صحيفة إيطالية: المغرب فرض نفسه كفاعل رئيسي في إفريقيا بفضل "موثوقيته" و"تأثيره"    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    بوريطة: المغرب شريك استراتيجي لأوروبا .. والموقف ثابت من قضية فلسطين    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    الحسيمة : ملتقي المقاولة يناقش الانتقال الرقمي والسياحة المستدامة (الفيديو)    تعيين مدير جديد للمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بتطوان    المنتخب المغربي يفوز على نظيره المصري في التصفيات المؤهلة لكأس أمام أفريقيا للشباب    إقصائيات كأس أمم إفريقيا 2025 (الجولة 5).. الغابون تحسم التأهل قبل مواجهة المغرب    اشتباكات بين الجمهور الفرنسي والاسرائيلي في مدرجات ملعب فرنسا الدولي أثناء مباراة المنتخبين    السفيرة بنيعيش: المغرب عبأ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني على خلفية الفيضانات    مقاييس التساقطات المطرية خلال 24 ساعة.. وتوقع هبات رياح قوية مع تطاير للغبار    بحضور التازي وشلبي ومورو.. إطلاق مشاريع تنموية واعدة بإقليم وزان    عنصر غذائي هام لتحسين مقاومة الأنسولين .. تعرف عليه!    وزيرة الاقتصاد والمالية تقول إن الحكومة واجهت عدة أزمات بعمل استباقي خفف من وطأة غلاء الأسعار    لمدة 10 سنوات... المغرب يسعى لتوريد 7.5 ملايين طن من الكبريت من قطر    الأرصاد الجوية تحذر من هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة اليوم وغدا بعدد من الأقاليم    الدرك الملكي بتارجيست يضبط سيارة محملة ب130 كيلوغرامًا من مخدر الشيرا    المنتخب المغربي الأولمبي يواجه كوت ديفوار وديا في أبيدجان استعدادا للاستحقاقات المقبلة    أزمة انقطاع الأدوية تثير تساؤلات حول السياسات الصحية بالمغرب    هل يستغني "الفيفا" عن تقنية "الفار" قريباً؟    مصرع شخص وإصابة اثنين في حادث انقلاب سيارة بأزيلال    بتهمة اختلاس أموال البرلمان الأوروبي.. مارين لوبان تواجه عقوبة السجن في فرنسا    بعد ورود اسمه ضمن لائحة المتغيبين عن جلسة للبرلمان .. مضيان يوضح    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    ‬المنافسة ‬وضيق ‬التنفس ‬الديموقراطي    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين تسلم "بطاقة الملاعب" للصحافيين المهنيين    ألغاز وظواهر في معرض هاروان ريد ببروكسيل    الحكومة تعلن استيراد 20 ألف طن من اللحوم الحمراء المجمدة    صيدليات المغرب تكشف عن السكري    ملتقى الزجل والفنون التراثية يحتفي بالتراث المغربي بطنجة    الروائي والمسرحي عبد الإله السماع في إصدار جديد    خلال 24 ساعة .. هذه كمية التساقطات المسجلة بجهة طنجة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    نشرة إنذارية.. هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة اليوم الخميس وغدا الجمعة بعدد من أقاليم المملكة        معدل الإصابة بمرض السكري تضاعف خلال السنوات الثلاثين الماضية (دراسة)    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    مركز إفريقي يوصي باعتماد "بي سي آر" مغربي الصنع للكشف عن جدري القردة    الاحتيال وسوء استخدام السلطة يقودان رئيس اتحاد الكرة في جنوب إفريقا للاعتقال    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    الدولة الفلسطينية وشلَل المنظومة الدولية    أسعار النفط تنخفض بضغط من توقعات ارتفاع الإنتاج وضعف الطلب    عواصف جديدة في إسبانيا تتسبب في إغلاق المدارس وتعليق رحلات القطارات بعد فيضانات مدمرة    "هيومن رايتس ووتش": التهجير القسري الممنهج بغزة يرقي لتطهير عرقي    إسرائيل تقصف مناطق يسيطر عليها حزب الله في بيروت وجنوب لبنان لليوم الثالث    الجيش الملكي يمدد عقد اللاعب أمين زحزوح    هذه أسعار أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    ترامب يعين ماركو روبيو في منصب وزير الخارجية الأمريكي    غينيا الاستوائية والكوت ديفوار يتأهلان إلى نهائيات "كان المغرب 2025"    غارة جديدة تطال الضاحية الجنوبية لبيروت    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجوم السينما : جان لوك غودار.. حارس الإشارات والكلمات أو صياد السينما الخالصة

كلما أثير اسم جان لوك غودار، هذا المخرج السينمائي الإشكالي، كلما خرجت «الإشكالات المينيمالية» التي تلتصق بالصورة السينمائية من من صناديقها الصغيرة كي تحتل عالما أكبر تستحقه بجدارة، خصوصًا في عصر الانفجار المعرفي وسلطة السوشيال ميديا والتكنولوجيات الحديثة، أو ما يسميه ميشيل سير ب «عصر الإصبع الصغير». هل خطط غودار حياة أخرى لأسئلته؟ بالتأكيد، وعلى أكثر من مستوى؛ المستوى الأول هو تأثير الإعلام والأيديولوجيا على المتلقي، المستوى الثاني هو عالم الثنائيات»الحياة/الموت، الغنى/الفقر، الحلم/الحقيقة والتباس المعنى، والمستوى الثالث هو صناعة الصورة والتفاعل بين الأنا والآخر. إننا، إذن، أمام ثلاثة مستويات فلسفية جمالية، على الأقل، تطرح إحداثياتها الخاصة فيما يتعلق بفلسطين ومعناها الواسع.
يقول غودار: «ما أحاول أن أريكم إياه هو كيف أرى أنا الأشياء، وبذلك أنتم تستطيعون الحكم... أنا أريد أن أريكم العلاقات بين الصور.. إن الشيء الذي أريد أن أريكم إياه هي زاوية الرؤية، على سبيل المثال تركيب الصور والتلاشي والحركة البطيئة، واستخدام الحركة البطيئة أيضا خلال تركيب الصور أو في اللقطة العادية...». فغودار يمارس نوعا من التفكير العميق في السينما، وهو يعتبر، كما صرح بذلك الفيلسوف الفرنسي المعروف جيل دلوز، أن «السينما ممارسة جديدة للصور وللعلامات، ويجب على الفلسفة أن تؤسس النظرية الخاصة بها، باعتبارها ممارسة مفهومية، لأنه لايكفي وجود التحديدات التقنية ولا التطبيقية ولا التأملية لتشكيل مفاهيم السينما ذاتها». إنه يفلسف السينما ويعتبرها شرط وجود، ألم يقل غودار : «إني أفكر، إذن فالسينما موجودة».
لقد جعل غودار، إلى جانب مجموعة من المفكرين والفلاسفة والسينمائيين، من السينما موضوعا للتفكير الفلسفي، وهو ما منح السينما أبعادا أخرى؛ فغودار يتحدث مثلا عن الأشكال الجديدة في السينما، وحينما يقول أشكالا جديدة يريد علاقات بين المضمون والشكل جديدة: «لم أحقق في السينما إلا اكتشافا واحدا وهو كيف أقوم بإجراء الانتقال من لقطة لأخرى بانسياب سهل يصدر عن حركتين مختلفتين أو حتى عن لقطة متحركة إلى لقطة ثابتة وهو أمر أصعب. وهكذا يمكن الاستمرار بوصل أي لقطة بأي لقطة أخرى. عملت في تركيب الفيلم انطلاقا مما هو في الصورة أي من الدال وليس المقصود بالدلالة. عثرت على هذا الاكتشاف مع فيلم «اللاهث- على آخر نفس» ومن حينها انتهجت تطبيق ذلك». إنه لا يكتفي بالتقاط الصور، بل يمنحها معنى مفكرا فيه بعناية، وكأنه يريد أن يقول لنا: إن الفيلسوف يتلقى السينما على وجه غير مغاير، لا يشبه الناقد، ولا المحلل، ولا السينفيل. إن الفيلسوف، كما يقول الأستاذ بوشعيب المسعودي في مقال له بعنوان: «السينما والفلسفة»، وهو يشاهد فيلما لا يراه كإنسان عادي، فليس لديه نفس المرجع وليس له نفس الاهتمام ونفس المعنى. ومع ذلك، فإنه في نفس الوقت يحتفظ بداخله بالإنسان العادي الذي يضحك ببلاهة على منظر مسل، كما يقول دولوز.
السينما والفلسفة
لقد طرح هؤلاء الفلاسفة، أمثال دولوز وباطاي وبازان، سؤالا عميقا حاولوا الإجابة عنه في كتاباتهم وتنظيراتهم: هل يمكن للفلسفة والسينما أن يمشيان معا جنبا إلى جنب، علما أن السينمائي يصنع صورا وأصواتا حية، بينما الفيلسوف يعالج مفاهيم مجردة وغير مرئية؟
وبطبيعه الحال، إن الذي أملى هذا السؤال هو التمدد الجماهيري لهذا الفن التعبيري الجديد، الذي ولد انتشاره أفكارا جديدة وتصورا فلسفيا جديدا للعالم الذي نعيش فيه ممزوجا بذكريات الماضي مع حلوها ومرها مرورا بمشاكل الحاضر وتمنيا بحصول التغييرات في المستقبل.
لقد فتحت الفلسفة باهتمامها بالسينما تفتح مجالا مغايرا لطرقها القديمة والأكاديمية. وهذا ما يضع غودار في قلب ما يمكن أن نسميه «الأشكلة السينمائية» وإلا ما معنى أن يتحدث عن «نهاية اللغة»؟
يقول عز الدين الوافي: «لا يمكن فهم قصد غودار دون المراهنة على أن اللغة هي مسكننا الذي قصده هيدغر. بقوله في «الطريق إلى اللغة» إنَّ اللغة هي إحدى وسائل التعبير الأكثر تعقيداً؛ فالكلام يعتمد على الأصوات التي تقوم ببيان الحالات المُختلجة في النفس وتكشف الحالات بدورها عن الأشياء التي تثيرها. هنا يكمنُ فعلُ اللغة؛ في القدرة على الإبانة والكشف والحجب، إضافة إلى قدرتها على ابتكار الرموز وتحويلها؛ فهي تحوِّلُ المحسوسات إلى مدركاتٍ، وتحوِّلُ المُدركات إلى محسوسات. لذا يضع غودار اللغة كأرقى وأخطر وسيلة للتواصل الإنساني، والتي تبقى حسبه مجرد وهم، وذلك من خلال قضم وظيفتها. وهذا نوع من الإعلان الاستباقي عن موت في الأفق طالما رأى فيه المخرج المشاكس مكوناً ملازماً للحياة والحب. هو طلاق نهائي أو شبه نهائي للسينما التي كانت دوماً لغة غودار بامتياز وطريقته المثلى في التفكير».
يقترن اسم جان لوك غودار ب «الموجة الفرنسية الجديدة»، بل يعتبر علامة فارقة في فن السينما، بما اتسمت فيه أعماله من سرعة في «الإيقاع» ومن قدر كبير من «الجرأة»، كما يقول أنطوان دوبايك في كتابه «غودار/سيرة حياة». ولهذا ينعت الكثيرون غودار ب»الولد الشقي» للسينما بسبب عدم خوفه من خرق القواعد الصارمة التي كانت سائدة. كما يصفه آخرون بإنه «أحد أولئك المخرجين الذين لا يمكن آن تصبح السينما بعدهم تماماً كما كانت من قبل.. إنه لا يأخذ شيئاً واحداً على نحو يقيني، لا يؤمن ان هناك «ما يجب» و«ما لا يجب» حتى يُجرب بنفسه».
لقد حملت «الموجة الجديدة» التي أسس لها غودار وفرانسوا تروفو وآلان ريني وآخرون، حساسية مغايرة تماماً للسينما الفرنسية لما بعد الحرب العالمية الثانية، سواء من حيث الموقف من السينما كأداة للكتابة (مفهوم المؤلف، حركة الكاميرا، أهمية المونتاج، أساليب السرد..) ، أو من حيث تصورات ممثلي هذه الموجة للإنسان والمجتمع والطبيعة والمرأة والجمال (الفلسفية الوجودية، والماركسية)، مما أدى إلى اندلاع موجة تفكير عميق في السينما على المستوى العالمي، وأصبح التفكير في السينما تفكيرا فلسفيا يتجاوز القراءة اللسانية أو السيميولوجية أو التحليل الفيلمي أو الخارجي، بل أصبحنا نعي مع غودار تحديدا أنه «ما من صورة بريئة، باستخدامها إن لم يكن بذاتها». فالسينما بعد غودار لم تعد كالسينما قبله.
غودار: الناقد المثالي
يقول محمد عبيدو: منذ أواخر الخمسينيات، وحتى اليوم ما انفكت أفلام غودار تثير المناقشات والمنازعات الفكرية والجمالية. ووصف بأنه «الشخصية السينمائية الاكثر تعقيداً والأكثر خلقاً إبداعاً على مدى نصف قرن». ويبدو انه سيظل يثير ويزعج ويدهش، وخلال ذلك يكسب المعجبين والأعداء على حدّ سواء، حتى آخر أفلامه «موسيقانا» الذي عرض في إحدى دولارات مهرجان «كان» السينمائي.-. قام الى الآن بتحقيق ثمانين فيلماً منها 27 فيلماً طويلاً.- وأفلامه: «على آخر نفس» «الجندي الصغير» «حملة البنادق» «امرأة متزوجة» «ألفا فيل» «بييرو المجنون» «الصينية» «ويك اند» دفعته فيما بين عامي 1958 1968 إلى مقدمة المخرجين في فرنسا والعالم. وصار كل منها غذاء رئيسياً لمحبي السينما وعشاقها في صالات الفن والتجربة. و. ليس ما يرويه غودار هو ما يثير الاهتمام بل الطريقة التي يروي بها ويصف بها هذا العالم هي المثيرة للاهتمام. نظرة على العالم يقدمها غودار في الفيلم، نظرة وخطاب فنان، يختلفان عما يمكن لمفكر أو لسياسي أن يقولاه. ووجهة النظر التي يقدمها عبر أسلوبه السينمائي المميز هي وجهة نظر غير منتظرة: مبتكرة. وهو رائد الابتكار.
أظهر غودار منذ ظهور فيلمه القصير المسمى «شارلوت وحبيبها جول» 1958، والذي مثله ممثل مجهول آنذاك يُدعى «جان بول بلموندو» اهتماماً كبيراً جداً بالنصّ وكتابته، ومشاغل بشرت منذئذ بالسينما الجديدة. وتساءل غودار عن دور الكاميرا والفيلم في عملية إيهام المتفرج بالواقع، وجعل السينما غذاء لأحلامه، وقام بدراسات وتجارب مختلفة ومتعددة الوسائل لكسر هذا الايهام، بدءاً من رفض فكرة البناء السردي التقليدي، خاصةً بعد فيلمه الروائي الطويل الأول «على آخر نفس» ونسف فكرة الخط الروائي، واحباط شغف المتفرج بالحكاية، ومنعه من الاستسلام للحبكة القصصية والانقياد لها، مروراً باستخدام المنهج البريختي في الحفاظ على المسافة بين المشاهد والعرض، ومنع المتفرج من الذهاب نحو الشاشة والاندماج في الحدث، بل دفعه إلى التأمل والمشاركة الذهنية في فنّ رموز ما يشاهده.
فالمرء لا يعود مشاهداً فحسب منذ ان يدخل في لعبة الاكتشاف. فبطل فيلم «حملة البنادق» كشخص بدائي، يدخل مجال الاكتشاف، إذ سار على عادة هي ان يلمس كل ما يراه. ففي أول مرة ذهب فيها إلى السينما، يفجر البطل حدود هذه الجنة المصطنعة، فحين فتنته غادة حسناء كانت تستحم على الشاشة. نهض من مقعده، وصعد إلى المنصة، ورفع نفسه على أطراف أصابعه ليرى ما لم يره من أعلى «بانيو» الحمام. وينتهي به الأمر بأن يثقب الشاشة، ويستمر العرض على جدار متسخ أمام العيون المشدوهة للمشاهد الجاد في طلب المعرفة. هكذا انقطع تيار الافتتان. خلط الرجل ما بين المظاهر والأشياء. تلك خطيئته: شاء ان يمتحن المظاهر، ان يبحث عن الحقيقة خلف المظاهر.
وها هو (بلموندو).. يعبر عنها في فيلم آخر لغودار «شارلوت وحبيبها جول» على طريقته حين يقول: «ما هي السينما؟ إنها رأس كبير يفتعل التكشيرات في قاعة صغيرة. يجب أن يكون الإنسان شديد الغباء ليحب هذا! بلى، بلى! أعرف ما أقول! السينما فن مضلل».
من جانب محبّ للسينما وناقد مثل غودار ليست هذه الفكرة مزحة يضحك لها الآخرون، إن ضحكة غودار تخفي ما يمكن أن نسميه بالمرارة الأصلية، والنكتة عند غودار هي نكتة سوداء.
وغودار الناقد الذي بات سينمائياً يقارب بحساسية نقدية أفلامه: «أعتقد فعلاً أن جميع أفلامي الأولى ليس لها موضوع، وبعدها عاودت ذلك في مرحلة: فرنسا، دورة وانعطاف، ولينج بجلده من يستطع. من قبل، كان الموضوع هو السينما، ربما باستثناء فيلم : «شيئان أو ثلاثة»، والذي كان موضوعه بالنسبة إلى منطقة باريس، دون أن أعرف جيداً.. ما الذي يمكن ان يقدمه ذلك كموضوع لفيلم. في حين أن «صنع في الولايات المتحدة، وبيرو المجنون» اللذين في المرحلة نفسها ليس لهما موضوع، فيما عدا كونهما السينما بذاتها، وطريقة السينما في معالجة الأشياء. ما هو جيد في السينما بالمقارنة مع الفنون الأخرى، وظل طويلاً يستثير دهشتي، هو ان المرء فيها يمكن ان ينطلق من لا شيء. ولا أفهم لماذا يؤلفون سيناريو طالما ان أحداً لن يقرَأَه، فيما عدا الممثلين، وقراءة محدودة بالأسطر، التي يجب ان يقولوها وبالأعمال التي سيقومون بها، ما يستهوي في السينما انه يمكن مباشرةً العمل فيها بالمتوفر... وبما هو في متناول اليد.
إن الناقد الذي يتحدث على هذه الصورة-كما نرى- بات سينمائياً أكثر منه كونه ناقداً. وفي مقابلة أجرتها معه (مجلة دفاتر سينمائية) في دجنبر 1963 يقول غودار: «اليوم أعتبر نفسي ناقداً، ناقداً أكثر من أي وقت مضى، ولكني بدلاً من كتابة النقد أقوم بصنع فيلم، تكمن فيه عناصر نقده. أعتبر نفسي باحثاً أنتج أبحاثي بشكل رواية أو أنتج روايات بشكل بحث، وعوضاً عن كتابتها أقوم بتصويرها. ولو اختفت السينما يوماً فسأقبل ببساطة التحول الذي لا بد منه نحو التلفزيون، أما إذا اختفى التلفزيون فسأعود إلى الورقة والقلم، فالاستمرارية واضحة بين جميع أشكال التعبير: إنها كلها أنا».
من هنا يمكننا رؤية غودار المبدع الذي يتمتع برؤية ثاقبة وحادة وملهمة عن السينما، الجامع والناشر الذي لا يتوقف لكل المراجع في مجال ثقافة الصورة المتحركة. سيساعدنا هذا على ان نمسك بالفكر الذي يكمن خلف فيلم «بييرو المجنون» لنقل: إنه كان يحاول خلق رواية مأساوية أو دفتر ملاحظات يُدون فيه عناصرها ويجد طرقاً عديدة في رؤية وتحريك نص مكتوب.
أحب غودار تصور الإشارات والكلمات، كانت بالنسبة له -على الأقل- هامةً بقدر أهمية الوجوه ومحتويات النصّ والحوار، التي تبقى بعد ان تساعد على جعل الخيال واقعياً. تكمن أهمية فيلم «عاشت حياتها» في ان غودار استبق الرؤية بأن الناس في الفيلم صاروا حقيقيين أو لا ينتمون إلى عالم الاشباح، عالم الحياة العادية، لقد استطاع غودار ان يبرز ويعرف الهشاشة في أنظمتنا العسكرية والثقافية.
كاميرا غودار ليست بعيدةً عن الواقع. إنه يستخدم الممثل، ولكن ليقحمه في الواقع الذي يصوّره من وجهة نظر تسجيلية.. إنه يحاول أن يفاجىء الحياة، يتقبلها وهي تتشكل أمام عينيه بكل ما فيها من مصادفات وظلال وعدم تماسك وتناقضات.
وهناك مراحل واضحة في مسيرة غودار، ونقاط انتقال أكثر وضوحاً. لقد أراد أن يبدأ من جديد بعد أحداث ماي 1968، وبدأ بالفعل من جديد انطلاقاً من رفض كامل ومطلق للسينما السائدة وأراد ان يبدأ من جديد بفيلم «كل شيء على ما يُرام عام 1972 ولكنه لم يبدأ بعده إلا مرحلةً من الصمت. كما حاول مرةً أخرى ان يبدأ عام 1980 بفيلمه «انقذ نفسك- الحياة» وهو عبارة عن هجاء رفضي وعنيف للمجتمع الرأسمالي.
لا يهم غودار أن يفضح المجتمع الرأسمالي الذي يرفضه، ولكن أن يعبر عن هذا الفضح بأسلوب يرفضه هذا المجتمع أيضاً. عندئذ لا تصبح هناك مسافة بين الشكل والمضمون، وإنما يصبح المضمون هو ذاته الشكل، والعكس أيضاً، وهو هنا يصطدم بالسينما السائدة بحثاً عن السينما الخالصة... وهو ما جاء أيضاً في تحفته الفنية «في مديح الحبّ» الذي عُرض عام 2001.. وفيها يتحدث غودار عن كل شيء بحزن عميق يطغى على الغضب الجارف في أفلامه الأولى، غير انه لم يفقد غضبه. إنه يصوّر الذين بلا مأوى في شوارع باريس، وفي الوقت نفسه الأثرياء الجدد. ويهاجم السينما التجارية: كل ما تحتاج إليه لعمل فيلم «فتاة ومسدس». ويمتدح فنّ السينما الحقيقية، ويناصر غودار حقوق الأقليات المضطهدة،، ويستنكر الاهتمام باليهود دون غيرهم، والتركيز على الهولوكوست اليهودي دون غيره من حروب الإبادة.
وهو في ذلك مثل عدد قليل من المبدعين المثقفين العالميين لا يخضع للابتزاز أياً كان مصدره، ويدافع عن الحرية مهما كان الثمن.
رؤية مخرج
ويقدم غودار الذي في فيلم «موسيقانا» رؤيته الخاصة للحرب او للحروب التي تعصف بالعالم في ثلاثة فصول: الجحيم، المطهر والجنة..
منذ البداية يدخلنا غودار الى عالمه الخاص جدا حيث يمتزج الخيالي بالواقعي والتسجيلي بالتصويري في صورة صامتة متعددة تختصر كل الحرب : صورا لقتلى وجرحى ودبابات ونزوح ودمار وعنف والم بالاسود والابيض والملون... الجلادون والضحايا، في مشاهد وثائقية أخذ بعضها من أفلام وبعضها الآخر من وقائع. مشاهد ضبابية وأجواء مفجعة صاحبتها موسيقى على البيانو حادة ومفجعة هي الأخرى.
ويقدم غودار في هذا الفيلم على نسق فيلمه السابق «في مديح الحب»، رؤيته الفلسفية والفكرية والوجودية لموضوع الحرب عبر السينما والضوء والكتاب والسفر.
للكلام عن فلسطين يذهب إلى ساراييفو ولم لا فالحرب واحدة والدمار والخراب الذي تحدثه واحد وغودار يجعل من ساراييفو ومكتبتها المحترقة المدمرة رمزا لمكان الحرب يحضر إليها محمود درويش، الشاعر الفلسطيني ويحضر إليها الهنود الحمر وصحافية اسرائيلية شابة تريد أن يعم السلام المنطقة.
ويقود غودار شخصياته إلى جسر موستار الذي دمرته الحرب البوسنية، يجعلهم يتكلمون، يتكلم هو، يعلق على عبارة، يلعب بالمفاهيم .. يقلبها فتصبح معقولة أكثر، يظهر في الكادر، يفكر ويكتب كما يقف هو امام الكاميرا من حين الى حين.
ولا يبدو من الضروري البحث عن رابط بين الأفكار المطروحة في الفيلم فهي تنساب كنهر هادر يتدفق وينعطف ويهبط ويسكن منهالا في حوض واحد هو حوض الحرب وشبحها المديد المعالم من فلسطين الى العراق والبوسنة رجوعا الى الحرب العالمية الثانية مرورا بالهنود الحمر.
ويضحك الجمهور كثيرا في الفصل الثالث من الفيلم، فصل الجنة حين ترد أغنية تقول «جنود المارينز الأميركيون يحرسون دروب الجنة» ويراهم المشاهد هناك بصدد الحراسة.
على الوقع المقلق لضربات البيانو الواحدة تلو الأخرى ينتظم الفيلم ويسير، يقول غودار إن الأمل الوحيد موجود أمام المهزوم ويقول محمود درويش إن الشعب الفلسطيني سيء الحظ لأن عدوه يتمثل بالدولة اليهودية التي يدافع عنها الجميع، ولكن هذا الشعب محظوظ أيضا كونه يملك عدوا تسلط عليه كل الأضواء.
ويطرح غودار على نفسه سؤالا ولكن من خلال طلاب سينما في ساراييفو:» برأيك سيد غودار هل أن الفيديو الرقمي فيه خلاص للنوع السينمائي؟».
يصمت المخرج الذي يدرك أن ذلك صحيح، يصمت والجميع يعرف أنه استخدم مثله مثل عدد من كبار المخرجين الامكانات التي تتيحها كاميرات الفيديو الرقمي الصغيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.