نلح على أن الأمر يحتاج إلى تضافر الجهود من طرف الدولة والمجتمع المدني لخلق حوار ثقافي ومعرفي، فالعلم والمعرفة هما المدخل الحقيقي للتقدم الذي تسعى إليه كافة الدول العربية.