يُعْتَبَر التعليم، أحد أُسُس ما بات يُعِرَف بمجتمع المعرفة. والتعليم، كان، دائماً، القاعدة المعرفية والثقافية التي كانت مِنْ أوْلَويات بناء مجتمعات مُتَضَامِنَة، قوية، وذات امتداد حضاري بعيدٍ، لا تكتفي فيه هذه “الأُمَّةُ “، أو المجتمع العارِف، بمحيطها الجغرافي، بل إنَّها تعمل على تصدير المعرفة لغيرها، ليس باعتبارها غَزْواً، أو سَعْياً للهيمنة على هذا ” الآخر ” الذي يقبل هذه المعرفة، وإنما لكون هذه المعرفة، هي أحد المشتركات الثقافية الإنسانية، التي تصير، بحكم شموليتها، وإجرائيتها، قابلةً للانتقال، من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر. ما أنجزه العرب، في لحظة الانتقال المعرفي، إبَّان فترة الحُكم العباسي، بشكل خاص، جاء نتيجةَ هذا الميل إلى تعميم المعرفة، وانفتاح الثقافة العربية الإسلامية، على غيرها من المعارف والثقافات، والحرص على نقل العلوم المختلفة إلى العربية، من خلال الترجمة، والنقل. لم تقتصر هذه العملية على نقل علم دون آخر، أو الانكباب على مجال دون آخر. بل إنَّ عملية النقل والترجمة شملت كل حقول المعرفة العلمية، وغير العلمية. حاصِلُ هذا العمل المعرفي الكبير، كان دخول علوم جديدة إلى مجال البحث العلمي عند العرب، وتوسيع مجال الأفكار، التي لم تعد تكتفي بعلوم الدين وحدها. فعلوم الدين، أيضاً، ستتغذَّى من هذه المعارف الجديدة، ومن المفاهيم التي حملتها معها ترجمة الفكر والفلسفة اليونانيين، وعلى رأسها المنطق، الذي عمل الفقهاء على توظيفه، في حل كثير من مشكلات الشَّرع. نفس الأمر حدث في تقعيد اللغة، التي كان فيها للمقولات العشر لأرسطو، دوراً كبيراً في بناء القاعدة، وتثبيتها، أي في بناء الأسس المعيارية للعربية، التي كانت لُغَات، بالمعنى الذي يُعْطيه اللغويون لهذه الكلمة. لم تكن المدرسة، آنذاك، في مَنْأًى عن هذا الحِرَاك المعرفي، بل إنها كانت المكان الذي ستحرص فيه المعرفة على امتدادها وانتقالها، وعلى توسيع مجال البحث فيها، بما أتاحته الدولة، من حوافز، وإمكانات للقراءة والبحث والإبداع. يمكن اعتبار هذه الحالة التاريخية، هي إحدى صور مجتمعات المعرفة، في سياق ما كان مُتَاحاً من معارف، وإمكاناتٍ للتواصل والبحث العلميين. والمدرسة، كانت الفضاء الذي يتأسس عليه هذا المجتمع، وأيضاً المكتبات العامة، والمساجد التي كانت بدورها فضاءات للنقاش المعرفي، وحتى الأيديولوجي، بما كانت تقتضيه طبيعة الخلافات المذهبية، والسياسية، وما كان ينشأ من خلافاتٍ في مجال الأفكار، والمُعتقدات. كانت المدرسة، تعطي الأهميةَ، بالدرجة الأولى، للمعرفة، والاجتهاد، وحين كان الطالب يُجازُ، فهذا معناه أنه أصبح جديراً بحمل صفة العالم، وناقل المعرفة، لكن باجتهاد، وبإضافة أفكار، هي تعبير عن ذات العالِم، وعن خصوصية أفكاره، التي هي خَلْقٌ وابْتِدَاع. العَالِم المُجَازُ، يصبح صاحب رأي، وصاحب أفكار، لا ناقلَ أفكار فقط، رغم أنَّ ما تتأسَّس عليه معرفته، واجتهادَهُ، هو هذه المعارف والأفكار السابقة، التي هي أرضُ معرفة، وليست هي المعرفةُ، بما تعنيه من اكتفاء بتقليد واستعادة أفكار الآخرين. هنا بالذات أعود إلى عبد الله القُصيمي، في كتابه ” العرب ظاهرة صوتية “، في نقده لنموذج “العَالِم “، في وضعنا التعليمي الراهن، وما أصبحت عليه المدارس والجامعات العربية من حَرَجٍ، أو من “زيْفٍ”، في إنتاج مثقفين، أو علماء، أو حاملي شواهد، أو أصحاب خبراتٍ، أي أشخاص “بدون موهبة”. يلتقي القصيمي، في هذا مع سقراط، في ما أشار إليه من أهمية الموهبة، ليس عند المثقف، أو الخبير، أو العالِم، وحده، بل وعند السياسي أيضاً، بما عَنَتْهُ الموهبة من خبرةٍ وذكاء، وقُدرةٍ على توليد الأفكار، وابْتِداعِها. يقول القصيمي؛ “إنه لا عِقَاب ولا تشويهَ ولا إفسادَ لأيِّ إنسانٍ أو مجتمع مثل أن يُعْطَى العاجز عجزاً ذاتياً شهادةً بأنه قد أصبح نبياً أو عبقرياً أو مبدعاً أو خبيراً أو عالماً أو مفكراً أو شيئاً آخر عظيماً .. أليس التعليم العالي لفاقد الموهبة يعني إعطاءه هذه الشهادة، أي يعني تزوير الأنبياء والعباقرة والعلماء والقادة والعظماء والخبراء في كل شيء، أي يعني إعطاء النبوة بلا وحي أو مَجِيء النبي بلا نبوة؟ ” كان القصيمي يؤكد، في كتاباته على قوة النقد، وعلى ضرورته كآلية من آليات مراقبة الذات، والحرص على صيرورتها، أي على تقويم ضعفها، أي باعتبار النقد “رؤيةً وشَجاعةً، وصدقاً ورغبةً في الانتقال إلى الأفضل “، و”نقد النفس” هذا هو ما ينقصنا، و”لم نتعود قط أن نقوله أو نكتبه أو نقرأه أو نسمعه “. فما يقوله القصيمي عن وضع المُتَعَلِّمين، في وضعنا الراهن، وعن التعليم، وعن حاملي الشهادات الجامعية العليا، هو من قبيل نقد ما تعرفه الجامعات العربية من تَدَنٍّ في مستويات التكوين، ونقل المعارف، ما سيُفْضِي، حتماً، إلى إنتاج، كما يقول بسخريةٍ لاذعة، وهي إحدى آليات النقد، طبعاً؛ ” نبوة بلا وحي “. تفريغ الجامعة من المعرفة، من التكوين المعرفي والعلمي، أو تحويلها بالأحرى إلى نوع من معامل إنتاج التقنيين، والمُنَفِّذِين لبرامج، وليس لمبدعي أفكار، وأصحاب مشاريع، هو نقيض الدور الذي من أجله وُجِدَت الجامعة، باعتبارها فضاءً للبحث العلمي، ولاستثمار طاقات الإبداع والخلق عند الإنسان، في جميع مجالات المعرفة. فالجامعات، عندنا، وفي مختلف التخصُّصات، ليست فضاءات للبحث العلمي، وتكوين الأُطُر، فالدولة رفعت يدها عن هذه الجامعات، وما تُخَصِّصُه لها من ميزانياتٍ للبحث والتجهيز، لا يرقى لمستوى طموحات بعض مَنْ ما زالوا يقاومون داخل هذه الجامعات، للحفاظ على طابعها العلمي والمعرفي في البحث وفي التكوين. لم تعد الجامعة، وهي بلا مالٍ، أو بلا دعم، من قبل الدولة، ومن قبل الشركات والمقاولات، وغيرها ممن يمكن لهم أن يتدخّلُوا لتطوير البحث العلمي، والعمل على دعمه، لم تعد تقوم على ثقافة الابتكار والإبداع، وتنمية ” القدرات الذاتية للبشر على التحليل والنقد ومواجهة المشاكل ” وحَلِّ المُعضلات. فجداول الإنفاق على التعليم، في العالم العربي، قياساً بما يُنْفَقُ في المجال العسكري، مثلاً تكفي لفضح طبيعة الأنظمة التي تحكم هذه الدول، والكشف عن طبيعة انشغالاتها الأساسية. الإمارات، تنفق على التعليم 1.3 والإنفاق العسكري 2.0 . عُمان، التعليم 3.6 الإنفاق العسكري 11.9. السعودية، التعليم 6.8 الإنفاق العسكري 8.2. الأردن، التعليم، 4.9 الإنفاق العسكري 5.3. المغرب، التعليم، 6.7 الإنفاق العسكري 4.5، طبعاً، مع ما حدث من تَغَيُّر، بالنسبة للمغرب، في ما عرفه من دعم للبنية العسكرية في الآونة الأخيرة، قد يجعل من النسبة المثبتة في هذا النموذج متجاوزةً. فالتكوين الأمني لهذه المجتمعات، أو الهاجس الأمني، كان أكثر أهميةً من الهاجس المعرفي، وهو ما كشفت عنه، بوضوح الثورات الجارية في العالم العربي، وتسخير الأحزاب والأنظمة الحاكمة للجيش، كأداة لقمع الشعوب وقتلها، خصوصاً في النموذج الليبي والسوري واليمني. لم يعد ممكناً، اليوم، وفق ما يجري في العالم العربي من ثوراتٍ، ودعواتٍ للتغيير، ولإعادة تكييف القوانين، وفق ما تجري عليه الأمور في الديمقراطيات العريقة، وبما تفرضه طبيعة الإنسان العربي، الذي أصبح حريصاً على الشراكة في الحُكم، وفي اتخاذ القرارات، أو مناقشتها، في أقل تقدير، وفي تكريس الديمقراطية، كاختيار نهائي، لا بديل عنه، أن تظل هذه المجتمعات عاريةً من المعرفة، ولا تتغذَّى إلاَّ على الهاجس الأمني، الذي تَبَيّنَ أن كل الميزانيات والأموال المُكَرَّسَة له، لم تكن لحماية الشعوب من عَدُوٍّ خارجي مُحْتَمَل، بقدر ما كانت استعداداً لمواجهة أي حِرَاك، أو ثورةٍ ضد هذه الأنظمة، ما جعل المعرفة، لا تكون ضمن أولويات هذه الأنظمة، أو ضمن ما تفكر فيه لتأهيل مجتمعاتها لعصر التقانة والمعلومات، أو لبناء مجتمعات المعرفة. تدني مستويات المدارس والجامعات، وتدني الأموال والميزانيات المُخَصَّصَة للبحث العلمي، في مقابل ما تقتنيه هذه الأنظمة من أسلحة ووسائل لقمع الشعوب وقتلها، هو أحد أسباب هذا الوضع الكارثي الذي سينعكس على المعلمين والأساتذة وعلى الباحثين، وسيصبح الجميع مُكَبَّلاً بما تفرضه الدول على شعوبها من قهر معرفي، و إفراغ المدارس والجامعات، من المعنى الذي نهضت عليه، أو كان أحد أُسُس وجودها. أصبحت الجامعات بدون ” وَحْيٍ “، أعني بدون رسالةٍ، وأصبح العزوف عن المعرفة، من المظاهر التي نجحت الأنظمة التوتاليتارية، في بلوغها، كون مجتمع، كهذا، وأعني مجتمع المعرفة، هو مجتمع يتنافى مع طبيعة مثل هذه الأنظمة، فكما هو لا يقبلها، ويسعى لتغييرها، فهي تعمل على استبعاده، وعلى إفراغه من سلاحه، الذي هو ليس سوى سلاح النقد والمواجهة، وسلاح الحداثة والتنوير، وتكريس فكر الاختلاف، أو الفكر الحُر، الذي لا مكان له في نُظُمٍ بهذا المعنى. لعل أكبر عدو للشعوب هو الجهل؛ وهو قَتْلٌ للمعرفةِ، أو حشرُها في مكان ناءٍ، ووضعُها في آخر جدول أعمال الحكومات والدول. تفرض اللحظة الراهنة أن نلتفت لهذا التدهور الذي نحن عليه، وأن نعمل على وضع الحصان أمام العربة، وننظر إلى التعليم، باعتباره أولوية الأولويات. فمجتمعات بدون معرفة هي مجتمعات، عمياء لا يفضي بها الجهل، في نهاية المطاف، إلا للِضَّلال والتَّطَرُّف، والسِّحْرُ، حتماً، لا ينقلب إلاَّ على السَّاحِر. (*) أستاذ وشاعر