بعد سنوات من العمل بالنادي السينمائي بالعرائش كمنخرطين وكأعضاء في المكتب المسير، تكونت عبر سنوات، وابتداء من الجزء الثاني من التسعينيات، نواة منسجمة من الأصدقاء تسير النادي السينمائي للمدينة. وجدنا كمجموع أنفسنا كورثة شرعيين لهذا الإطار السينمائي، يحركنا هم وحيد: حب السينما بعد أن ذهب كل إلى اهتماماته الحقيقية . التحق البعض بخلايا نقاش تجميع اليسار والآخر بالجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والجمعية الوطنية لحملة الشواهد المعطلين وعموما إلى العمل السياسي المباشر. كان العالم و المغرب بدأ يتغير. رغم هذه الاستقلالية النسبية، كنا نحس أن هناك وصاية من بعض مكونات اليسار بالمدينة. لم يكن الانتماء للنادي السينمائي يحكمه بالضرورة حب السينما، ولكنه كان يعتبر واجهة للنضال والاستقطاب السياسي، ويجب الحفاظ عليه كأحد مكتسبات الجماهير حسب أدبيات المرحلة. قبل هذه الفترة بقليل كان هناك اختلاف بيننا وبين المكاتب السابقة لكونها اعتبرت في مرحلة ما، أن دور النادي ليس في أن يقتصر على السينما فقط، ولكن دوره هو أن يكون إطارا ثقافيا تلتف حوله كل الفعاليات الثقافية بالمدينة. كان النادي السينمائي، قبل هذه المرحلة، يتوفر على فرقة مسرحية كنت عضوا فيها (فرق النوارس) ونادي الشعراء الشباب، وينظم بالإضافة إلى العروض الأسبوعية ندوة حول وضع حقوق الإنسان بالمغرب مثلا، وحول القضية الفلسطينية وأمسيات فنية ملتزمة و قراءات شعرية.. المهم أنه كان يجب إرضاء كل الأطراف السياسية. بمناسبة انعقاد الجمع العام العادي لموسم 96/97 كان لدينا إحساس مسبق أن مجلس الوصاية (غير الرسمي( سيحاول أن يفرض اسما على التشكيلة التي نقترحها لمكافأته على المشاركة في معركة نضالية ساهم فيها، وقررنا أن نقدم ترشيحنا كمجموعة وليس كأفراد، واتفقنا أنه إذا قوبل طلبنا بالرفض، ننسحب. توقعاتنا كانت في محلها وسحبنا ترشيحنا واختل سير الجمع العام، مما اضطر الجميع إلى تأجيله الأسبوعين نكون قد وصلنا خلالها إلى اتفاق. كان الرفاق في آخر هذا الجمع العام مستعدين لمسايرتنا، لكننا كنا قد وصلنا إلى نقطة اللاعودة، وارتبطنا بفكرة تأسيس إطار جديد والانطلاق على أرضية جديدة. أسسنا مباشرة، وبسرية تامة إطارا سينمائيا جديدا سميناه بطموح مبالغ فيه «مجموعة البحث السينمائي»، وجعلنا من بين أهدافه نشر الثقافة السينمائية عن طريق العروض الأسبوعية وحلقات التكوين، ثم - وهذا هو الجديد- الإنتاج السينمائي. أتذكر أن هذا البند كان موضوع سخرية من طرف الأوساط الثقافية بالمدينة. إذن، في ظرف أسبوعين، كنا قد أسسنا الإطار الجديد، وهيأنا البرمجة السنوية، وحجزنا القاعة السينمائية، وقمنا ببيع عدد من البطائق، خصوصا وأن برمجتنا كانت تعتمد على ما كان يسمى في لغة برمجة الجامعة الوطنية للأندية السينمائية، بالتعاقد التجاري، أي برمجة من خارج الخزانة السينمائية للجامعة التي مرت عليها فترة لم تتجدد، وبنسخ أفلام كانت أصبحت في بعض الحالات غير صالحة للعرض. اعتمدنا على أفلام جديدة نكتريها من عند الموزعين مباشرة. كان الافتتاح بفيلم «المهاجر» ليوسف شاهين، حيث عرف إقبالا كبيرا، مما ساعدنا على بيع عدد مهم من البطائق، لأنه كان قد خلق الحدث لمحاكمته بتهمة المساس بالمقدس. حافظنا على برمجة مستقرة من حيث المواظبة وجودة الأفلام. وبعد مرحلة التأسيس، طلبنا الانخراط كأي نادي سينمائي في الجامعة، فأنقسم المكتب المسير الجامعي بين رافض للطلب بحكم أنه يوجد نادي سينمائي تاريخي بالمدينة، وبين من يقبل بهذا الانخراط. واستمر النقاش لمدة حتى تم قبول انخراطنا بعد أكثر من سنة، خلال إحدى المجالس الوطنية بقاعة المكتبة السينمائية بالمركز السينمائي بالرباط. ونحن نحضر دورة 1996 لمهرجان تطوان المتوسطي على حسابنا، كمجموعة من المكتب، وخلال أحد العروض بالمعهد الفرنسي، أخبرنا مسئول العرض محمد سلمون قبل بداية الفيلم الذي كان «الكراهية» لمتيو كاسوفيتش أن هناك إسبانا رغبوا في لقائنا عندما أخبرهم أننا من أعضاء النادي السينمائي بالعرائش. فعلا عند نهاية العرض، ثم اللقاء مع شابين وشابة يبدو أنهم يكبروننا قليلا قدموا أنفسهم على أنهم سينمائيين إسبان مستقلين، فاتفقنا أن نذهب إلى إحدى المقاهي القريبة للحديث. السينمائيون الثلاثة وآخرون من مدريد هم مخرجون من إسبانيا يصورون أفلامهم كل بإمكانياته الذاتية وبكل الأحجام ( فيديو، 35 ملم، 16 ملم، 9 ملم) ويرفضون الاندماج في الإنتاج السائد، فأسسوا جمعية في شكل تعاونية، وحولوا مرأب إلى قاعة سينمائية صغيرة لعرض أفلامهم، وهم هنا لأنهم يبحثون عن إمكانية عرض أفلامهم ببعض مدن المغرب. تحمسنا للفكرة دون أن نعرف كيف سيتم ذلك، واتفقنا على تاريخ، ولأن عدد الأفلام كان كثيرا، اتفقنا على يكون النشاط في شكل مهرجان صغير نسميه مهرجان السينما المستقلة الاسبانية. والحقيقة أننا تحمسنا لأن هذا النشاط سيعطيننا دفعة نفسية ولأنه متميز، ويعطي لعملنا بعد دوليا. أخبرنا مكسيميان و كان هو المتحدث باسمهم، أن هناك شخصا هو الآخر أبدى استعدادا لتنظيم نفس النشاط بطنجة، وسيكون عمليا ومفيدا أن يتم التنسيق بيننا. عرفنا أن هذا الشخص اسمه محمد العبداوي، وهو يعمل في صيدلية، حصلنا على رقم هاتفه وافترقنا على أساس أن نبقى على اتصال. بعد أسبوع سافرنا، أنا وعزيز بلحجام، إلى طنجة بعد أن اتصلنا بمحمد العبداوي، واتفقنا على اللقاء في إحدى المقاهي بوسط المدينة. هناك التحق بنا محمد العبداوي، وعرفنا أنه لا يعمل في صيدلية، ولكنه صاحبها. لم نكن نتوقع من دكتور صيدلي أن يكون له نفس اهتمامنا، ويكون عضوا في النادي السينمائي. فقد جرت العادة أن تكون فئة المدرسين والطلبة والتلاميذ هي الفئة التي تحضر أنشطة النادي السينمائي، أما فئة الدكاترة والصيادية فكانت تترفع على هذا النوع من الأنشطة، وفئة قليلة كانت تساهم بشراء بطاقة شرفية على أنه من المستحيل أن تحضر العروض أو أن تتحمل المسؤولية. التقينا محمد العبداوي، وبعد التعارف انخرطنا مباشرة في نقاش حول اهتماماتنا السينمائية. بعد لحظة أعلن أنه يجب علينا أن نتوقف على مشاهدة الأفلام فقط، وأن نحاول أن نصنع أفلاما كأصدقائنا الإسبان. كما يقول المثل المغربي «حتى مشا لبلاد الفلايو عاد جاه الرواح»، أي أنه كنا نحن كذلك يحركنا نفس الهم إلى حد الهوس. اتفقنا على بعض المتعلقة بتنظيم المهرجان وافترقنا. عدنا إلى العرائش متحمسين، لكن حماسنا تبدد عندما اكتشفنا أن ميزانية الجمعية لا تسمح بأي نشاط لأنها منعدمة. تدخل صديقنا عبد لله الفركي رئيس فرع نادي المقاولين الشباب بالعرائش وأخبرنا عن إمكانية السبنسور، وكانت أول مرة نسمع فيها عن الكلمة، حيث أخبرنا بوجود إمكانية طلب مساعدة من إحدى الشركات، وحتى المؤسسات البنكية، وطلب منا أن نهيئ ملفا يضم تقريرا بكل الأنشطة والمشروع الذي نود تمويله، ومشروع ملصق سنقترح على الجهة المانحة أن نضمنه شعارها، وتكلف الفنان التشكيلي عبد السلام السيحي لإنجاز الملصق... بعد أن قمنا بإنجاز الملف بإمكانيات نادي المقاولين الشباب الذي كان يتوفر على جهاز كمبيوتر multimedia الوحيد بالإقليم، في الفترة التي كنا نحن كجمعية نكتب إعلانات العروض الأسبوعية بخط اليد. كانت في هذه الفترة بدأت اللغة التي تتغير، وبدأت كلمات جديدة تجد طريقها إلى لغتنا بسلاسة ككلمة الشراكة، التنمية، الاستثمار، المجتمع المدني، القوة الاقتراحية... لغة تعبر عن وضع سياسي واجتماعي كان في طريقه نحو التحول، ويعبر عن نوع من التقارب بدأ يحصل بين مكونات اليسار والإدارة، ويجعل بذلك الأجواء أقل توترا. ذهب الصديق عبد الله الفركي وعزيز منسق المجموعة إلى إحدى المؤسسات البنكية بطنجة، واستطاعا بجهد جهيد أن ينتزعا من المدير الجهوي مبلغ 5000 درهم أٌعتبر ضخما بالنسبة آنذاك لنادي تعود على التمويل الذاتي، ولم يسبق له أن حصل على أي منحة من أي جهة كانت، وحافظ دائما على الاستقلالية وباقي المبادئ الأربع للاتحاد الوطني لطلبة المغرب. أقيم المهرجان بمساعدة المعهد الفرنسي الذي وفر المعدات التقنية، والمؤسسة التعليمية الإسبانبة بالعرائش التي وضعت رهن إشارتنا قاعة عروضها. كانت الأفلام مفاجأة لنا وللجمهور، بالنسبة للأخير لأنها أفلام قصيرة، ولم تكن بعد قد انتشرت بالشكل الكافي ثقافة الفيلم القصير بالمغرب، ولنا نحن لأن الأفلام جاءت مستقلة في تمويلها وفي شكلها واختياراتها الفنية بين الوثائقي والروائي والتجريبي. كانت تلي الأفلام حصص النقاش مع من حضر من المخرجين، والمهم هو النقاش الذي كان يدور بيننا أو بيني وبين الحاضرين في الكواليس حول السينما، وحول كيف يصنع هؤلاء المخرجون أفلامهم، وحيل وطرق التمويل. على الأقل اثنان منهم أخرجا أفلام طويلة بعد سنوات، كمكسيمليان لمكي «كل الآخرون يسمون محمد « حول وضع المهاجرين المغاربة بإسبانيا، وهو عنوان مستوحى من عنوان فيلم «كل الآخرين يسمون علي» لفاسبندر. أثناء حديثي مع مخرجة حاضرة، أخبرتها أنني أريد أن أنجز فيلما قصيرا وأحتاج لمدير تصوير متطوع، وعدتني أرنتشا بيلا أنها على الأقل متأكدة من اثنتين من أصدقائها يمكن أن يوافقا على العمل في هذه الشروط، ثم نسيت الموضوع إلى أن توصلت برسالة منها بعد أسبوعين تخبرني بأن صديقها خوان متحمس للمجيء للمغرب لتصوير فيلم، وأرسلت إلي عنوانه وهاتفه: خوان كارلوس كوميز. كتبت له في الحين أشكره على استجابته، وبجرأة، طلبت منه أن يرسل لي سيرته الذاتية، لكي أضمنها مع ملف البحث عن التمويل. شجعتنا تجربة الدعم البسيط التي حصلنا عليه لتنظيم المهرجان، والفيلم الوثائقي الذي كنت قد أنجزته قبل سنة «ذاكرة مدينة»، وفتحت أمامنا إمكانية واستعدادا لإنجاز فيلم بشكل احترافي. يجب التذكير هنا بأنه إلى حدود هذه الفترة، لم يسبق لي أن حضرت تصوير فيلم أو حتى أن شاهدت كاميرا سينمائية. بعد مدة قصيرة، أرسل لي خوان سيرته والأعمال التي قام بها إلى حدود تلك اللحظة، ففوجئت بأن الرجل له مسار طويل ومن النوع الذي لا يتوقف عن العمل ومعروف، الشيء الذي أحسسته نوعا من التورط في مشروع لا توجد أية شروط لتحقيقه. فلنتورط أكثر، قلت مع نفسي، لأنها الطريقة الوحيدة لجعل الحلم ممكنا. تصادفت هذه الفترة مع فصل الصيف، فقررنا أن نؤجل أنا وعزيز موضوع التمويل وكوابيسه وانكببنا على السيناريو الذي كنا نقتبسه من قصة قصيرة «أفقدك منذ تلك الازهار...» وقصص أخرى لعزيز بلحجام نشرت على صفحات «على الطريق» بجريدة الاتحاد الاشتراكي. سافرت إلى طنجة وتحدثت إلى محمد العبداوي عن مشروعنا، فأخبرني بحماس أنه هو الآخر لديه مشروع فيلم قصير، وطلب مني أن نتصل بمدير التصوير لنرى هل يمكن أن يساعده هو الآخر. قام محمد بالاتصال، وأخبره بأننا أصدقاء وعن طلبه هو الآخر في التعاون معه في إنجاز فيلم، وافق خوان على أساس أن نصور في نفس الفترة نظرا لالتزاماته في أعمال أخرى. اقترح العبداوي أن نركز مجهوداتنا على التصوير فقط، لأنها أصعب مرحلة والأكثر تكلفة والمونتاج نتركه للمرحلة اللاحقة، لأننا على كل حال حتى التصوير يتجاوز طاقتنا، وعلى أساس أن تصوير الفيلمين في نفس الفترة وبنفس الطاقم والمعدات سيجعل التكلفة أقل. ساعدنا كثيرا وجود مداوم الجامعة والوطنية للأندية السينمائية بالمركز السينمائي المغربي رشيد الحبتي ونسجه علاقات مع موظفي وتقنيي المركز السينمائي، الشيء الذي سهل لنا الحصول على المعلومات الضرورية لصنع فيلم كشراء الفيلم الخام والمعدات التقنية والترخيص. كان الاتفاق في البداية على أن نصور بكاميرا 16 ملم، لأنها أقل تكلفة ومعداتها خفيفية. بعد أيام، اتصل بنا مدير التصوير ليخبرنا أنه سيأتي للتحضير على أساس أننا لا يجب أن لا نتأخر في التصوير لأنه ملتزم في أعمال أخرى. بدأ الحلم يتحول إلى واقع، ولكي يتحول إلى واقع فعلي كان علينا في هذه اللحظة أن نؤدي نصيبنا من ثمن تذكرة الطائرة والإقامة، فاضطررت لبيع كاميرا فيديو كانت في حوزتي بنصف ثمنها. جاء خوان وقمنا بزيارة لمواقع التصوير، والحديث عن السيناريو، وعن الأسلوب الذي سأتبعه في الفيلم، وبعد ذلك التحق بنا محمد وسافرنا إلى الرباط لزيارة المركز السينمائي، لأننا كنا نفكر أن نكتري الكاميرا والإضاءة والآليات من هناك. وبعد هذه الزيارة، ألح خوان علينا أن نصور بكاميرا 35 ملم عوض 16 ملم الشيء الذي سيضاعف الميزانية التي لم تكن موجودة أصلا، وكانت حجته أن كاميرا المركز السينمائي في حالة سيئة، وأن التصوير بفيلم 35 ملم يضمن انتشار وحياة أكثر للفيلم، لأن جهاز عرض 35 ملم متوفر في كل مكان. عاد خوان إلى مدريد حيث يسكن في انتظار التصوير، ولاستكمال مصاريف هذا التحضير اضطر عزيز بلحجام إلى بيع حلي أخته. اللقاء بخوان كأول مهني أتعامل معه كان أول فرصة أو لنقل أول امتحان لمعرفة مؤهلاتي لإنجاز فيلم. خرجت من هذا اللقاء بنوع من الثقة لأن النقاش بيني وبين خوان مر بشكل عاد. تحدثت إليه عن ذوقي فيما يخص صورة الفيلم والأشياء والأمكنة التي أرتبط بهما، أعتقد أنني منذ «نسيمة» أهيئ أفلامي بنفس الطريقة. جملة وحيدة قالها خوان ومازالت ترن في ذهني وأعتقد أنها معياري الشخصي والوحيد لأي عمل أقوم به، أو أحاول أن أصل إليه في أعمال الآخرين: يجب أن نستحضر في كل لحظة أن الشاشة في النهاية، بعد كل العمل الذي نقوم به، تعري وتفضح كل شيء.. بل حتى نوايانا الخفية، وهذا ما أضيفه.