بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود صاحب الجلالة الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    مجلس الأمن: بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    ألمانيا.. توجيه اتهامات بالقتل للمشتبه به في هجوم سوق عيد الميلاد    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة        دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    العرائش: الأمين العام لحزب الاستقلال في زيارة عزاء لبيت "العتابي" عضو المجلس الوطني للحزب    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشهد السينمائي بالمغرب

يعتبر المغرب من بين دول العالم القليلة التي حظيت باهتمام من طرف مصوري السينما الأوائل (الأخوان لوميير Frères Lumière)، فبالرجوع إلى سنة 1898 وإلى الألف وثمان مائة فيلم التي تم تصويرها من طرف هؤلاء المصورين في العالم، نجد منها ستين فيلما تهم شمال إفريقيا، بما فيها المغرب ممثلا بفيلم يتيم يحمل عنوان: "راعي الماعز المغربي" Chevrier Marocain الذي يحتل المرتبة 1394 في مجموع هذه الأفلام.
أما فيما يخص أول عرض سينمائي في المغرب، فيمكن الوقوف على أطروحتين: الأطروحة الأولى ترجح تقديم أول عرض سينمائي في سنة 1897 حيث تم عرضه بالقصر الملكي بفاس؛ والفيلم عبارة عن مجموعة من المقاطع القصيرة يبلغ طولها ستة عشر مترا. وقد اعتبره الناقد "جمال الدين ناجي". "أول عرض سينمائي محدود النطاق أي أمام جمهور خاص"
.
في حين يرى الناقد أحمد عرايب أن أول عرض سينمائي يرجع إلى سنة 1912. وهو عرض: "أقيم بمناسبة حضور "الملهى الكبير" إلى فاس في الهواء الطلق. ولم يترك صداه فقط في المائة ألف من السكان بل تجاوزه إلى كل القبائل المجاورة التي حضرت لتشاهد الصور المتحركة" .
وبالمقارنة بين هذين المعطيين، يتضح أن الأمر يخص عرضين سينمائيين وليس عرضا واحدا وذلك لاختلاف طبيعة المتلقي وطبيعة المناسبة. في حين اقتصر العرض الأول على الأسرة الملكية، شمل العرض الثاني جميع الشرائح المغربية بمناسبة شعبية متمثلة في حضور ملهى متجول. غير أن الفرق بينهما يكمن في البعد الزمني الممتد بين 1897 و1912.
إنها نقطة الانطلاقة إذن، التي ولدت الاحتكاك الأول بهذا الفن البصري الذي لم نجد له ذكرا في تراث الأجداد.
إن احتكاك السينما العالمية بالمغرب، لم يكن يبغي خلق تجربة إبداعية مغربية، بل كان فقط استغلالا لطبيعته وتنوعها، فقد اختزل المغرب كله بطاقاته ومؤهلاته في "ديكور" فقط، يقول "أحمد السجلماسي" في هذا الجانب: "عرف المغرب السينما كديكور طبيعي صالح لتصوير كل ما هو غرائبي وغير مألوف للعين الأوروبية" فطبيعة الأفلام المنجزة في المغرب آنذاك، تؤكد هذا المنحى وتجعلنا نعتقد أن المغرب لا يصلح إلا أن يكون ديكورا أو خلفية مكانية للقصص الخيالية والخرافية والغرائبية. هذه السمات نجدها في جل الأفلام الاستعمارية (Cinéma colonial)(*) إلا فيما ندر، ابتداء من أول فيلم روائي صور بالمغرب سنة 1919 وهو فيلم "مكتوب" Mektoub ومرورا بأزيد من خمسين فيلما صورت إلى حدود سنة 1956. وتجدر الإشارة إلى أن هذه السينما لم تنحصر في صيغتها الروائية فقط، بل أنتجت أفلاما وثائقية واستطلاعية. وقد كلفت فرنسا لهذا الغرض فرقة سينمائية عسكرية منذ سنة 1915 بغرض تصوير كل التدخلات العسكرية على الجبهات المغربية. وهي فكرة يرجع مصدرها إلى ما قام به الصحفي-الجزائري المولد والفرنسي الأصل والجنسية- فيليكس ميسكيش Felix Mesguish قبل الحماية، إذ قام بتصوير ومتابعة ورصد أحداث الدار البيضاء سنة 1907. وما قامت به المدفعية الفرنسية من تدمير وتقتيل. هذه الصور التي ستغدو فيما بعد وثيقة حية ضد النظام الفرنسي "الفاشستي".
ونظرا لقوة الفن وشيوعه في أرجاء المعمور، أدرك النظام الفرنسي أهمية هذا الحقل، ومدى تأثيره على المتلقي بصفة عامة والمتلقي المغربي بصفة خاصة، بسبب محدودية فكره وجهله شبه المطلق بخبايا هذا المجال الحيوي، واستخدم هذا الاستنتاج كأسلوب "الأدلجة" الصورة السينمائية وإبراز "عظمة فرنسا". يقول المارشال ليوطي في مذكرة له مؤرخة بيوم 31 دجنبر 1920، محددا المهام التي يجب على جهاز العرض السينمائي أن يلعبها في المغرب: "فلا يمكن أن نشك في النتائج السارة التي يحق لنا أن ننتظرها من استخدام جهاز العرض السينمائي كأداة لتربية محميينا، فالأفلام والمناظر المناسبة ستترك، دون شك، في أذهان المغاربة البكر آثارا عميقة بخصوص حيوية وقوة وثروة فرنسا، وإدراك وسائل عملها والأدوات التي تصنعها وجمال مناظرها ومنتجاتها" .
ولتحقيق هذا الغرض، سارعت فرنسا إلى إنشاء مجموعة من القاعات السينمائية في عدة أقاليم استراتيجية كفاس والرباط والدار البيضاء.. هذه الأخيرة التي احتوت وحدها أربع قاعات سينمائية كبرى منذ سنة 1915 .
وإلى جانب هذه الحركة الفنية "المؤدلجة" والتي شملت المدن الكبرى فقط، عرفت البوادي المغربية هي الأخرى حركة مماثلة مع اختلاف بسيط، حيث جندت لهذه المناطق البعيدة قوافل سينمائية مع مطلع الثلاثينيات تعرض الإنتاجات السينمائية الفرنسية والبرامج التخديرية التي تمجد عظمة فرنسا ونبل رسالتها الاستعمارية. إلا أنه بالرغم من ذلك، نجد أن هذه المرحلة لم تخل من بعد إيجابي تمثل في وجود إرهاصات مهمة تستهدف تغيير الوضع الثقافي البصري السلبي السائد، وظهور بوادر صناعة سينمائية أساسية تستهدف خلق سينما بالمغرب. ومن البوادر الهادفة: افتتاح المخابر Laboratoires الأولى لتحميض الأفلام كمخبر شركة Cinéphone بالبيضاء سنة 1939 ومخابر وستيدو stuel بالرباط سنة 1944. وفي نفس السنة أيضا تم افتتاح "المركز السينمائي المغربي" و"مصلحة السينما" وإنشاء استيديو السويسي بظهير 8/1/1944 وقد كانت المهمة الموكولة إليهما، قانونيا، كما وردت في وثائق "م،س،م" تتلخص في كون: "مصلحة السينما هي مجرد مصلحة إدارية، كلفت باتخاذ التدابير أو ضمان تنفيذ التدابير المتعلقة بالإنتاج السينمائي، وتنظيم المقاولات السينمائية ونظام العروض السينمائية (رخص ممارسة المهنة). أما المركز السينمائي المغربي فهو مؤسسة عمومية تتمتع بشخصية مدنية وبالاستقلال المالي. وهدفه هو "إنتاج وتوزيع وعرض الأفلام السينمائية" . غير أنه قد تم دمج المصلحة السينمائية بالمركز بقرار وزاري مؤرخ ب7 نونبر 1948 . وإذا كان المستعمر يرمي من وراء تفعيل البنية السينمائية التحتية تسهيل إلى مأموريته الاستعمارية، فإن ذلك التفعيل قد حمل في طياته أيضا إيجابيات؛ أبسطها شيوع وتكريس الرغبة في مشاهدة صورة سينمائية بمتخيل محلي وممثلين مغاربة. يقول مصطفى الداشي: "وابتداء من سنة 1948، وبإيعاز من المركز السينمائي المغربي، كان الإنتاج المحلي يتم بمبادرة من السلطات العمومية. وعمليا، ابتداء من هذا التاريخ أنتج(80) شريطا قصيرا وشريطا واحدا مطولا "طبيب رغم أنفه" للمخرج هنري جاك Henry Jacques هذا إضافة إلى ظهور بعض الإنتاجات السينمائية المتميزة التي كان للمغرب دور فيها بغض النظر عن كونه ديكور لها، كالمساهمات التي قام بها بعض الممثلين المغاربة أمثال محمد بن رحال وأحمد الوالي في فيلم MELUKA DIEROSE VON سنة 1932 والممثل مولاي إبراهيم بنبريك في فيلم ITTO سنة 1934.
إضافة إلى أن هناك بعض الأفلام التي أعطت الفرصة لأطر مغربية خاصة في فيلم "الباب السابع" و"عرس الرمال"(*) للمخرج السينمائي أندري زوبودا André Zwovoda وكذا فيلم "عطيل" Othello للمخرج أرسون ويلز Orson Welles الذي تمكن من تمثيل المغرب في أكبر التظاهرات السينمائية في العالم وهي مهرجان "كان السينمائي" Cannes وحصل على إثر مشاركته على السعفة الذهبية سنة 1952.
ورغم أن الجدال يبقى قائما ومفتوحا حول مشروعية انتساب مثل هذه الأفلام الاستعمارية إلى المغرب أو عدمها –علما أن الفيلم ينتمي إلى البلاد المنتجة شكلا ومضمونا وتوجها واستهلاكا. ولا يمكن نسبه، كما يقول إدريس كرم: "إلى العمل الوطني لمجرد أنه أنتج على أرض الوطن أو على أيدي مواطني هذا الوطن"- فإن أهمية مثل هذه الأفلام تكمن في إذكائها لروح الاستقلالية وتحسيس الرأي العام الثقافي بضرورة الالتفات إلى دور السينما في بناء الحضارات، إذ أنها لا تقل شأنا عن ما قد تلعبه باقي الفنون الهادفة الأخرى كالشعر والنثر والمسرح..
لم يكن الحصول على الاستقلال السياسي في المغرب، عصا سحرية تمكن من تحقيق المبتغى المنشود وهو خلق سينما وطنية حقيقية، أو في أحسن الأحوال تأسيس البنية التحتية المحفزة للإقلاع السينمائي.
فإذا كانت حصيلة الأجهزة السينمائية قبيل الاستقلال والمتمثلة في شركات التوزيع ومخابر التحميض واستوديوهات التصوير وغيرها، باعتبارها لبنات تؤسس البنية التحتية لهذا القطاع-، قد تمكنت بالفعل من أن تثير الانتباه إلى ضرورة الاهتمام بهذا الفن الحضاري، فالبنية الفوقية المتكونة –على أغلب تقدير-، من ثلاثة مخرجين سينمائيين(*)، لم تستطع أن تحمل مشعل التحدي لتضيء ما وفرته البنية التحتية من تجهيزات، ولم تتمكن أيضا من نشر ثقافة سينمائية تستهدف خلق وفاق بين السينما باعتبارها فنا دخيلا، وبين المجتمع المغربي بعقليته الدينية وبحذره ومناعته ضد الآخر كدخيل غربي.
أمام هذا الوضع، كان من الضروري التفكير في إنشاء بنية سينمائية متكاملة. لذا كان أول ما قام به "المركز السينمائي المغربي"، هو إرسال بعثات طلابية حسب حاجياته إلى كل من فرنسا وبولونيا، على الخصوص، قصد تلقي تكوين سينمائي يفي بغرض المركز السينمائي. غير أن هؤلاء الطلبة/الرعيل الأول للسينمائيين المغاربة لم يجدوا أمامهم بعد رجوعهم، سوى وظائف المركز السينمائي المغربي. يقول "عبد الله الزروالي"، -وهو من الرعيل الثاني للسينمائيين المغاربة ذوي التكوين السينمائي الفرنسي- معربا عن خيبته بعد العودة: "في إطار المركز، كنا نعد الأنباء المصورة وننجز الأشرطة القصيرة المطلوبة من طرف الإدارات العمومية. ولا بد هنا من الإشارة إلى الصدمة التي أصابتنا من جراء التناقض الذي عشناه بعد عودتنا من الخارج. لقد كان تكويننا السينمائي شاملا (الإخراج، المونطاج، التصوير..) بالقدر الذي نمى فينا طموح إنجاز أشرطة طويلة روائية.. لكن إطار المركز السينمائي آنذاك والانعدام المطلق للسوق السينمائية، كلها شروط لم تكن لتسمح لنا بتحقيق أحلامنا وطموحاتنا الكبيرة" . من خلال النص/الشهادة، نستنتج أن السينما بالمغرب (الأفلام الوثائقية والقصيرة) كانت سينما تحت الطلب، إنجازا مرحليا يلبي رغبة الإدارات العمومية وغيرها، لاغيا من اعتباراته الطلب الحضاري الإبداعي والجمالي. كما نستنتج أيضا، أن طبيعة العمل السينمائي الأول لهؤلاء الطلبة الذي انحصر بكل ثقله في تصوير النشرات الإخبارية وإنجاز أفلام قصيرة متنوعة تاريخيا (مائة وخمسون 150) شريطا ما بين 1956 و1970 كان بمثابة الحقل التجريبي الذي مارس فيه السينمائيون المغاربة ما تلقوه من نظريات سينمائية، بغض النظر عن طبيعة هذه التجارب وقيمتها الفنية. في هذا الصدد يقول محمد التازي: "ولأنها" (الأفلام القصيرة) كانت تحت الطلب، ولم تكن بالنسبة لنا عملا إبداعيا خالصا، فإننا اعتبرنا أنفسنا آنذاك نمارس ما يسمى ب"حرق الأشرطة" وبموازاة ذلك كنا نطالب بتوفير الإمكانيات التي ستمكننا من إنجاز الأشرطة الطويلة" .
إن كل حديث عن السينما بالمغرب بعد الاستقلال، سرعان ما يطرح فكرة الانطلاقة الحقيقية لهذه السينما، بمنأى عن الرأي القائل بعدم وجود بداية حقيقية على الإطلاق. وفكرة التحديد الزمني والفني لانطلاقة السينما بالمغرب باتت إلى عهد قريب تشغل عددا كبيرا من الأقلام الصحفية وغيرها، وأبدى عدد النقاد والسينمائيين رأيه فيها، فكثرت التحديدات وتعددت، وكثرت معها زوايا النظر.
وهكذا يمكن القول، إن الخوض في غمار إشكالية تحديد بداية السينما بالمغرب، هو نوع من المغامرة التي تستدعي تحديدا إجرائيا ودقيقا لهذه السينما. فمفهوم هذه الأخيرة، مفهوم زئبقي يتماشى وكافة الطروحات التي تكون الظاهرة السينمائية.. فالمنتج لا يرى في السينما إلا صورتها التجارية، بغض النظر عن جل الخصوصيات الأخرى. وبداية السينما، بالنسبة إليه، لن تكون سوى تلك الأفلام التي حققت رواجا واسعا. أما المخرج السينمائي الجاد والمبدع، فيرى السينما وسيلة تعبير خلاقة، ويعتبر بداية السينما الحقيقية هي تلك الأفلام السينمائية التعبيرية التي أجادت في استعمال الصورة والصوت واستطاعت أن تحقق ما يسمى ب"جمالية السينما".. وإذا ذهبنا وراء هذه الطروحات المعبر عنها والمحكومة حتما بذاتية المبدع ورؤيته الجمالية الخاصة، سنصل، لا محالة، إلى مجموعة كبيرة من البدايات.
فما هو المقياس الذي يجب الاعتماد عليه لتصنيف هذه البدايات؟
إن الأخذ بمفهوم "الوظيفة السينمائية" الذي يعد من بين أهم الطروحات النظرية التي ساعدت على استقلال السينما عن باقي الفنون، وكذا الأخذ بعين الاعتبار بروز تيارات سينمائية سعت إلى ربط هذه السينما بالواقع، سيمكننا على الأقل، من اعتماد مقياس لا يختلف اثنان حوله في تحديد اتجاه الشريط سينمائيا، ويمكن الوقوف على بعض ملامح هذا المقياس السينمائي مع ألكسندر كاراغانوف Alexandre Karaganov في قوله: "لا يمكن النظر إلى السينما باعتبارها مجرد "فن تخطيطي" أو نوع من البهلوانية الفنية على حبال سيرك الأفكار تتأرجح في اتجاه. فالفن الحق لا يمكن أن يعيش إلا في تربة التفاعل والتكافل ما بين الموضوع والذات ولا يغدو الفن فنا إذا انعزل عن الموضوع.. عن الواقع" والأخذ بهذا النمط السينمائي، يسقط من حسابنا تلك البدايات الهشة التي تفتقر إلى بديهيات الفن السينمائي، أو تلك التي خضعت في إنتاجها إلى طلب خاص من جهات مختصة أو غيرها.
على ضوء ما سبق نستنتج وجود نوعين سينمائيين بالمغرب، وهما: السينما الإعلامية والسينما الروائية.
1 – السينما الإعلامية:
لقد عرف المغرب في مرحلة الاستقلال ظروفا سانحة لإنجاز سينما إعلامية كاستمرار للجهود التي أنشئ من أجلها المركز السينمائي المغربي، وكذا كسد للفراغ الإعلامي البصري الذي كان يعاني منه المغرب. لهذه الأسباب اتجهت سياسة المركز نحو إنجاز وسيلتين إعلاميتين وهما: الجريدة المصورة، والأفلام القصيرة الإعلامية.
1-1-الجريدة المصورة:
إذا كان جهاز الراديو قد لعب ولا زال أدوارا طلائعية في ربط الشرق بالغرب والجنوب بالشمال، والسعي نحو تحقيق مقولة "العالم قرية صغيرة"، فجهاز السينما –باعتباره أشد وأقوى الوسائل الإعلامية المصورة والمسموعة آنذاك- وظف، هو الآخر، في تمتين هذا الروابط، خاصة وأن السينما منذ ظهورها عرفت شعبية واسعة، وتأثيرا قويا، نظرا لإعلامها البصري، وطقوس فرجتها المؤثرة سيكولوجيا على نفسية المتلقي. وإذا كان المركز السينمائي المغربي يلعب دور الموزع لهذه الجرائد المصورة التي كانت تنقل أهم أخبار العالم مع التركيز على الأخبار الفرنسية، فقد أصبح مع منتصف سنة 1958 منتجا لها أسبوعيا . محاولا بذلك تغطية أخبار المملكة المغربية الفتية، والعمل على توزيعها على جميع القاعات السينمائية بالمملكة مجانا.
و"الجريدة المصورة" هي وصلة إعلامية تهتم بالإعلام الداخلي والخارجي، لا تزيد مدتها الزمنية على خمس عشرة دقيقة. تقدم للمشاهد في قاعات العرض في بداية الحصة السينمائية المقررة، خاصة إذا علمنا ضيق رقعة انتشار جهاز التلفاز في تلك المرحلة. من هذا المنطلق يمكن القول، إن السينما الإعلامية لعبت دورا إعلاميا هاما في هذا الجانب، حيث تمكنت من المساهمة في دعم ركائز الاستقلال بتتبع أخبار القصر والحكومة بصريا، وكذا في التعريف بأهم الأحداث التاريخية الداخلية والخارجية. لكنها تبقى بعيدة كل البعد عن الإبداع السينمائي، والوظيفة الاجتماعية والاستطيقية والحضارية التي أبرزت قوة هذا الفن وقيمته.
2-1-الأفلام القصيرة:
إن المقصود بالأفلام القصيرة، هو ذلك الكم الهائل من الأشرطة السينمائية القصيرة التي عكف المركز السينمائي المغربي على إنتاجها بطلب من مجموعة من الإدارات العمومية، كوزارة الصحة والتعليم والشبيبة والرياضة.. وغيرها. وهي –كما يبدو- أشرطة إعلامية تبغي الإدارة من ورائها الوصول إلى المتلقي/القروي خاصة، الذي يصعب الاتصال به عن طريق وسائل إعلامية أخرى كالتلفزة. تقول جريدة "أصداء المغرب": "يعتبر شريط "القوات المسلحة الملكية" وشريط "صديقتنا المدرسة" من الأشرطة القصيرة الأولى التي أنتجها (م.س.م) بعد استقلال المغرب" . وقد توالت عملية إنتاج الأشرطة القصيرة، حيث بلغت في ظرف لا يزيد عن خمس عشرة سنة –كما سبق الذكر- مائة وخمسين(150) شريطا تتراوح بين الناطق بالعربية والفرنسية .. وهو إنتاج مهم جدا كما يبدو بالمقارنة مع رصيد سينما الأفلام الروائية الطويلة.
كما أن أهمية هذه الأشرطة –خاصة الإبداعية منها- تظهر فيما منحته للمخرج السينمائي المغربي من فرص لتقويم وتقييم ما تلقاه في دراساته السينمائية النظرية بالخارج، حيث يمكن اعتبارها بمثابة التمارين الأولى للسينمائيين المغاربة. لكن هذه التمارين في غالبيتها، لم تكن موفقة. يقول محمد التازي في هذا الصدد: "ولأنها كانت تحت الطلب لم تكن بالنسبة لنا عملا إبداعيا خالصا".
ولهذه الأسباب أيضا فقد اتسمت هذه الأفلام على حد قول المخرج مومن السميحي: "بفلكلورية الاتجاه وقومية النفس وعفوية الشكل (وهي) ذات شاعرية بدائية تنحصر في نطاق المقولة الدعائية السياسية الرسمية، يطغى عليها الغرور القومي أحيانا وأحيانا أخرى تؤكد بوضوح أن لا منظور لها إلا من زاوية الإثنوغرافية الاستعمارية الموروثة عن المعمر..(تقنيا) يتلاعب بالألوان والوجوه والديكورات وخليط من الأسباب" .
هكذا يمكن القول تجاوزا، إن الاستعمال الأول للكاميرا السينمائية والستار الفضي بالمغرب بعد الاستقلال كان خاصا بالأفلام الإعلامية والوثائقية بامتياز. هذه الأفلام لم تواكبها حركة نقدية سينمائية؛ لأنها لم تكن موجهة إلى المتلقي بهدف المعرفة الجمالية أو التذوق الفني، بل كان الإعلام والاتصال هو هاجسها الأول والأخير.
2 – السينما الروائية:
إن الإرهاصات الأولية للسينما الروائية بالمغرب، يمكن تلمسها من خلال بعض الأفلام القصيرة التي اعتمدت منطق الحكي السينمائي، مركزة في ذلك على مبادئ وخصوصيات الظاهرة السينمائية من سيناريو وإضاءة وديكور وإخراج.. غير أن الجزم النهائي في تحديد بداية لهذه السينما عرف جدلا واسعا، خاصة فيما يتعلق بطبيعة الأفلام التي تستحق أن تحمل مشعل الريادة لهذه السينما.
وإذا كان السينمائي المغربي محمد عصفور(*) قد تمكن من مزاولة السينما في صورتها البدائية منذ وقت مبكر جدا، فهذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، الإجماع على أن ما قام به يعد البداية الحقيقية للسينما بالمغرب. فبالنظر إلى أعمال هذا العاشق للسينما نظرة منطقية، نستنتج أنه لا يمكن لأعماله إلا أن تصنف في خانة السينمائي الهاوي الذي يبحث عن منفذ لإرضاء نفسه ولإشباع فضوله. فعشقه الجارف للسينما، رغم ضعف إمكانياته المادية والمعنوية، مكنته من وضع بصمة مشرفة له في تاريخ السينما بالمغرب، لكنها لم تمكنه من تبني البداية الحقيقية لهذه السينما. خاصة، إذا علمنا، أن جل أعماله في هذا الميدان أيضا لم تخرج بتاتا عن محاكاة باهتة للنماذج السينمائية الغربية على نحو سينما "رعاة البقر"، "طرزان"، "الكراتيه"، "الدراما الهندية". ورغم هذا وذاك فإن أعمال محمد عصفور السينمائية لا يمكن للباحث في الميدان السينمائي تجاوزها، فهي أعمال تمكنت من فتح باب النقاش على صعيد الساحة النقدية المغربية، فهناك من النقاد من ينتقد أعمال محمد عصفور ويعدد ثغراتها وهزالها.. وهذا رأي لا يخلو من صواب، إلا أنه يخطئ في محاكمة أعمال هذا المبدع السينمائية بمعزل عن واقعها التاريخي الذي نشأت فيه. إن هذا الرأي يعتمد في مقاربة أعمال عصفور التأسيسية والبسيطة على آليات معرفية حديثة، ومفاهيم نقدية سينمائية متقدمة مستقاة من روائع السينما العالمية. يقول إدريس القري في هذا السياق: "من الممكن الحديث عن أشرطة مغربية جيدة ومتميزة، إلا أن هذه الجودة وهذا التمييز لا يمكن تحديد طابعهما النسبي إلا باستحضار السياق الموضوعي والذاتي الذي تم إنجازها في إطاره" ومن النقاد المغاربة من يذهب أبعد من ذلك بخصوص تجربة محمد عصفور السينمائية وينفي عنها كليا قصب السبق، كما هو الحال بالنسبة لأحمد عرايب الذي يقول: "ومن أجل الحقيقة التاريخية نؤكد على أن السينمائي أحمد المسناوي قام بإنجاز شريط سينمائي روائي سنة 1939 مقاس 16 ملم، وقد باع كاميرا 16 ملم لمحمد عصفور. وفي جميع الحالات لا يمكن اعتبار عصفور أول سينمائي، لأن هناك أبحاثا تعارض هذا الطرح" .
واستنادا في هذا الصدد إلى استطلاع للرأي قامت به جريدة الاتحاد الاشتراكي حول بداية السينما المغربية وخاصة السؤال الرابع من أسئلة الاستمارة "مع أي شريط مغربي كانت البداية الحقيقية للسينما المغربية؟"، نستطيع الاطلاع على آراء عينة اجتماعية يمكن اعتبارها بمثابة الفئة المثقفة سينمائيا، أو كما جاء في نص الاستطلاع: "جمهورا ليس من المستبعد أن يكون (هو) نفس الشرائح التي تنخرط عادة في الأندية السينمائية أو من المكلفين في هذا النادي أو ذاك على الرغم من أن هذه ليست قاعدة ثابتة" .
وهذه العينة الاجتماعية تتكون بالأساس من 36% من الطلبة و33% من المعلمين و31% من الأساتذة وهي، كما يبدو نسبيا، متقاربة في المستوى الثقافي.
ويمكن اختزال نتائج هذا الاستطلاع في الجدول التالي:
شريط الانطلاقة الحقيقية للسينما بالمغرب النسبة المئوية المحصل عليها
شريط "وشمة" 50%
شريط "ألف يد ويد" 15%
"القنفودي" 5%
"شمس الربيع" 5%
"ابن السبيل" 5%
"بدون رأي" 20%
من خلال هذه النتائج، نلمس وبشكل جلي، صعوبة الإجابة الحاسمة عن سؤال البداية الحقيقية للسينما المغربية. وهي صعوبة ترجع بالتأكيد إلى حداثة العهد بالنسبة للنقد السينمائي بالمغرب، وضعف إمكانياته المعرفية الكفيلة بدراسة الموضوع دراسة علمية، لإعطاء نتائج معللة، إن لم نقل حاسمة ونهائية. وإذا كانت أعلى النسب المئوية ترجح فيلم "وشمة" لهذه البداية، فلا يمكن بالمرة تجاهل النسبة المئوية العالية كذلك للعينة الاجتماعية التي أبدت تحفظها في الاختيار. وهذا من شأنه أن يبقي استفهام البداية معلقا وملازما أبديا للسينما المغربية.
الدكتور عز العرب العلوي لمحارزي
يعتبر المغرب من بين دول العالم القليلة التي حظيت باهتمام من طرف مصوري السينما الأوائل (الأخوان لوميير Frères Lumière)، فبالرجوع إلى سنة 1898 وإلى الألف وثمان مائة فيلم التي تم تصويرها من طرف هؤلاء المصورين في العالم، نجد منها ستين فيلما تهم شمال إفريقيا، بما فيها المغرب ممثلا بفيلم يتيم يحمل عنوان: "راعي الماعز المغربي" Chevrier Marocain الذي يحتل المرتبة 1394 في مجموع هذه الأفلام.
أما فيما يخص أول عرض سينمائي في المغرب، فيمكن الوقوف على أطروحتين: الأطروحة الأولى ترجح تقديم أول عرض سينمائي في سنة 1897 حيث تم عرضه بالقصر الملكي بفاس؛ والفيلم عبارة عن مجموعة من المقاطع القصيرة يبلغ طولها ستة عشر مترا. وقد اعتبره الناقد "جمال الدين ناجي". "أول عرض سينمائي محدود النطاق أي أمام جمهور خاص"
.
في حين يرى الناقد أحمد عرايب أن أول عرض سينمائي يرجع إلى سنة 1912. وهو عرض: "أقيم بمناسبة حضور "الملهى الكبير" إلى فاس في الهواء الطلق. ولم يترك صداه فقط في المائة ألف من السكان بل تجاوزه إلى كل القبائل المجاورة التي حضرت لتشاهد الصور المتحركة" .
وبالمقارنة بين هذين المعطيين، يتضح أن الأمر يخص عرضين سينمائيين وليس عرضا واحدا وذلك لاختلاف طبيعة المتلقي وطبيعة المناسبة. في حين اقتصر العرض الأول على الأسرة الملكية، شمل العرض الثاني جميع الشرائح المغربية بمناسبة شعبية متمثلة في حضور ملهى متجول. غير أن الفرق بينهما يكمن في البعد الزمني الممتد بين 1897 و1912.
إنها نقطة الانطلاقة إذن، التي ولدت الاحتكاك الأول بهذا الفن البصري الذي لم نجد له ذكرا في تراث الأجداد.
إن احتكاك السينما العالمية بالمغرب، لم يكن يبغي خلق تجربة إبداعية مغربية، بل كان فقط استغلالا لطبيعته وتنوعها، فقد اختزل المغرب كله بطاقاته ومؤهلاته في "ديكور" فقط، يقول "أحمد السجلماسي" في هذا الجانب: "عرف المغرب السينما كديكور طبيعي صالح لتصوير كل ما هو غرائبي وغير مألوف للعين الأوروبية" فطبيعة الأفلام المنجزة في المغرب آنذاك، تؤكد هذا المنحى وتجعلنا نعتقد أن المغرب لا يصلح إلا أن يكون ديكورا أو خلفية مكانية للقصص الخيالية والخرافية والغرائبية. هذه السمات نجدها في جل الأفلام الاستعمارية (Cinéma colonial)(*) إلا فيما ندر، ابتداء من أول فيلم روائي صور بالمغرب سنة 1919 وهو فيلم "مكتوب" Mektoub ومرورا بأزيد من خمسين فيلما صورت إلى حدود سنة 1956. وتجدر الإشارة إلى أن هذه السينما لم تنحصر في صيغتها الروائية فقط، بل أنتجت أفلاما وثائقية واستطلاعية. وقد كلفت فرنسا لهذا الغرض فرقة سينمائية عسكرية منذ سنة 1915 بغرض تصوير كل التدخلات العسكرية على الجبهات المغربية. وهي فكرة يرجع مصدرها إلى ما قام به الصحفي-الجزائري المولد والفرنسي الأصل والجنسية- فيليكس ميسكيش Felix Mesguish قبل الحماية، إذ قام بتصوير ومتابعة ورصد أحداث الدار البيضاء سنة 1907. وما قامت به المدفعية الفرنسية من تدمير وتقتيل. هذه الصور التي ستغدو فيما بعد وثيقة حية ضد النظام الفرنسي "الفاشستي".
ونظرا لقوة الفن وشيوعه في أرجاء المعمور، أدرك النظام الفرنسي أهمية هذا الحقل، ومدى تأثيره على المتلقي بصفة عامة والمتلقي المغربي بصفة خاصة، بسبب محدودية فكره وجهله شبه المطلق بخبايا هذا المجال الحيوي، واستخدم هذا الاستنتاج كأسلوب "الأدلجة" الصورة السينمائية وإبراز "عظمة فرنسا". يقول المارشال ليوطي في مذكرة له مؤرخة بيوم 31 دجنبر 1920، محددا المهام التي يجب على جهاز العرض السينمائي أن يلعبها في المغرب: "فلا يمكن أن نشك في النتائج السارة التي يحق لنا أن ننتظرها من استخدام جهاز العرض السينمائي كأداة لتربية محميينا، فالأفلام والمناظر المناسبة ستترك، دون شك، في أذهان المغاربة البكر آثارا عميقة بخصوص حيوية وقوة وثروة فرنسا، وإدراك وسائل عملها والأدوات التي تصنعها وجمال مناظرها ومنتجاتها" .
ولتحقيق هذا الغرض، سارعت فرنسا إلى إنشاء مجموعة من القاعات السينمائية في عدة أقاليم استراتيجية كفاس والرباط والدار البيضاء.. هذه الأخيرة التي احتوت وحدها أربع قاعات سينمائية كبرى منذ سنة 1915 .
وإلى جانب هذه الحركة الفنية "المؤدلجة" والتي شملت المدن الكبرى فقط، عرفت البوادي المغربية هي الأخرى حركة مماثلة مع اختلاف بسيط، حيث جندت لهذه المناطق البعيدة قوافل سينمائية مع مطلع الثلاثينيات تعرض الإنتاجات السينمائية الفرنسية والبرامج التخديرية التي تمجد عظمة فرنسا ونبل رسالتها الاستعمارية. إلا أنه بالرغم من ذلك، نجد أن هذه المرحلة لم تخل من بعد إيجابي تمثل في وجود إرهاصات مهمة تستهدف تغيير الوضع الثقافي البصري السلبي السائد، وظهور بوادر صناعة سينمائية أساسية تستهدف خلق سينما بالمغرب. ومن البوادر الهادفة: افتتاح المخابر Laboratoires الأولى لتحميض الأفلام كمخبر شركة Cinéphone بالبيضاء سنة 1939 ومخابر وستيدو stuel بالرباط سنة 1944. وفي نفس السنة أيضا تم افتتاح "المركز السينمائي المغربي" و"مصلحة السينما" وإنشاء استيديو السويسي بظهير 8/1/1944 وقد كانت المهمة الموكولة إليهما، قانونيا، كما وردت في وثائق "م،س،م" تتلخص في كون: "مصلحة السينما هي مجرد مصلحة إدارية، كلفت باتخاذ التدابير أو ضمان تنفيذ التدابير المتعلقة بالإنتاج السينمائي، وتنظيم المقاولات السينمائية ونظام العروض السينمائية (رخص ممارسة المهنة). أما المركز السينمائي المغربي فهو مؤسسة عمومية تتمتع بشخصية مدنية وبالاستقلال المالي. وهدفه هو "إنتاج وتوزيع وعرض الأفلام السينمائية" . غير أنه قد تم دمج المصلحة السينمائية بالمركز بقرار وزاري مؤرخ ب7 نونبر 1948 . وإذا كان المستعمر يرمي من وراء تفعيل البنية السينمائية التحتية تسهيل إلى مأموريته الاستعمارية، فإن ذلك التفعيل قد حمل في طياته أيضا إيجابيات؛ أبسطها شيوع وتكريس الرغبة في مشاهدة صورة سينمائية بمتخيل محلي وممثلين مغاربة. يقول مصطفى الداشي: "وابتداء من سنة 1948، وبإيعاز من المركز السينمائي المغربي، كان الإنتاج المحلي يتم بمبادرة من السلطات العمومية. وعمليا، ابتداء من هذا التاريخ أنتج(80) شريطا قصيرا وشريطا واحدا مطولا "طبيب رغم أنفه" للمخرج هنري جاك Henry Jacques هذا إضافة إلى ظهور بعض الإنتاجات السينمائية المتميزة التي كان للمغرب دور فيها بغض النظر عن كونه ديكور لها، كالمساهمات التي قام بها بعض الممثلين المغاربة أمثال محمد بن رحال وأحمد الوالي في فيلم MELUKA DIEROSE VON سنة 1932 والممثل مولاي إبراهيم بنبريك في فيلم ITTO سنة 1934.
إضافة إلى أن هناك بعض الأفلام التي أعطت الفرصة لأطر مغربية خاصة في فيلم "الباب السابع" و"عرس الرمال"(*) للمخرج السينمائي أندري زوبودا André Zwovoda وكذا فيلم "عطيل" Othello للمخرج أرسون ويلز Orson Welles الذي تمكن من تمثيل المغرب في أكبر التظاهرات السينمائية في العالم وهي مهرجان "كان السينمائي" Cannes وحصل على إثر مشاركته على السعفة الذهبية سنة 1952.
ورغم أن الجدال يبقى قائما ومفتوحا حول مشروعية انتساب مثل هذه الأفلام الاستعمارية إلى المغرب أو عدمها –علما أن الفيلم ينتمي إلى البلاد المنتجة شكلا ومضمونا وتوجها واستهلاكا. ولا يمكن نسبه، كما يقول إدريس كرم: "إلى العمل الوطني لمجرد أنه أنتج على أرض الوطن أو على أيدي مواطني هذا الوطن"- فإن أهمية مثل هذه الأفلام تكمن في إذكائها لروح الاستقلالية وتحسيس الرأي العام الثقافي بضرورة الالتفات إلى دور السينما في بناء الحضارات، إذ أنها لا تقل شأنا عن ما قد تلعبه باقي الفنون الهادفة الأخرى كالشعر والنثر والمسرح..
لم يكن الحصول على الاستقلال السياسي في المغرب، عصا سحرية تمكن من تحقيق المبتغى المنشود وهو خلق سينما وطنية حقيقية، أو في أحسن الأحوال تأسيس البنية التحتية المحفزة للإقلاع السينمائي.
فإذا كانت حصيلة الأجهزة السينمائية قبيل الاستقلال والمتمثلة في شركات التوزيع ومخابر التحميض واستوديوهات التصوير وغيرها، باعتبارها لبنات تؤسس البنية التحتية لهذا القطاع-، قد تمكنت بالفعل من أن تثير الانتباه إلى ضرورة الاهتمام بهذا الفن الحضاري، فالبنية الفوقية المتكونة –على أغلب تقدير-، من ثلاثة مخرجين سينمائيين(*)، لم تستطع أن تحمل مشعل التحدي لتضيء ما وفرته البنية التحتية من تجهيزات، ولم تتمكن أيضا من نشر ثقافة سينمائية تستهدف خلق وفاق بين السينما باعتبارها فنا دخيلا، وبين المجتمع المغربي بعقليته الدينية وبحذره ومناعته ضد الآخر كدخيل غربي.
أمام هذا الوضع، كان من الضروري التفكير في إنشاء بنية سينمائية متكاملة. لذا كان أول ما قام به "المركز السينمائي المغربي"، هو إرسال بعثات طلابية حسب حاجياته إلى كل من فرنسا وبولونيا، على الخصوص، قصد تلقي تكوين سينمائي يفي بغرض المركز السينمائي. غير أن هؤلاء الطلبة/الرعيل الأول للسينمائيين المغاربة لم يجدوا أمامهم بعد رجوعهم، سوى وظائف المركز السينمائي المغربي. يقول "عبد الله الزروالي"، -وهو من الرعيل الثاني للسينمائيين المغاربة ذوي التكوين السينمائي الفرنسي- معربا عن خيبته بعد العودة: "في إطار المركز، كنا نعد الأنباء المصورة وننجز الأشرطة القصيرة المطلوبة من طرف الإدارات العمومية. ولا بد هنا من الإشارة إلى الصدمة التي أصابتنا من جراء التناقض الذي عشناه بعد عودتنا من الخارج. لقد كان تكويننا السينمائي شاملا (الإخراج، المونطاج، التصوير..) بالقدر الذي نمى فينا طموح إنجاز أشرطة طويلة روائية.. لكن إطار المركز السينمائي آنذاك والانعدام المطلق للسوق السينمائية، كلها شروط لم تكن لتسمح لنا بتحقيق أحلامنا وطموحاتنا الكبيرة" . من خلال النص/الشهادة، نستنتج أن السينما بالمغرب (الأفلام الوثائقية والقصيرة) كانت سينما تحت الطلب، إنجازا مرحليا يلبي رغبة الإدارات العمومية وغيرها، لاغيا من اعتباراته الطلب الحضاري الإبداعي والجمالي. كما نستنتج أيضا، أن طبيعة العمل السينمائي الأول لهؤلاء الطلبة الذي انحصر بكل ثقله في تصوير النشرات الإخبارية وإنجاز أفلام قصيرة متنوعة تاريخيا (مائة وخمسون 150) شريطا ما بين 1956 و1970 كان بمثابة الحقل التجريبي الذي مارس فيه السينمائيون المغاربة ما تلقوه من نظريات سينمائية، بغض النظر عن طبيعة هذه التجارب وقيمتها الفنية. في هذا الصدد يقول محمد التازي: "ولأنها" (الأفلام القصيرة) كانت تحت الطلب، ولم تكن بالنسبة لنا عملا إبداعيا خالصا، فإننا اعتبرنا أنفسنا آنذاك نمارس ما يسمى ب"حرق الأشرطة" وبموازاة ذلك كنا نطالب بتوفير الإمكانيات التي ستمكننا من إنجاز الأشرطة الطويلة" .
إن كل حديث عن السينما بالمغرب بعد الاستقلال، سرعان ما يطرح فكرة الانطلاقة الحقيقية لهذه السينما، بمنأى عن الرأي القائل بعدم وجود بداية حقيقية على الإطلاق. وفكرة التحديد الزمني والفني لانطلاقة السينما بالمغرب باتت إلى عهد قريب تشغل عددا كبيرا من الأقلام الصحفية وغيرها، وأبدى عدد النقاد والسينمائيين رأيه فيها، فكثرت التحديدات وتعددت، وكثرت معها زوايا النظر.
وهكذا يمكن القول، إن الخوض في غمار إشكالية تحديد بداية السينما بالمغرب، هو نوع من المغامرة التي تستدعي تحديدا إجرائيا ودقيقا لهذه السينما. فمفهوم هذه الأخيرة، مفهوم زئبقي يتماشى وكافة الطروحات التي تكون الظاهرة السينمائية.. فالمنتج لا يرى في السينما إلا صورتها التجارية، بغض النظر عن جل الخصوصيات الأخرى. وبداية السينما، بالنسبة إليه، لن تكون سوى تلك الأفلام التي حققت رواجا واسعا. أما المخرج السينمائي الجاد والمبدع، فيرى السينما وسيلة تعبير خلاقة، ويعتبر بداية السينما الحقيقية هي تلك الأفلام السينمائية التعبيرية التي أجادت في استعمال الصورة والصوت واستطاعت أن تحقق ما يسمى ب"جمالية السينما".. وإذا ذهبنا وراء هذه الطروحات المعبر عنها والمحكومة حتما بذاتية المبدع ورؤيته الجمالية الخاصة، سنصل، لا محالة، إلى مجموعة كبيرة من البدايات.
فما هو المقياس الذي يجب الاعتماد عليه لتصنيف هذه البدايات؟
إن الأخذ بمفهوم "الوظيفة السينمائية" الذي يعد من بين أهم الطروحات النظرية التي ساعدت على استقلال السينما عن باقي الفنون، وكذا الأخذ بعين الاعتبار بروز تيارات سينمائية سعت إلى ربط هذه السينما بالواقع، سيمكننا على الأقل، من اعتماد مقياس لا يختلف اثنان حوله في تحديد اتجاه الشريط سينمائيا، ويمكن الوقوف على بعض ملامح هذا المقياس السينمائي مع ألكسندر كاراغانوف Alexandre Karaganov في قوله: "لا يمكن النظر إلى السينما باعتبارها مجرد "فن تخطيطي" أو نوع من البهلوانية الفنية على حبال سيرك الأفكار تتأرجح في اتجاه. فالفن الحق لا يمكن أن يعيش إلا في تربة التفاعل والتكافل ما بين الموضوع والذات ولا يغدو الفن فنا إذا انعزل عن الموضوع.. عن الواقع" والأخذ بهذا النمط السينمائي، يسقط من حسابنا تلك البدايات الهشة التي تفتقر إلى بديهيات الفن السينمائي، أو تلك التي خضعت في إنتاجها إلى طلب خاص من جهات مختصة أو غيرها.
على ضوء ما سبق نستنتج وجود نوعين سينمائيين بالمغرب، وهما: السينما الإعلامية والسينما الروائية.
1 – السينما الإعلامية:
لقد عرف المغرب في مرحلة الاستقلال ظروفا سانحة لإنجاز سينما إعلامية كاستمرار للجهود التي أنشئ من أجلها المركز السينمائي المغربي، وكذا كسد للفراغ الإعلامي البصري الذي كان يعاني منه المغرب. لهذه الأسباب اتجهت سياسة المركز نحو إنجاز وسيلتين إعلاميتين وهما: الجريدة المصورة، والأفلام القصيرة الإعلامية.
1-1-الجريدة المصورة:
إذا كان جهاز الراديو قد لعب ولا زال أدوارا طلائعية في ربط الشرق بالغرب والجنوب بالشمال، والسعي نحو تحقيق مقولة "العالم قرية صغيرة"، فجهاز السينما –باعتباره أشد وأقوى الوسائل الإعلامية المصورة والمسموعة آنذاك- وظف، هو الآخر، في تمتين هذا الروابط، خاصة وأن السينما منذ ظهورها عرفت شعبية واسعة، وتأثيرا قويا، نظرا لإعلامها البصري، وطقوس فرجتها المؤثرة سيكولوجيا على نفسية المتلقي. وإذا كان المركز السينمائي المغربي يلعب دور الموزع لهذه الجرائد المصورة التي كانت تنقل أهم أخبار العالم مع التركيز على الأخبار الفرنسية، فقد أصبح مع منتصف سنة 1958 منتجا لها أسبوعيا . محاولا بذلك تغطية أخبار المملكة المغربية الفتية، والعمل على توزيعها على جميع القاعات السينمائية بالمملكة مجانا.
و"الجريدة المصورة" هي وصلة إعلامية تهتم بالإعلام الداخلي والخارجي، لا تزيد مدتها الزمنية على خمس عشرة دقيقة. تقدم للمشاهد في قاعات العرض في بداية الحصة السينمائية المقررة، خاصة إذا علمنا ضيق رقعة انتشار جهاز التلفاز في تلك المرحلة. من هذا المنطلق يمكن القول، إن السينما الإعلامية لعبت دورا إعلاميا هاما في هذا الجانب، حيث تمكنت من المساهمة في دعم ركائز الاستقلال بتتبع أخبار القصر والحكومة بصريا، وكذا في التعريف بأهم الأحداث التاريخية الداخلية والخارجية. لكنها تبقى بعيدة كل البعد عن الإبداع السينمائي، والوظيفة الاجتماعية والاستطيقية والحضارية التي أبرزت قوة هذا الفن وقيمته.
2-1-الأفلام القصيرة:
إن المقصود بالأفلام القصيرة، هو ذلك الكم الهائل من الأشرطة السينمائية القصيرة التي عكف المركز السينمائي المغربي على إنتاجها بطلب من مجموعة من الإدارات العمومية، كوزارة الصحة والتعليم والشبيبة والرياضة.. وغيرها. وهي –كما يبدو- أشرطة إعلامية تبغي الإدارة من ورائها الوصول إلى المتلقي/القروي خاصة، الذي يصعب الاتصال به عن طريق وسائل إعلامية أخرى كالتلفزة. تقول جريدة "أصداء المغرب": "يعتبر شريط "القوات المسلحة الملكية" وشريط "صديقتنا المدرسة" من الأشرطة القصيرة الأولى التي أنتجها (م.س.م) بعد استقلال المغرب" . وقد توالت عملية إنتاج الأشرطة القصيرة، حيث بلغت في ظرف لا يزيد عن خمس عشرة سنة –كما سبق الذكر- مائة وخمسين(150) شريطا تتراوح بين الناطق بالعربية والفرنسية .. وهو إنتاج مهم جدا كما يبدو بالمقارنة مع رصيد سينما الأفلام الروائية الطويلة.
كما أن أهمية هذه الأشرطة –خاصة الإبداعية منها- تظهر فيما منحته للمخرج السينمائي المغربي من فرص لتقويم وتقييم ما تلقاه في دراساته السينمائية النظرية بالخارج، حيث يمكن اعتبارها بمثابة التمارين الأولى للسينمائيين المغاربة. لكن هذه التمارين في غالبيتها، لم تكن موفقة. يقول محمد التازي في هذا الصدد: "ولأنها كانت تحت الطلب لم تكن بالنسبة لنا عملا إبداعيا خالصا".
ولهذه الأسباب أيضا فقد اتسمت هذه الأفلام على حد قول المخرج مومن السميحي: "بفلكلورية الاتجاه وقومية النفس وعفوية الشكل (وهي) ذات شاعرية بدائية تنحصر في نطاق المقولة الدعائية السياسية الرسمية، يطغى عليها الغرور القومي أحيانا وأحيانا أخرى تؤكد بوضوح أن لا منظور لها إلا من زاوية الإثنوغرافية الاستعمارية الموروثة عن المعمر..(تقنيا) يتلاعب بالألوان والوجوه والديكورات وخليط من الأسباب" .
هكذا يمكن القول تجاوزا، إن الاستعمال الأول للكاميرا السينمائية والستار الفضي بالمغرب بعد الاستقلال كان خاصا بالأفلام الإعلامية والوثائقية بامتياز. هذه الأفلام لم تواكبها حركة نقدية سينمائية؛ لأنها لم تكن موجهة إلى المتلقي بهدف المعرفة الجمالية أو التذوق الفني، بل كان الإعلام والاتصال هو هاجسها الأول والأخير.
2 – السينما الروائية:
إن الإرهاصات الأولية للسينما الروائية بالمغرب، يمكن تلمسها من خلال بعض الأفلام القصيرة التي اعتمدت منطق الحكي السينمائي، مركزة في ذلك على مبادئ وخصوصيات الظاهرة السينمائية من سيناريو وإضاءة وديكور وإخراج.. غير أن الجزم النهائي في تحديد بداية لهذه السينما عرف جدلا واسعا، خاصة فيما يتعلق بطبيعة الأفلام التي تستحق أن تحمل مشعل الريادة لهذه السينما.
وإذا كان السينمائي المغربي محمد عصفور(*) قد تمكن من مزاولة السينما في صورتها البدائية منذ وقت مبكر جدا، فهذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، الإجماع على أن ما قام به يعد البداية الحقيقية للسينما بالمغرب. فبالنظر إلى أعمال هذا العاشق للسينما نظرة منطقية، نستنتج أنه لا يمكن لأعماله إلا أن تصنف في خانة السينمائي الهاوي الذي يبحث عن منفذ لإرضاء نفسه ولإشباع فضوله. فعشقه الجارف للسينما، رغم ضعف إمكانياته المادية والمعنوية، مكنته من وضع بصمة مشرفة له في تاريخ السينما بالمغرب، لكنها لم تمكنه من تبني البداية الحقيقية لهذه السينما. خاصة، إذا علمنا، أن جل أعماله في هذا الميدان أيضا لم تخرج بتاتا عن محاكاة باهتة للنماذج السينمائية الغربية على نحو سينما "رعاة البقر"، "طرزان"، "الكراتيه"، "الدراما الهندية". ورغم هذا وذاك فإن أعمال محمد عصفور السينمائية لا يمكن للباحث في الميدان السينمائي تجاوزها، فهي أعمال تمكنت من فتح باب النقاش على صعيد الساحة النقدية المغربية، فهناك من النقاد من ينتقد أعمال محمد عصفور ويعدد ثغراتها وهزالها.. وهذا رأي لا يخلو من صواب، إلا أنه يخطئ في محاكمة أعمال هذا المبدع السينمائية بمعزل عن واقعها التاريخي الذي نشأت فيه. إن هذا الرأي يعتمد في مقاربة أعمال عصفور التأسيسية والبسيطة على آليات معرفية حديثة، ومفاهيم نقدية سينمائية متقدمة مستقاة من روائع السينما العالمية. يقول إدريس القري في هذا السياق: "من الممكن الحديث عن أشرطة مغربية جيدة ومتميزة، إلا أن هذه الجودة وهذا التمييز لا يمكن تحديد طابعهما النسبي إلا باستحضار السياق الموضوعي والذاتي الذي تم إنجازها في إطاره" ومن النقاد المغاربة من يذهب أبعد من ذلك بخصوص تجربة محمد عصفور السينمائية وينفي عنها كليا قصب السبق، كما هو الحال بالنسبة لأحمد عرايب الذي يقول: "ومن أجل الحقيقة التاريخية نؤكد على أن السينمائي أحمد المسناوي قام بإنجاز شريط سينمائي روائي سنة 1939 مقاس 16 ملم، وقد باع كاميرا 16 ملم لمحمد عصفور. وفي جميع الحالات لا يمكن اعتبار عصفور أول سينمائي، لأن هناك أبحاثا تعارض هذا الطرح" .
واستنادا في هذا الصدد إلى استطلاع للرأي قامت به جريدة الاتحاد الاشتراكي حول بداية السينما المغربية وخاصة السؤال الرابع من أسئلة الاستمارة "مع أي شريط مغربي كانت البداية الحقيقية للسينما المغربية؟"، نستطيع الاطلاع على آراء عينة اجتماعية يمكن اعتبارها بمثابة الفئة المثقفة سينمائيا، أو كما جاء في نص الاستطلاع: "جمهورا ليس من المستبعد أن يكون (هو) نفس الشرائح التي تنخرط عادة في الأندية السينمائية أو من المكلفين في هذا النادي أو ذاك على الرغم من أن هذه ليست قاعدة ثابتة" .
وهذه العينة الاجتماعية تتكون بالأساس من 36% من الطلبة و33% من المعلمين و31% من الأساتذة وهي، كما يبدو نسبيا، متقاربة في المستوى الثقافي.
ويمكن اختزال نتائج هذا الاستطلاع في الجدول التالي:
شريط الانطلاقة الحقيقية للسينما بالمغرب النسبة المئوية المحصل عليها
شريط الانطلاقة الحقيقية للسينما بالمغرب
النسبة المئوية المحصل عليها
شريط "وشمة"
50%
شريط "ألف يد ويد"
15%
"القنفودي"
5%
"شمس الربيع"
5%
"ابن السبيل"
5%
"بدون رأي"
20%
من خلال هذه النتائج، نلمس وبشكل جلي، صعوبة الإجابة الحاسمة عن سؤال البداية الحقيقية للسينما المغربية. وهي صعوبة ترجع بالتأكيد إلى حداثة العهد بالنسبة للنقد السينمائي بالمغرب، وضعف إمكانياته المعرفية الكفيلة بدراسة الموضوع دراسة علمية، لإعطاء نتائج معللة، إن لم نقل حاسمة ونهائية. وإذا كانت أعلى النسب المئوية ترجح فيلم "وشمة" لهذه البداية، فلا يمكن بالمرة تجاهل النسبة المئوية العالية كذلك للعينة الاجتماعية التي أبدت تحفظها في الاختيار. وهذا من شأنه أن يبقي استفهام البداية معلقا وملازما أبديا للسينما المغربية.
الدكتور عز العرب العلوي لمحارزي
/////////////////////////////
[1] - Jamal Eddine Naji, Revue Lamalif, n°83, Octobre 1976, p15.
[1] - Ahmed Araib, Le Maroc des années 10, Al Maghreb/30, 1er Mai 1995, p5.
[1] - أحمد سجلماسي، فيلموغرافيا السينما المغربية – الأفلام الروائية، أنوال الثقافي، 12 دجنبر 1985.
(*) أنظر ملحق الفيلموغرافيا الخاص بفيلموغرافيا الأفلام الاستعمارية.
[1] - Marcel Teisseire, La production cinématographique au Maroc, BEXM VIX, n°33, Avril 1974, p27.
[1] - Ahmed Araib, Ibid, p4.
[1] - من وثائق المركز السينمائي المغربي.
[1] - من وثائق المركز السينمائي المغربي.
[1] - مصطفى الداشي، (الإنتاج السينمائي المغربي، حالة الأشرطة الروائية الطويلة)، مجلة أبحاث، عدد 15/16. 1
(*) وهو عبارة عن شريط وثائقي يحمل في عمقه قصة حب درامية، الأدوار الرئيسية في الشريط يؤديها ممثلون مغاربة. وقد تألقت فيه الممثلة المغربية إيطو بنت الحسين التي قامت بدور الحمقاء. وقد نال هذا الشريط إعجاب الشاعر جان كوكتو كما نال إعجاب الحاضرين بمهرجان كان سنة 1984، أما عن الممثلة "إيطو" فقد أعجب بها أراسون ويلز وهنري هالتون حيث أسند لها الأول دورا في فيلم عطيل والثاني في فيلم الوردة السوداء.
Tahar Ben Jelloun, Niassance du cinéma Marocain, Le journal de Tanger, 7 octobre 61, (Rento Castellani Deux sous d'espoir) وتجدر الإشارة أن هذا الفيلم حصل على الجائزة الذهبية كذلك.
(*) محمد بلهاشمي، محمد عفيفي، العربي بناني، الجيل السينمائي الأول الذي تلقى دراسته بفرنسا.
[1] - إدريس كرم، "موقف الفيلم المغربي من الثقافة الشعبية"، البلاغ المغربي، 25 يناير 1985، ص12
[1] - عبد الله الزروالي، مائدة مستديرة حول السينما المغربية بين الطموح والحصيلة، جريدة أنوال، 18/11/1982.
[1] - محمد التازي، مائدة مستديرة حول السينما المغربية بين الطموح والحصيلة، جريدة أنوال، عدد 39، 18/11/1982.
[1] - ألكسندر كاراغانوف، من كتاب لعلي شلش النقد السينمائي في الصحافة المصرية، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1986، ص23.
[1] - من وثائق المركز السينمائي المغربي.
[1] - Echo du Maroc, n°23-7-1960, p7.
[1] - محمد التازي، من وثائق المركز السينمائي المغربي.
[1] - مومن السميحي، السينما المغربية، م. الإشارة، ع. الثالث/الرابع، مارس، س II، 1979، ص40.
(*) يعتبر فيلم "الابن العاق" سنة 1958 أول شريط حسب فيلموغرافيا أحمد سجلماسي.
[1] - إدريس القري، الإنتاج السينمائي بالمغرب – من أجل رؤية شاملة، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، 4-3-1994، ص5.
[1] - Ahmed Araib, Cinéma : Al Maghreb Culture, 13 Mars 1995, p4.
[1] - جريدة الاتحاد الاشتراكي، استطلاع الرأي الخاص بالسينما المغربية، 19 يناير 1985، عدد 547، ص8.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.