فيم فيندرز، مخرج ألماني بسمعة عالمية، يعرفه الجمهور الواسع من خلال شريطه «باري - تكساس» . حاصل على الدكتوراه الفخرية في الفنون والآداب من جامعة السوربون، هو أيضا رئيس لأكاديمية السينما الأوروبية، أستاذ بمدرسة الفنون الجميلة في هامبورغ. منذ أكثر من خمسة عقود وهو يشتغل بالإخراج السينمائي (أشرطة قصيرة، أشرطة وثائقية، أشرطة سينمائية)، يقول النقاد عنه إنه غير قابل للتصنيف في خارطة السينما العالمية لكونه لا ينتمي إلى جنس سينمائي محدد، ماعدا الجنس البشري.يعيش بين منزلين: واحد في برلين والآخر في لوس انجلوس. مثل السينما، تعتبر الموسيقى بالنسبة له أداة بلاغية استثنائية، يظهر هذا في شريطه «بْوِينَافِستَا سُوسيال كلوب» من إنتاج 1999، ومادام الأمر يتعلق بالموسيقى فقد أخرج، بطلب من المخرج مارتين اسكورسيزي، ضمن سلسلة من الأفلام السينمائية حول موسيقى «لبلوز» - شارك في السلسلة: سكورسيزي، كلينت ايستوود، مايك فيجيس. وقد أعطى فيم فيندرز لفيلمه عنوان (the soul of a man). مجلة «الاكسبريس» أجرت معه الحوار التالي عن السينما وعن شريطه المشار إليه. n هل يعتبر التناوب في مساركم السينمائي بين الأفلام الوثائقية والأفلام التخييلية طريقة للانفلات من هؤلاء الذين يريدون تصنيفكم في خانة معينة؟ pp المصيدة الكبرى التي يقع فيها مخرج سينمائي هي أن يظل على الطريق التي صنعت نجاحه. كان بإمكاني أن أقوم بإخراج أفلام عديدة على شاكلة فيلم «باري - تكساس». اقترح علي المنتجون المال الذي أريده للاستمرار في تلك الطريق. لذلك كانت أفضل وسيلة للانفلات من هذه المجازفة في التكرار هي إخراج أفلام وثائقية. بالإضافة إلى ذلك، فإن فيلما تخييليا سينمائيا يأخذ مزيدا من الوقت ليرى النور أربع أو ثلاث سنوات على أقل تقدير. وهذا أيضا للتذكير أن السينما ليست دائما هي عشرين شاحنة وعشرات التقنيين الذين يشتغلون معكم، بل هي قبل كل شيء كاميرا ووجهة نظركم. n هل تعتبرون وجهة نظركم هذه، التي تتشبثون بها كثيرا، بمثابة حجر الزاوية في أعمالكم؟ pp ليس بريئا إذا ما قال نيكولاس راي في شريط (الصديق الأمريكي): «العين لاتعوض». كانت أفلامه بالنسبة لي منارة، كما كانت كذلك من قبل بالنسبة للمخرجين فرانسوا تروفو، جان لوك غودار، في تلك الفترة لم نكن نخجل أن نقول حقائق لشخوص أفلامنا. واليوم فإن تلك الحقائق لا تعدو أن تكون أحكاما متصنعة، ما عدا إذا جعلناها تنطلق من فم شخص بسيط التفكير، مثلا شخصية البواب في أحد شرائطي. n ليس المشهد الاقتصادي هو وحده الذي تغير، الجمهور كذلك يتطور. هل تعتقدون أن الجمهور قد يكون متفتحا على ملمح أفلامكم كما في السابق؟ pp في مهرجان «كان» الذي كنت قد ترأست لجنة تحكيمه، ذهلت لمشاهدة 21 شريطا مطولا. كان ثلاثة أرباع من بينها بإيقاع بطيء جدا. وهو نقيض الخطاب الحالي الذي يقول إن الأمور ينبغي أن تتحرك، وأن الجمهور يريد الترفيه قبل كل شيء. مع ذلك لست متأكدا أنني متحمس بخصوص هذه العودة إلى التباطؤ الذي - اعترف بذلك - كنت سيده في بداياتي، لكن يجب اعتبار هذا الاتجاه كرد فعل لما نراه، مادام أن «ما تريكس « كان هو رأس الرمح لتلك العروض التي تتنكر لكل مصداقية لصالح المؤثرات الخاصة المستعملة في الأفلام. إذ في اللحظة التي أحس فيها بوصفة أو صيغة، أفقد تركيزي ،جسديا وذهنيا،على شريط. بل إنني أصاب بالعصبية بسبب السينما التي تتغذى من طاقة لا تأتي من أي مكان، ماعدا أنها آتية من السينما الموجودة من قبل. n عندما يكون لديكم - كما في الفيلم الآنف الذكر - ، أشخاص مثل ميل غيبسون، ميلا يوفوفيتش وميزانية مهمة جدا، هل تترك لكم الحرية أن تكون لكم «وجهة نظركم» فعلا؟ pp نعم، لقد جربت مرتين أن أكون موظفا قبل أن أصبح مخرجا: مخرجا لشريط «رسالة إيكارلات» (1972) و»هاميت» (1982). عندما وجدت الفيلمين أقصد نسختين عن طريق (D.V.D)، كان مزعجا أن ألاحظ إلى أي حد أن الأفلام الطويلة كانت بلا روح.إذا لم يأت المشروع من طرفي، بل برغبة من طرف آخر، فإنني سيء بالمرة. لذلك فإنني منذ ذلك الوقت أكون أنا هو المنتج، أو على الأقل مشارك في الإنتاج. وهذا لكي لا أكون مجبرا على اتباع تعليمات أو توجيهات شخص ما. لقد مضى زمن كابرا، هيتشكوك، اللذين كانا يوقعان على طلبيات لمقررين مشاركين في مسار الفيلم، في السيناريو، وفي عرضه في القاعات. إن السينما اليوم تتم مع لجان لمساهمين ماليين، فكل فيلم ضخم يعتبر قرارا صناعيا. n في شريطكم المطول حول موسيقى، تشيرون إلى ظلم أمريكي آخر: أنه تم نهب عباقرة مقابل 40 دولارا. pp إنها حكاية معاصرة حصلت في موسيقى «لبلوز»، ولكن أيضا في السينما، عندما نتحدث في الجزء الثالث من الفيلم عن ج.ب. لونوار، الذي كتب أغاني في الستينيات عن حرب فيتنام، عن الكفاح من أجل الحقوق المدنية للسود، فإن الفيلم يرث - دون أن يقصد ذلك - تلك الروح الاحتجاجية من واقع الحال، إنني أجد من الملائم أن يتعرف الأمريكيون - الذين كانوا يجهلون تلك المقاطع - ويكتشفون ذلك اليوم. لاسيما عندما تردد المغنية كاساندرا ويلسون أغنية عن الفيتنام، حيث تتوجه للرئيس العزيز قائلة: «قبل أن تقوم بالحرب في العالم بأسره أو أن تتحدث عن السلام «عليكم أن تكنسوا أمام باب بيتكم». نعم، بالطبع، المخرج مارتين اسكورسيزي كان وراء المبادرة المتعلقة بمشروع الفيلم. كانت فكرته أن يجمع عددا من المخرجين - 7 مخرجين لسبعة أفلام - (اسكورسيزي، فيندرز، كلينت استوود، شارل بورنيت، مايك فيغيس، مارك ليفين، ريشاربيرس)، إن هؤلاء المخرجين ليسوا من الوثائقيين بالضرورة بل من عشاق موسيقى «لبلوز» بالضرورة، وذلك لخلق صورة - في سبعة أفلام - كاملة ومركبة لتاريخ تلك الموسيقى. لذلك اقترحت عليه مباشرة هذا الموضوع عن هؤلاء الأبطال المنسيين أو غير المعروفين. لم يكن موضوعي يتداخل مع أي فيلم من الأفلام الستة الأخرى. n على الرغم من أنكم مخرج مستقل، فإنكم تتوصلون إلى إنجاز ملصقات خاضعة لنظام النجوم والنجومية. هل هو اختيار شخصي أو تجاري؟ pp يروي الموزعون دائما أن النجوم يساعدون على بيع الفيلم. لكن الواقع يبرهن على أن ذلك موجود في مخيالهم. فشريط (فندق المليون دولار) لعب فيه ميل جيبسون، ومع ذلك لم يجلب أي مدخول. بل كان من الممكن أن يكون هذا الشريط بدونه، المهم أن تكون للمخرج مصداقية وأن يتماشى الممثلون مع الشخصيات التي يتقمصونها. أنا مقتنع أن هذا ما يهم الجمهور. فكما أنني لم أر ممثلا آخر مناسبا لشريطي (الصديق الأمريكي) مثل الممثل دينيس هوبير، لم أكن أتصور شريط (فندق المليون دولار) بدون ميل غيبسون. يجب استعمال النجوم لأجل ما يمكن أن يكونوا عليه : ممثلين كبار. n هل أصبحتم أنتم أيضا نجما؟ pp ربما لكوني بقيت وفيا للشيء الذي من أجله أمارس السينما. دائما أحيل نفسي إلى تلك الحكمة التي قالها غودار: «السينما طريقة للحياة». أنا لم أفصل قط بين حياتي وأفلامي. كانت ثمة دائما حالة استعجال وجودية لإنجاز الفيلم المقبل.