سانت لوسيا تشيد بالتوافق الدولي المتزايد لفائدة الصحراء المغربية بقيادة جلالة الملك (وزير الشؤون الخارجية)    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    بعد إضراب دام لأسبوع.. المحامون يلتقون وهبي غدا السبت    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    زياش: عندما لا يتعلق الأمر بالأطفال يفرون    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    نهاية أزمة طلبة الطب والصيدلة: اتفاق شامل يلبي مطالب الطلبة ويعيدهم إلى الدراسة    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر    وسيط المملكة يعلن عن نجاح تسوية طلبة الطب ويدعو لمواصلة الحوار الهادئ    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المقاربة الثقافية أساس التنمية البشرية المستدامة
نشر في بيان اليوم يوم 01 - 08 - 2014


العلاقة بين الثقافة والتنمية:
هناك ثلاثة تصورات حول علاقة الثقافة بالتنمية. فهناك من يرى بأن الثقافة تعرقل مسيرة تنمية الدول، وتحول دون تقدمها بشكل إيجابي. ومن ثم، تصبح الثقافة عائقا أمام تقدم بعض الشعوب، خاصة إذا كانت العادات والتقاليد والأعراف هي السائدة، وكانت تلك التقاليد تقليدية تؤثر سلبا على التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وهناك رأي مناقض يرى بأن الثقافة هي من العوامل الأساسية التي تساهم في تحقيق التنمية المستدامة، وتطوير الاقتصاد بكل قطاعاته، والرفع من الإنتاج الوطني أو القومي. ولابد من مراعاة هذا البعد في مجال التخطيط والتدبير والتقويم. ويعني هذا أن الأولوية تعطى للبعد الثقافي على حساب الأبعاد والمكونات التنموية الأخرى.
بيد أن هناك رأيا تركيبيا ثالثا يؤمن بجدلية الثقافة والتنمية.أي: لا يمكن فصل الثقافة عن التنمية، فكل واحد يكمل الآخر بطريقة بنيوية وعضوية وجدلية.
هذا، وإذا كانت دول الجنوب قد ركزت، في سنوات الستين من القرن الماضي، على التنمية الاقتصادية لتحسين الأوضاع المجتمعية، فإن هذه الدول، في سنوات السبعين، قد اهتمت بالتغير الاجتماعي. في حين، اعتنت هذه الدول، في سنوات الثمانين، بالمقاربة الثقافية في تنفيذ التنمية البشرية المستدامة، بفضل توجهات اليونسكو التي اعتبرت سنوات الثمانينات والتسعينيات فرصة ذهبية للتنمية الثقافية، بناء على التنوع الثقافي واللساني والتراثي، وأعطت أهمية كبرى للثقافة اللامادية في تطوير الشعوب وتنميتها. بيد أن الثقافة قد خضعت لشروط العولمة ومستلزماتها ابتداء من سنوات التسعين من القرن الماضي إلى سنوات الألفية الثالثة.
هذا، وتتجلى أهمية الثقافة في ارتباطها بالتعليم والإعلام والدين والأدب والفن، وتساهم هذه الآليات كلها في توعية المجتمع ذهنيا ووجدانيا وحركيا، وتطويره سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتحسين سلوك الأفراد تجاه ذواتهم وأسرهم ومجتمعهم ووطنهم وأمتهم وعالمهم الإنساني، وتغيير تصرفاتهم وممارساتهم وتطبيقاتهم العملية التي قد تؤثر سلبا على التنمية، مثل: تلويث البيئة، وتخريب الآثار، والتبذير الاستهلاكي المتعلق بالمأكل والمشرب والطاقة، والإنفاق المالي المبالغ فيه... وفي الوقت نفسه، قد تدفع الثقافة الأفراد إلى طلب العلم للحد من الأمية، والقضاء على كل تجلياتها، سواء أكانت أمية أبجدية، أم أمية إعلامية، أم أمية لغوية، أم أمية وظيفية، أم غيرها من الأميات السائدة في عالمنا اليوم. كما أن الثقافة سبيل للقضاء على الفقر والجوع والبطالة والجهل والخرافة والشعوذة والهدر المدرسي. وهي كذلك وسيلة للرفع من المستوى الاجتماعي والاقتصادي للأسرة، وتحسين الدخل الفردي، والحصول على فرص الشغل المناسبة، وبناء الأسرة بناء مستقرا سعيدا.
هذا، وتتضمن الثقافة – اليوم- مجموعة من الخصائص والسمات المميزة لمجتمع أو لمجموعة إثنية ما، سواء أكان ذلك على المستوى المادي أم على المستوى الروحاني أم على المستوى المعنوي. ويعني هذا أن الثقافة هي التي تميز مجتمعا عن مجتمع آخر. والآتي، أنها تشمل الفنون والآداب وحقوق الإنسان وأنظمة القيم والتقاليد والمعتقدات...
ولاغرو أن نجد المؤسسات الرسمية الدولية أو الوطنية أو الجهوية أو المحلية تنطلق من المقاربة الثقافية في التخطيط للتنمية الشاملة المستدامة على جميع الأصعدة والمستويات؛ نظرا للعلاقة الجدلية الموجودة بين الثقافة والتنمية. بيد أن هناك كثيرا من دول العالم الثالث، بما فيها الدول العربية، ترى بأن المكون الثقافي هو عبء ثقيل على التنمية من النواحي المادية والمالية والسياسية والأمنية، ولا تراهن عليه، بشكل كبير، في تحقيق تقدمها الاقتصادي. لذا، تهمش هذا المكون تهميشا ملحوظا، ولا تبالي به إطلاقا. في المقابل، نجد دولا متقدمة ونامية تعطي الأولوية للثقافة في مجال التنمية الشاملة، بل نتحدث – اليوم- عن سياحة ثقافية، وسياسة ثقافية، واقتصاد ثقافي، ومجتمع ثقافي، وكائن بشري ثقافي.
آليات المقاربة الثقافية لتحقيق التنمية البشرية المستدامة:
لا يمكن تحقيق التنمية الثقافية الحقيقية في المجتمع إلا بوجود مجموعة من الآليات المؤسساتية والبنيات المادية والمعنوية التي يمكن حصرها فيما يلي:
المجتمع المدني:
يعتبر المجتمع المدني من الركائز الأساسية لتحقيق التقدم والازدهار، وتفعيل التنمية البشرية الحقيقية. ويسمى هذا المجتمع بهذا الاسم؛ لأنه يتخذ طابعا اجتماعيا مدنيا وسلميا، كما أنه مستقل عن الدولة والحكومة، وعن كل المؤسسات الرسمية والعسكرية، على الرغم من كونه يتكامل مع المؤسسات الحاكمة تنسيقا واستشارة واقتراحا.
هذا، ويجسد المجتمع المدني مظهرا من مظاهر الديمقراطية الحديثة التي ترتكز على الحرية، والكرامة، والعدالة، والمساواة، والأخوة، والإيمان بحقوق الإنسان .وبالتالي، لا يمكن للمجتمع المدني أن يشتغل إلا في مجتمع ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان، ويعمل على تثبيتها وتكريسها في جميع المجالات والأصعدة والمستويات. كما أن المجتمع المدني «من حيث المبدأ، نسيج متشابك من العلاقات التي تقوم بين أفراده من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى. وهي علاقات تقوم على تبادل المصالح والمنافع والتعاقد والتراضي والتفاهم والاختلاف والحقوق والواجبات والمسؤوليات. ثم، إن هذا النسيج من العلاقات يستدعي، لكي يكون ذا جدوى، أن يتجسد في مؤسسات طوعية اجتماعية واقتصادية وثقافية وحقوقية متعددة».
ويعرف المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي المجتمع المدني بأنه» مجموعة من البنى الفوقية مثل: النقابات والأحزاب والمدارس والجمعيات والصحافة والآداب والكنيسة» . ويقابل المجتمع المدني، لدى گرامشي، ما يسمى بالمجتمع الرسمي أو ما يسمى بسلطة الدولة، ويعرفه المفكر الألماني هابرماس بقوله: «المجتمع المدني نسيج من الجمعيات والهيئات الاجتماعية التي تناقش الحلول الممكنة لبعض المشاكل المرتبطة بالمصلحة العامة.»
أما الدكتور سعد الدين إبراهيم، فيعرفه بأنه «مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام، والتآخي والتسامح والإدارة السليمة للتنوع والخلاف.»
ومن هنا، فالمجتمع المدني عبارة عن هيئات مدنية حرة ومستقلة، تقوم بأعمال تطوعية اختيارية لصالح الإنسان، بتنسيق مع الدولة، أو في استقلال عنها، من أجل تحقيق التنمية الشاملة.
وما يهمنا في هذا المجتمع المدني هو ما يقوم به الأفراد، سيما المثقفين منهم، من أدوار ثقافية جبارة وهائلة ومهمة وقيمة، في مختلف الميادين والمجالات والفنون والمعارف والآداب، لتوعية المواطنين ذهنيا ووجدانيا وحركيا، ونشر الثقافة بينهم للقضاء على الأمية والتخلف والجهل والفقر والجوع والبطالة. بمعنى أن الثقافة تؤهل الناس لكي يزاولوا أعمالا إيجابية منتجة وهادفة وبناءة ، تكون في خدمة الوطن والأمة والإنسانية جمعاء.
الجمعيات الثقافية:
لا أحد ينكر أهمية الجمعيات المدنية بمختلف أنواعها (جمعيات ثقافية، وجمعيات رياضية، وجمعيات اجتماعية، وجمعيات سياسية، وجمعيات بيئية، وجمعيات سياحية، وجمعيات نسوية، وجمعيات تربوية وتعليمية...)؛ لما لها من دور ثقافي هام في خدمة التنمية البشرية المستدامة، فهي التي تقوم بتأطير الأفراد تأطيرا مهاريا أو سلوكيا أو عمليا، وتوعيتهم توعية دينية وأخلاقية وسياسية ووطنية وقومية، وتغيير سلوكهم تغييرا إيجابيا، وتكوينهم تكوينا تخصصيا نوعيا، أو تكوينا شاملا وموسوعيا. بل تقوم هذه الجمعيات بدور تثقيفي وتنموي وتوعوي لافت للنظر في إطار مبادرات فردية أو جماعية. كما تساهم هذه الجمعيات في تحقيق الأمن والاستقرار والطمأنينة في البلاد؛ لما تقوم به من مهام علاجية نفسية واجتماعية وإرشادية، بغية توجيه الأطفال والشباب والبالغين نحو المواطنة الصالحة. وقد تكون هذه الجمعيات الثقافية مدعمة أو غير مدعمة، لكن هدفها الوحيد هو توعية المواطن، وتكوينه تكوينا مهاريا مفيدا، وتأطيره سياسيا واجتماعيا وثقافيا وعقديا، وتوجيهه وجهة حسنة.
البنيات التحتية:
لا يمكن الحديث عن نهضة ثقافية في بلد ما إلا بتوفير بنيات ثقافية مناسبة ومتعددة ومتنوعة، كأن نشيد مركبات ثقافية ورياضية وفنية وعلمية . علاوة على إيجاد معاهد ومختبرات ومحترفات وورشات ومتاحف ومكتبات وخزانات، فضلا عن بناء قاعات المسرح والسينما ، وتشجيع الناس على الإقبال عليها بأعداد كثيرة؛ لأن الثقافة أداة للتوعية والتنوير والتثقيف، ووسيلة لمحاربة الأمية والجهل والتخلف. وتعد الثقافة كذلك، بفنونها وآدابها وعلومها ، مسلكا حقيقيا للإفادة والإقناع والإمتاع والتسلية والتثقيف. ولايمكن للتنمية الثقافية أن تحقق نتائجها المثمرة إلا بتشييد المركبات الثقافية الواسعة والرحبة، وإنشاء المعاهد التابعة لها للتعليم والتكوين والتأطير. علاوة على ذلك، لابد من توفير المسارح والمتاحف وقاعات السينما ، وقاعات للتدريب والتكوين والتأطير. وينبغي أن تخضع تلك المركبات الثقافية، في هندستها المعمارية، للخصوصية الحضارية هوية وتأصيلا وتأسيسا. بمعنى أن تتلاءم تلك المركبات مع طبيعة المجتمع وحضارته وثقافته وهويته وخصوصياته المحلية والروحية والمعنوية، مع الانفتاح على الحداثة أو ما بعد الحداثة، بشرط الاحتفاظ على الموروث اللامادي الأصيل والفرجات الدرامية والإثنوسينولوجية الخاصة بذلك المجتمع.
الدعم المادي والمعنوي:
لايمكن للفعل الثقافي أن يعطي ثماره المرجوة إلا بالدعم الحقيقي، وتوفير الإمكانات المادية والمالية. بمعنى أن الثقافة لا يمكن أن تبنى أو يخطط لها آنيا أو مرحليا أو مستقبليا ، بغية تحقيق التنمية البشرية المستدامة ، في غياب التجهيزات المادية والتقنية والرقمية، أو في ظل غياب الإمكانات المالية. لأن الفعل الثقافي لايمكن أن يتحقق بدون تمويل حقيقي فعال. فلابد من تقديم منح وجوائز وهبات وشهادات تشجيعية أو تقديرية للجمعيات، و الفرق، والنوادي، والأفراد، والمثقفين، و المبدعين، و الفنانين، تشجيعا لهم على العطاء والبذل والإبداع، والاستمرار في عملهم الراقي والسامي.
ولابد للدولة أو المؤسسات الخاصة أن تدعم، بكل إمكاناتها المتوفرة ، ما يقوم على البحث والابتكار والاستكشاف؛ لأن الإبداع هو أساس النهضة الثقافية الحقيقية، ونواة التميز والتفرد عربيا وعالميا. وبتعبير آخر، ينبغي على الدولة أن تشجع، بكل ما أوتيت من إمكانات وطاقات، مختلف الأنشطة الثقافية ماديا وماليا ومعنويا، من أجل أن ينتج هذا الفعل الثقافي ، بواسطة الطاقات الإبداعية المتميزة والعبقرية والذكية، نظريات وممارسات متفردة أو جماعية، أو يقدم لنا إنتاجات إبداعية نموذجية وحداثية، لها قصب السبق محليا أو جهويا أو وطنيا أو قوميا أو عالميا.
المقاربة التشاركية:
لا يمكن تحقيق التنمية الثقافية إلا بالأخذ بسياسة المقاربة التشاركية. بمعنى أنه من الضروري الانفتاح على الشركاء والفاعلين الداخليين أو الخارجيين، بغية تحصيل الدعم المادي والمالي والمعنوي. ولابد أن تخضع هذه الشراكات لمعطيات تشريعية وقانونية ، وألا تتعارض مع أهداف الثقافة من جهة، وأهداف التنمية البشرية المستدامة من جهة أخرى. ومن هنا، نجد دول الجنوب، سيما الدول العربية منها، تبرم شراكات ثقافية مع دول الشمال على أساس التواصل والتعارف و التبادل الثقافي، أو على أساس التحاور والتعايش والتقارب والتسامح.
ومن باب العلم، فالشراكة داخلية وخارجية، فيمكن للدولة أو المؤسسات ومرافق الدولة أن تدخل في شراكات داخلية مع الجمعيات أو المجتمع المدني لتحقيق التنمية الثقافية الشاملة. كما يمكن للمجتمع المدني أن يدخل في شراكات خارجية ، بعد استشارة الدولة، إن أمكن ذلك، لتحقيق التنمية المجتمعية الشاملة والمستمرة، وتمكينها في المجتمع على جميع الأصعدة والمستويات، وفي مختلف الميادين والمجالات وفنون المعرفة .
تمثل المقاربة الإبداعية:
تنبني التنمية الثقافية، في الحقيقة، على الإبداع والابتكار والإنتاج، في جميع المجالات والحقول العلمية والمعرفية والأدبية والفنية. وتستلزم المقاربة الإبداعية أن يكون الإنسان المواطن مبدعا، والمجتمع مبدعا ، و تساهم المؤسسات الاجتماعية الصغرى منها أو الكبيرة في تحقيق هذه الفلسفة الإبداعية ؛ باعتبارها واجبا أخلاقيا وإنسانيا ومجتمعيا وقوميا، يلتزم بها الإنسان في حياته اليومية من أجل تحقيق التقدم والتنمية والازدهار . كما تستوجب الفلسفة الإبداعية الاعتماد على النفس أو الذات لبناء التنمية الشاملة أو المستدامة. لأن من «المقومات الأساسية لبناء إستراتيجية جديدة للتنمية مسألة الاعتماد على النفس.وهذا المفهوم تجده شبه مفقود نسبيا في المعنى والتطبيق، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في بيان أصول هذا المفهوم على أساس من التأني والشمولية لكي يضم في حيثياته جوانب الحياة، سواء أكان ذلك على المستوى الفردي أم الإقليمي أم القومي.»
ويعني هذا أن التنمية الحقيقية أو التنمية الشاملة القائمة على العلم والتكنولوجيا، لا يمكن تحقيقها عن طريق نقل التكنولوجيا أو استيرادها جاهزة من الدول المتقدمة، فلابد من الاعتماد على النفس، وتمثل فلسفة الإبداع والتجديد والابتكار . ولا يتأتى ذلك إلا بالمقاربة الثقافية التي تعمل على توعية المجتمع في شتى نواحي الحياة، وتسعى إلى ترقية مستوى الفكر لدى الشعب ، وتربية الذوق الفني ، وترقية الإحساس الجمالي في التعامل مع الأشياء والمنتوجات الثقافية والفنية والأدبية والتقنية. بمعنى أن الثقافة هي التي تؤدي ، بالمواطن الصالح المنتج، إلى الاهتمام بالعلم والتكنولوجيا . وفي هذا الصدد، يقول الباحث المغربي المهدي المنجرة:»إن مشكلة التقدم التكنولوجي للجهات التي مازالت تشكو من نقص في التنمية لا يمكن حلها جذريا باستيراد التقنيات الأجنبية أو إدخال العلوم التطبيقية الجاهزة- على عجل- بشكل من الأشكال.فلا يمكن للتقدم أن يتحقق بصورة جذرية إلا بالإبداع والدعم، حسب سياق ينمو داخليا في قلب الحقيقة الإنسانية للمجتمعات المعنية من الوجهتين الثقافية والاجتماعية للعلم.
إن الأمر الأساس الذي يجب التركيز عليه هو أن العلم والتقنية الجديدة كلاهما من المكونات العضوية في الثقافة. وهما لا يصبحان مرتبطين اجتماعيا ومنتجين اقتصاديا إلا إذا تم دمجهما في البيئة الثقافية التي يعملان فيها، وبذلك يصيران ظاهرة ديناميكية تستحث التجديد والإبداع.
ونفهم من هذا أن أكبر كذبة هي ما يسمى بنقل العلوم والتكنولوجيا ، ليس هناك شيء يمكن تسميته بنقل التكنولوجيا، فمجرد استيراد المنتج التكنولوجي، فضلا عن استيراد الفنيين للسهر على تشغيله وصيانته، ليس بحال استيرادا للتكنولوجيا.فما يتم نقله تحت غشاء هذا المصطلح نقل التكنولوجيا هو مجرد مواد عفا عليها الزمن وبأثمنة لا مبرر لها، أما التمكن من التكنولوجيا فهو نتيجة عمل وبحث وإبداع ذاتي، وذلك مسار يستحيل بيعه أو شراؤه، ولا سبيل إلى الوصول إليه إلا باكتساب المعرفة وتنشيط الابتكار.
إن العلم أو التقنية لا يمكن نقلهما، لأنهما نتاج نسق ثقافي؛ فالقيم الثقافية هي التي تحدد الفكر العلمي والإبداع والابتكار.فالعلم والتكنولوجيا ليسا المحركين الأولين للتغيير الاجتماعي، بل القيم الثقافية هي المحرك الأساس، وهي التي تجعل التغيير ميسورا من خلال تمكين الأفراد من استيعاب العلم والتكنولوجيا. وهذا ما أسميه بانصهار العلم والثقافة.»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.