ينحت غودار مفهومه للسينما من التزام أخلاقي عميق حول الأدوار التي يمكن أن تلعبها السينما في تحقيق وعي سياسي لدى المشاهد، غير مبال بأهمية النجاح الذي يمكن أن يحققه الفيلم، فمسألة نجاح الفيلم جماهيريا لا تعني غودار كثيرا، ولذلك يفخر غودار بالفئة التي تعنى بمشاهدة أفلامه، إنها النخبة الفاعلة داخل المجتمع التي تشكل بحق مفهوم الإنتلجنسيا السينمائية، فالمشاهد عند غودار غير عاد، مادام ينطلق من مفهوم المثقف العضوي بمفهوم أنطونيو غرامشي، وإذا كان صاحب مذكرات السجن قد صاغ مفهوما نبيلا للسياسة، فإن غودار قد صاغ مفهوما نبيلا للسينما. إنها مسألة عميقة جدا أن يعبر الفنان عن وعي مجتمعي، وليست مصادفة أن يقتسم الإثنان (غرامشي وغودار) الوعي بأهمية الاشتراكية كنمط اقتصادي (مجتمعي وتربوي) في تحقيق إقلاع ثقافي للمجتمع. دافع غودار عن الاشتراكية واعتبرها نتاجا إنسانيا خالصا، جاء ذلك في فيلم "اشتراكية" آخر أفلام جون لوك غودار، الذي سيعرضه مهرجان كان لهذه السنة خارج المسابقة الرسمية، لفظ " اشتراكية" الذي عنون به غودار فيلمه هذا تطرح أكثر من سؤال، فهذا العنوان كنص صغير كما يقول "جيرار جنيت " يحمل أكثر من دلالة يمكن أن يحيل عليها النص الكبير( المتن الفيلمي) ، إننا هنا أمام لفظ دافع عنه غودار في حياته المتعددة الجوانب كناقد وفنان ومثقف عضوي، ولا غرو فالرجل اشتراكي كبير عاكس القيم النيوليبرالية، وهو ما جعل أفلامه تتصدر تيار ما اصطلح عليه بأفلام الموجة الجديدة التي يعد غودار أحد أبرز أقطابها. إن أفلامه تحقق ما قال عنه جيرزي غروطوفسكي صمتا خاصا بداخله نوع من النقمة والنفور، النقمة والنفور من المشاهد مع تحقيق متعة كبيرة أثناء المشاهدة، تماما كما يحدث أثناء تأملنا لوحة تمثل عجوزا شمطاء ويتحقق بداخلنا شعور المتعة الذي تحركه بداخلنا ريشة الفنان العبقري الذي التقط المشهد وصوره باحترافية فنية عالية، فعدسة غودار لا تلتقط المشاهد العادية، إن عفويته تجعله يلتقط نوعا خاصا من المشاهد ويفرضها على المتلقي المطالب ببذل جهد خاص لفك شفراتها ورموزها، وهو مدعو قبل ذلك وبعده لملء فراغات يتعمدها غودار لتحفيز ذهن المشاهد، وما دامت أفلامه تعاكس القيم السائدة، فالمشاهد ينبغي له أن يأخذ مسافة من الوقائع المشاهدة على الأقل خلال لحظة مشاهدة الشريط.إن هذا المخرج الفرنسي الذي يتحدر من أصول سويسرية يتنازعه سؤال القيم التي أضحت مغيبة في مجتمعاتنا، فلا المدرسة تنتج القيم، ولا المجتمع يحتفي بهذه القيم، وغزت التفاهة مجالات كثيرة، بل وأصبح للرداءة جنودها الذين يدافعون عنها بلا كلل أو وصب تحت ذريعة " الفن من أجل الفن" التي غزت كل المجالات " الثقافية" مسرحا وقصة وشعرا وفي السينما والتلفزيون، وأفرغ الفن من بعده التنويري، وغذا الفنان ذلك الشخص البوهيمي الذي يقضي جل وقته في الحانات والتسكع وإذا بقي لذيه هامش من الوقت مارس تفاهاته الصبيانية وقدمها إلى الجمهور باسم الفن. إن غودار في أفلامه ذلك الشخص الناضج الذي يمتلك مشروعا ثقافيا ووعيا سينمائيا وقضية فنية يدافع عنها، ويسعى بكل جهده لصناعة مجتمع على مقاس طاقاته الإبداعية، ويسهب على مدار مختلف أفلامه في البحث عن هذه الشفرة التي تقود إلى المشاهد الافتراضي الذي يجهد غودار نفسه في الوصول إليه.يقسم غودار فيلمه "اشتراكية" الذي ننوه فيه بمستوى التصوير والذكاء في الانتقال بالعدسة بين أماكن التصوير وجودة المناظر إلى ثلاثة أنفاس بعناوين متفاوتة: "أشياء مثل هذه" و "كوفاديس أوربا" و " إنسانيتنا". وتدور أحداث الفيلم حول أسرة صاحب محطة وقود تقيم في كاراج في الجنوب الفرنسي يترشح ولداها إلى المجلس البلدي لتأتي محطة تلفزيونية لتصوير تحقيق حول هذه العائلة.في النفس الخاص بإنسانيتنا تبحرسفينة نزهة على أكثر الأماكن حساسية وتاريخا وحنينا في البحر المتوسط: مصر، فلسطين، أوديسا، هيلاس، نابولي، برشلونة مقدما مقاربة سياحية بنفس تجريببي عابق بالمغامرة والتجريب والتاريخ والإيديولوجية. وعند مرور السفينة من شاطئ فلسطين تظهر على الشاشة عبارة: "لايمكن الدخول هنا".يمكن اعتبار شريط " اشتراكية" هذا اكتمالا لمشروع بدأه غودار منذ تصويره لفيلمه الأول، فهو يلخص مسار هذا المخرج العملاق، من حيث التقنيات المعتمدة ،أو الموضوع المطروق، وللتأكيد على أن نجاح الفيلم، وما يمكن أن يحققه من إيرادات على مستوى شباك التذاكر مسألة لا تعنيه فقد حمله على شكل مقاطع سريعة على" اليوتوب"، إنه بعض من جنون هذا المخرج كنوع من الاحتجاج على لجان التحكيم التي ظلمته كثيرا، والتي غالبا ما تكون الأعمال في جهة ونتائجها في جهة أخرى، قبل أن يعلن في ما يشبه النعي المبكر أن هذا هو فيلمه السينمائي الأخير. انطلقت المسيرة السينمائية لجان لوك غودار بتصويره لفيلمه القصير الأول تحت عنوان " شارلوت وحبيبها جول" سنة 1958 من بطولة النجم العالمي جون بول بلموندو الذي كان غودار وراء اكتشافه وتقديمه للمشاهد، لتتوالى أفلامه مقدما فيلموغرافيا تجاوزت الخمسين فيلما، فصور فيلمه الطويل الأول "حتى انقطاع النفس" سنة 1960 من بطولة بلموندو كذلك، ثم صور فيلمه الطويل الثاني سنة 1962 تحت عنوان "لتعيش حياتها"، لتتوالى أفلامه " كرابينير"، و " بيير المجنون" سنة 1964 و " الجندي الصغير" عن حرب التحرير الجزائرية، وفيلم "ألفافييل" ، وفي سنة 1966 صور فيلمين هما : "رجولي أنثوي" و" صُنع في الولاياتالمتحدةالأمريكية" الذي وجه فيه انتقادات لاذعة إلى السياسة الأمريكية بطريقة ساخرة. وفي سنة 1967 صور فيلمين هما : "الصينية" و" ويكاند"، وفي سنة 1980 صور فيلميه "كل على حدة" و" أنقذ نفسك" الذي وجه فيه انتقادات كبيرة إلى الرأسمالية، ثم خاض حروبا ضد الكنيسة من خلال فيلمه "مريم تحياتي" الذي جوبه بالرفض من طرف رجال الدين المسيحي. وفي سنة 1987 صور فيلمه "الملك لير" الذي انتقد فيه ويليام شكسبير واللغة التي كتب بها مسرحياته. وبعد أن عرج على الاكتشاف كتيمة فنية من خلال أفلامه: "حملة البنادق" و" وشيئان أو ثلاثة" و"امرأة متزوجة" و"موزارت إلى الأبد" سنة 1996. جاء فيلمه" إطراء الحب" الذي تنافس بقوة حول الجائزة الكبرى لمهرجان كان سنة 2001 في إطار دورته الرابعة والخمسين، مشتغلا على تيمة الحب من خلال أربع حالات: هي اللقاء الأول، والهيام والاتصال الجسدي، ثم الخصام والافتراق، واللقاء من جديد عبر شخصيات اختارهم من شرائح عمرية: (متزوجان شابان، ومتزوجان راشدان، ومتزوجان عجوزان). وفي سنة 2004 صور فيلمه "موسيقانا" الذي تطرق فيه إلى موضوعة الحرب التي يشتعل أوارها في كل مناطق العالم وركز فيه على الخصوص على الحرب في سراييفو والحرب الأهلية الأمريكية والصراع العربي الإسرائيلي . من خصائص أفلام غودار عدم تقديم الحكاية بشكل جاهز، وكسر الإيهام، والتساؤل حول ماهية السينما، وتفجير كوميديا سوداء. إن سينماه بمثابة ورشة يمكن الانطلاق فيها من لاشيء، إذ السيناريو نفسه غير مهم لمباشرة العمل السينمائي، والسينما بالنسبة له هي تمرين أكثر من أي شيء اخر، أو بالاحرى لعبة يمكن أن تقود إلى المجهول، والقاسم المشترك بين أغلبية أعماله السينمائية هو أنها ذات رؤية نقدية ، ولا غرو في ذلك مادام الرجل قادما بالأساس من حقل الاشتغال النقدي مما جعل من أفلامه كبسولة سريعة الهضم بكل ما تحتويه من أفكار ذات طبيعة فلسفية وفكرية ووجودية. ولأنه مفكر بالأساس فقد جاءت أفلامه تستدعي هذا الحوار الحضاري بين الأمم مع انحياز تام لفئة الممقموعين والمضطهدين أفرادا وشعوبا.إنه كما وصفه الناقد إبراهيم العريس شاعر السينما بامتياز محمد عبد الفتاح / المغرب خاص ب: ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفادة