قدم المخرج الألماني فيم فيندرز، الذي يعود له الفضل في إدخال السينما الألمانية إلى دائرة الاهتمام، أكثر من ثلاثين فيلماً، ما بين الوثائقي والروائي، خلال مسيرة بدأت منذ نهاية الستينات، وصنع لنفسه بصمة بصرية مميزة، وضعته في طليعة المخرجين الألمان ، بل العالميين. وقد سبق لفيندرز أن فاز مرتين بجائزة أفضل مخرج في مهرجان بافاريا، عن فيلمي «أجنحة الرغبة» عام 1987 ، وجزئه الثاني «بعيد جداً ، قريب جداً» عام 1993 .بينما امتدت إنجازاته السينمائية لتشمل السعفة الذهبية من مهرجان كان عن فيلم «باريس تكساس» عام 1984 ، وأفضل مخرج عن «أجنحة الرغبة»، ولجنة التحكيم الخاصة عن «بعيداً جداً، قريب جداً»، بالإضافة إلى ترشيحه لأوسكار أفضل فيلم وثائقي عام 1999 عن فيلم «نادي بونينا فيستا» الذي تناول فيه الموسيقى الكوبية . وقد ابتعد فيم فيندرز، منذ سبع سنوات عن الأفلام الروائية، ليركز جهوده على صنع أفلام وثائقية، لاقت نجاحا كبيرا مثل»بين» و»ملح الأرض» (ذا سولت أوف ذي إيرث). غير أنه عاد مؤخرا بفيلم «كل شيء سيكون على ما يرام»(إيفري ثينج ويل بي فاين).. في ما يلي نص الدرس السينمائي الذي قدمه بمهرجان كان السينمائي سنة 1992. كل ما يهم في السينما غير قابل للتفسير. وبالنسبة إلي، إنها غير قابلة للتدريس. أنا مقتنع بذلك. ولكن لماذا أجلس الآن لأبدأ «درسا في السينما»؟ ربما لإضاءة هذه المفارقة معكم هذا المساء.. كيف يمكننا أن نتعلم السينما؟ هل بواسطة العين؟ العين تشاهد لكنها لا تفهم. هل بواسطة الدماغ؟ أيضا لا، لأن الدماغ يحلل، لكنه لا يستطيع شيئا. بواسطة القلب؟ ولا حتى، لأن للقلب أحاسيس، لكنه أعمى. لذا، فإننا لا نشاهد السينما إلا بواسطة العين والقلب والدماغ مجتمعين، وهكذا يمكننا أن نتعلم. لكن، ما الذي يمكننا أن نتعلمه؟ النظرة. النظرة في ذاتها لا تصنع السينما. أولا، النظرة لا مبالية، فالجميع يعرف كيف يشاهد، لكن الجميع لا يمارس السينما، لحسن الحظ في الواقع.. فإذا كانت النظرة لا مبالية، فما الذي يجعلنا مختلفين؟ إن الموقف هو الذي يحدد النظرة. موقف الذي يشاهد. مثلا، هناك نظرة الحب التي لا نتعلمها طبعا. إنها تحدث فجأة بين العشاق، بين الآباء والأبناء، وأحيانا بين مجهولين. وتوجد هذه النظرة، أيضا، إزاء الأشياء والحيوانات، بل إزاء المناظر إذا كنت فنانا تشكيليا كبيرا. في هذه الحالة، إن الحب هو الذي يرى، إن الحب هو النظرة ، وهو الذي يصنع النظرة. هناك أيضا، نظرة الحنان، المختلفة قليلا عن نظرة الحب. ربما، هي أقل حبا للامتلاك، غير أنها بالتأكيد أقل شغفا. وأنتم تعرفون جميعا هذه النظرة. وهذا يمكن أن تختبروه في الحياة. إذن، لا بد أنكم تعلمون بأن هذه النظرة أيضا لا نتعلمها. إما أنها لديكم، وإما لا. لكن ما دمتم طلابا في السينما، فأنتم تعرفونها. الموقف هو من يحدد النظرة أنا أيضا كنت طالبا في السينما وسينيفل وناقدا. حاولت أن أتعلم السينما، وترددت على خزانة الأفلام، ودخلت إلى مدرسة للسينما. فبماذا نفعني أن أكون مشاهدا لأكون مخرجا؟ ما زلت لا أعرف. كنت مضطرا لأن أكون متفرجا، لأن الجو بارد جدا في باريس. كنت أتوفر على غرفة خادمة، وليس لدي أي تدفئة. في تلك المرحلة، في نهاية الستينيات، كان ثمن مشاهدة فيلم واحد في خزانة الأفلام يساوي فرنكا. وكان بالإمكان، إذا كنت تتوفر على أربعة أو خمسة فرنكات، أن تقضي المساء والليل في الدفء. وهكذا بدأ الأمر، بفيلم، فاثنين، ثم ثلاثة.. وبعدها بأسابيع قليلة، أصبحت مدمنا إلى درجة شاهدت معها كل الأفلام، من أولها إلى آخرها. وتلقيت جرعة زائدة كاملة لتاريخ السينما. كنت مدمنا حقا. كنت أحفظ البرنامج عن ظهر قلب. وعندما، نعود إلى البيت في الثالثة ليلا، وقد شاهدنا خمسة أفلام، فإننا ننسى بالتأكيد ما هو الفيلم الأول الذي شاهدناه. لا نعلم حقا، وتصبح كل الأفلام فيلما واحدا.. بدأت بتدوين ملاحظات، لنفسي فقط. كثير من ملاحظات في الظلام.. تعلمت أن أكتب في الظلام داخل القاعة، لأتذكر. وفي النهاية، أعتقد أن هذه هي مدرستي أكثر من المدرسة التي دخلتها لأتعلم السينما لاحقا: أن أشاهد، وأن أتابع نظرة شخص آخر، وأن أحاول أن أصف المشاعر التي تحدثها في نظرتي الشخصية. ولهذا، أصررت على النظرة. وبعد هذه الجرعة الزائدة، جاءت لحظة لم أعد أتحمل. رأيت فعلا كل شيء، أو هذا انطباعي على الأقل. ثم، وجدت صحيفة ألمانية قرأت فيها بأن مدرسة للسينما فتحت أبوابها في ميونيخ، الأولى من نوعها في ألمانيا، وأنها ستشرع في العمل انطلاقا من دخول 1967. تسجلت، وكما لو كانت معجزة، تم قبولي لأول مرة في حياتي في مدرسة. وهي المدرسة التي أكملت فيها دراستي هذه المرة. لذا أنا سعيد باستطاعتي أن أريكم فيلما صورته في سنتي الثانية، وهو بعنوان «ألاباما»، وهو مجهول بما يكفي، ويعتبر هو فيلمي الأول، وقد حاولت من خلاله أن أحكي شيئا، رغم أنه من الصعب جدا فهم ما هي القصة، وفي النهاية بذلت جهدا كبيرا حتى لا يكون الفيلم مجرد صور، بل أيضا ما تقوله الأشياء الذي يمكن الوصول إليه بين الصور. وما دمت، على مستوى التكوين أكثر انجذابا للصور والتشكيل، فإنني اعتبرت بسرعة أن السينما هي أولا صور. في البداية، اعتقدت أنها صور فقط. في تلك المرحلة، أي في مدرسة ميونيخ، كنا جميعا متأثرين جدا بالسينما الأمريكية الأندرغراوند، أي الأفلام غير الحكائية التي ليس فيها سوى الصور، أو هذا ما ظنناه على الأقل. وبالتأكيد، وبعد ذلك، فهمت تدريجيا بأن السينما ليست صورا فقط، وأنه ينبغي الانتقال من صورة إلى أخرى، الواحدة بعد الأخرى، وأن هناك دائما حكاية في الفيلم، حتى لو لم يكن هناك حوار. ففي فيلم «ألاباما»، على سبيل المثال، هناك جملتان صادران في هذا الفيلم الذي تستغرق مدته 20 دقيقة. جملة من 14 كلمة، والأخرى من 5 كلمات. ولهذا فإن وضع عناوين فرعية سيكون هينا جدا. لا أومن كثيرا بالكلمات، وهذا الأمر استمر طويلا. فشيئا فشيئا، تغيرت هذه العلاقة، وشيئا فشيئا كذلك، ومن خلال تعاوني مع كتاب أمثال بيترهاندك أوسام شيبارد، اختفى هذا الخوف من الكلمات. شخصيا، لم أصبح كاتبا بعد. لا استطيع القيام بذلك، لكني اكتسبت احتراما كبيرا بسبب هذا الاشتغال على الكلمات. وفي النهاية،اكتشف اليوم، عندما أنظر إلى أفلامي التي أنجزتها قبل 20 سنة بأنني بلغت تقريبا الحد الأقصى لهذه الطريقة، أجد نفسي في موقف تصبح فيه الصورة لا أقول ثانوية، ولكن أكون في وضعية حذر من ما إذا كانت الصورة موجهة من طرف المكتوب ومن طرف السرد أو الحوار. أشعر بأن الصور- وطبعا، هناك أشياء كثيرة تغيرت منذ 20 سنة في الثقافة البصرية، ذلك أنني أجد الآن أن الصور فقدت تلك الأخلاقيات التي كانت لها قبل 20 سنة- لا توجد إلا عبر الشك، شكي الخاص حولها. وعندما يقول لي شخص ما، بعد أنجاز أحد افلامي: «أعجبت فعلا بصورك»، أخجل وأقول على الفور في قرارة نفسي ربما فعلت شيئا خاطئا». ففيلم «حتى نهاية العالم» يتحدث، في آخر المطاف، عن مرض الصور تحديدا، والذي لا يمكن الشفاء منه إلا بالكلمات. لكن عندما كانت طالبا، كنت سأحطم شخصا يقول لي كلاما كهذا! عندما اشتغل مع كاتب حول سيناريو معين، ليست هناك قاعدة محددة. اشتغلت بكل الطرق في هذا المجال، وأعتقد أنني جربت كل الامكانيات. من جهة، جربت الأقصى عندما لا يكون هناك سيناريو: هناك جملة، وبهذه الجملة نبدأ الفيلم. يمكننا أن نفعل ذلك. جربت ذلك مرتين أو ثلاث . لم تكن هناك حقا سوى صفحة واحدة، وانطلاقا من ذلك بدأنا، وحاولنا استكشاف إلى أي مدى يمكن أن تقودنا هذه الصفحة. إنها طريقة مغايرة بعض الشيء لكتابة فيلم،لكن لها ميزة البقاء دائما عفوية وتسمح بأن تكون على نفس مستوى فريق الفيلم والممثلين الذين تستغل معهم من حيث المعلومة، بمعنى أنهم يكونون في محور ما يجري في التصوير: نسجل غياب السيناريو، وهناك فرصة لأن نجد جزءا من الحقيقة. لكن ذلك مقلق لأنه يمكن أن تجد ذات صباح أنك لا تعرف كيف ستواصل العمل، وبالتالي هذا أمر رهيب، فالممثلون والمصورون يتنظرون قائلين: «ماذا سنفعل اليوم؟» بينما لا نعرف نحن ذلك. هكذا كان الأمر، على سبيل المثال، في فيلم «حالة الأشياء»، وأيضا في فيلم «مع مرور الوقت» أو فيلم «نيكس موفي». يمكن أن يكون الأمر مقلقا، وبطبيعة الحال يمكن أن يكون أيضا مُحَرِّراً. هناك، أيضا، العكس تماما، نكتب سيناريو مع شخص، ثم نتبعه طيلة أيام التصوير. لا نغير شيئا، ولا سطرا واحدا. نعرف ماذا سنفعل في الأسبوع الموالي، نعرف ماذا سنفعل في اليوم الأخير. نعرف كل شيء. طبعا، هذا الأمر مطمئن جدا، ولكن الخطر الأكبر هو أن ذلك مطمئن إلى درجة أنه ليس هناك شيء يمكن استكشافه، وفي النهاية هناك خطر أكبر لفقدان الفيلم أكثر مما لو لم يكن هناك سيناريو إطلاقا . كان الأمر كذلك بالنسبة لفيلم «حركة خاطئة» أو فيلم «هاملت». وبين هذين النقيضين، هناك كل المتغيرات الممكنة. يمكن أن نكتب نصف السيناريو، مثل فيلم «باريس تيكساس»، تماما حتى المنتصف، وبعد ذلك كل شيء يبقى مفتوحا. أو أن نكتب العديد من المشاهد الممكنة ونبدأ التصوير بكنز من المشاهد، مثل كنز معركة، وأن نقول، تدريجيا، «كيف يمكننا أن نواصل العمل؟». هكذا كان الأمر في فيلم «أجنحة الرغبة»، الذي لم يكن يتوفر على سيناريو، بل على مشاهد مكتوبة وملصقة على حائط. كان ينبغي الوقوف أمام هذا الحائط لنختار ما هو المشهد الذي نريد تصويره. أما بالنسبة لفيلمي المثالي، فلم أصنعه بعد: وهو أن يكون هناك كاتب في موقع التصوير، وأن يأتي كل ليلة من أجل عمل الغد.. ولكنني لم أعثر عليه بعد، ذلك الطائر النادر الذي يمكنه أن يظل مستيقظا النهار بكامله ليشاهد، وأن يظل يكتب طيلة الليل. المونطاج ليس سوى فعل اختيار في أي فيلم، الذي يجري تقسمه كلاسيكيا إلى ثلاث مراحل: الكتابة، التصوير، المونطاج، أفضل أولا ما قبل الكتابة، أي تلك الحالة التي نبحث خلالها عن بداية للفيلم، ونسافر من أجل العثور على منظر طبيعي نعرف أننا يمكننا أن نصور فيه الفيلم. تلك الحالة التي تخلق الفيلم.. ليس هناك أي شيء بعد، ليس هناك سوى عناصر شذرية، وحكايات صغيرة شاهدناها أو منظر نتذكره أو ممثل نرغب في العمل معه. وبعد ذلك تأتي الأشياء الأخرى، وخاصة الكتابة التي أخشاها، ولا أحبها إطلاقا. لا أحب أيضا التصوير، إنه مقلق جدا. وعلى العكس من ذلك، فالمونطاج شيء رائع. لكن بين المونطاج النهائي وتلك الحرية التي تمنحها نقطة الانطلاق، أي تلك اللحظة التي ليس فيها أي شيء (مرحلة ما قبل الكتابة)، لا أشعر بالارتياح. أثناء المونطاج، يختفي القلق. ننام في الليل هانئين لأننا لا نستطيع تغيير شيء، سوى أن نقوم بالمونطاج، بشكل سليم. ومعنى أن تقوم بالمونطاج هو أن تنفتح على كثير من الممكنات. هناك صراعات مع الموظب، وصراعات مع مؤلف الموسيقى. لكن ليس هناك قطعا أي قلق، لأن الذي يهم هو ما يحمله الشريط الفيلمي (البيليكول). في المونطاج لا نفعل شيئا سوى أن نختار. ومع الموظب، يكون العمل هادئا، وأغلب الوقت نعيش انفعالات ونشاهد، أما الصراعات فهي مختزلة في الأشياء المادية. وهكذا يمكن القول إنه عمل ناضج، أي عمل نضع فيه الثقة في الآخر الذي يعمل معنا. وبالنسبة لي، كنت محظوظا لتمكني من العمل مع الموظب نفسه منذ فيلم نهاية التخرج في 1969، بيتر براغودا. فهو الذي وظب كل أفلامي تقريبا، باستثناء اثنين أو ثلاثة: نحن تقريبا مثل التوأم. فبيتر ملحاح، ولهذا أنا أثق فيه حتى يبدع أسلوبا في المونطاج خاصا بكل فيلم، فهو يؤمن بأن ليست هناك طريقة معينة في المونطاج، وأن الطريقة ينبغي أن تخرج من اللقطات التي تم تصويرها، ومن الفيلم نفسه. ففي كل فيلم، يضع كل ما تعلمه في موضع خطر: إذ يمكنه أن يقطع أثناء الحركة في هذا الفيلم، وفي الفيلم الذي يليه يقطع في اللحظات الثابتة. غالبا، أسأله عن دوافعه، انتفض وأثور، ولكنني ألاحظ أنه دائما على حق...... فعل الحقيقة هو التصوير فعل الحقيقة هو التصوير. فهو مثل «مصارعة الثيران»، لا يمكن النجاة منه. القلق كله هنا. وفي هذه النقطة، لن أقول أكثر. ذلك أن الذي أشعر به في تلك اللحظة الدقيقة يمكنه أن يتحدث بدلا عني.. أحب أن أقوم بذلك الشيء النادر لدى سينمائيي «التخييل» الذي يفرض العودة بين الفينة والأخرى إلى الوثائقي. سكورسيزي فعل هذا أيضا، أو ألان كافاليي، مانويل دي أليفييرا... وفي نهاية المطاف، يمكن عد المخرجين الذين فعلوا ذلك على رؤوس الأصابع. هكذا أخرجت «طوكيو غا» حول أوزو، و»نيكس موفي» حول نيكولاس راي، أو أيضا دفتر ملاحظات حول ملابس المدينة» حول الموضة. إنها تحتوي على مجموعة من الفخاخ، لأن كل تخييل يبدع قواعد معينة نتعلمها بعد بضعة أيام من التصوير. فحين نتبع إيقاعا معينا، فإن الفيلم يصنع قواعده الخاصة في ما يتعلق بالإخراج، وعمل الكاميرا، ولعب الممثلين.. كل فيلم يخلق نظاما، حتى لو كان النظام مفتوحا، كما يخلق قواعد نستوعبها في النهاية. إنها قواعد تصبح طريقة في التفكير، وبنية نتطبع بها. أما الفخ فهو البقاء رهينة لهذه البنية عند إنجاز الفيلم الموالي، وهو ما قد يكون مسارا خاطئا لهذا الفيلم. وعند القيام بإخراج فيلم وثائقي أو شريط تلفزيوني، تفرض الضرورة التخلي عن النظام الموروث من الفيلم السابق، والسعي لمشاهدة الواقع. وكلما وجدنا أنفسنا بأقل عدد، على الأقل مع شخصين أو ثلاثة أشخاص، كلما كان ذلك عودة حقيقية للأصول. نجد أنفسنا أمام واقع بوسائل أكثر بساطة، كاميرا، لاقط للصوت، ونكون بالضرورة منفتحين على كافة الانطباعات. ثمة شكل آخر للسينما، تعليمي إلى حد بعيد، ويكاد يكون مبهجا، ويتمثل في الشريط القصير. لقد كان الشريط القصير دوما مدرسة رائعة: إذا لم تتوفر لنا بعد إمكانية إنجاز شريط طويل، يمكن على الأقل إنجاز شريط قصير. الشريط القصير كان طريقة منطقية بما يكفي لولوج عالم السينما، والتعبير من خلالها، كمدخل. الشريط القصير، في هذه الصيغة، اختفى إلى حد ما، وحتى في مهرجان «كان»، لا تزال تبذل الجهود في هذا الصدد بتنظيم مسابقة للأفلام القصيرة. وأضحت الأفلام القصيرة شيئا غرائبيا، لأنه لم تعد ثمة حاجة إليه، يشكل نوعا قائما بذاته من الصعب عرضه خارج عدد من المهرجانات المتخصصة. وفي الواقع، فالشريط القصير تمت الاستعاضة عنه بميدان تجارب آخر للسواد الأعظم من الشباب والطلبة، وهو «الكليب». لا يمكن إلا نكون سعداء بهذا الأمر إذ كان «الكليب» يتيح إمكانيات التعبير للشباب والطلبة والأشخاص الذين يخطون أولى خطواتهم في عالم السينما. ومن شأن هذا المعطى أن يفرز نتائج عظيمة وأمورا جميلة. وفي نفس الآن، أعتقد أنه يتعين توخي الحذر بشكل كبير من هذا النمط الجديد، لأنه مرتبط على نحو وثيق بنمط آخر، أعتبره شخصيا سم السينما: الإعلانات. فالفيديو كليب هو جار الإعلانات؛ بل يكون في بعض الأحيان وبدون مقدمات شكلا من أشكال الإعلانات. الإعلان يسعى لبيع شيء ما: قبل أن نحكي، نبيع. أما في السينما، فالسعي يكون مع ذلك وراء تقديم حكاية ما. وفي الفيديو كليب يكون السعي في أغلب الحالات وراء بيع أغنية ما، وبالتالي فهذه مدرسة جديدة، لكنها تستولي على مساحة خطيرة للغاية، عكس تطور السينما. ثمة العديد من الشباب الذين يقومون، بعد خمس سنوات من الدراسة، الاشتغال في الأفلام الطويلة بروح البائع، وأعتقد أننا نعاين عواقب هذا التوجه في سينما اليوم. يبدو لي أننا نشاهد بشكل متزايد أفلاما لا تحكي أية قصة، لكنها تتظاهر بذلك من خلال بيع شيء يشبه القصة. هؤلاء المخرجون لا يتوفرون على ما يمكن سرده، فيقومون فقط بخدمة الإعلانات. إنه أمر خطير على الصورة في علاقتها بالقصة وفي علاقتها أيضا، في نظري، بالموسيقى. فعندما بدأت موسيقى «الروك ن رول» في سنوات الستينات، كانت موسيقى تخلق مجالا للتخيل والحلم في ذهن كل فرد... كل أغنية لمجموعة «البيتلز» كان تخلق متخيلا في ذهن ملايين الشباب في العالم بأسره. واليوم، أضحى هذا التخيل في طور التراجع، أو الاندثار شيئا فشيئا. في بداية مساري، مثلا في فيلم «ألاباما»، أخذت صورا يمكن أن أشاهدها مع موسيقى معينة. كانت تسكنني تلك الرغبة المجنونة للاستماع للموسيقى مع صورة ما. يمكن أن أقول إن الموسيقى تسبق عندي الصورة. وأدين بالشيء الكثير للموسيقى، خصوصا لموسيقى «الروك ن رول» و»البلوز». وإذا قمت بإنجاز أفلام، فذلك راجع لأن موسيقى تسمى «الروك ن رول» اقتحمت حياتي ومنحتني الشجاعة للتعبير. أعتقد أنها، بالنسبة لجيل كامل وحتى اليوم، طاقة هائلة ونوع من التحرر الواسع: الموسيقى كانت هي صوت الدخول في الإبداعية الخاصة. عموما، هكذا جرى الأمر بالنسبة إلي. أدين بالكثير للموسيقى، وأحيانا أعتقد بأنني أدخلت عددا معينا من أنواع الموسيقى للاحتفاء بها فقط.