أنجزت سنة 1996 أول شريط قصير بالفيديو مع مجموعة من الأصدقاء وبمساعدة المركز الثقافي الفرنسي بتطوان، صورته بإمكانيات ذاتية وجعلته إنتاجا في إطار النادي السينمائي الذي كنت عضوا فيه ومن بين مؤسسيه (مجموعة البحث السينمائي)، كان شريطا وثائقيا يحمل عنوان «ذاكرة مدينة»، وهو عبارة عن تركيب لمجموعة من اللقطات الثابتة لنفس الأماكن في فترات مختلفة من اليوم، لتأمل التغيير الذي يطرأ عليها بفعل تغير الضوء، كان فيلما بدون تعليق، صورته بالعرائش طيلة سنة 1996، وهي تؤرخ لما كنت أعتقده أنذاك للأمكنة التي تشكل ذاكرة مدينة العرائش، أو ما تبقى منها، لمدينة كنا وما زلنا نرتبط بها إلى حد اعتبارها مركز العالم، عرضنا هذا الفيلم في ملتقى حول السينما والتربية، نُظم بالمدرسة العليا للأساتذة بمرتيل بمبادرة وبدعوة من الناقد المغربي الطنجاوي خليل الدامون، ربما في نفس السنة. رغم أن شريط «ذاكرة مدينة» أنحز بإمكانيات متواضعة (كاميرا VHS) فإنه ساهم في أولا: مدي بالثقة الكافية لخوض تجربة المرور إلى الجهة الأخرى من الشاشة، وثانيا: رسم ملامح جنينية لأسلوب شخصي وخارطة الطريق لكل ما قمت بإنجازه من أعمال إلى حد الآن، أي أنه رسم بشكل غير واع نسبيا ملامح لأسلوب يجد جذور لغته في المكان وما ينتجه من أحاسيس ومعنى وما يوحي به من تجربة إنسانية، أسلوب تكوّن من خلال علاقة جدلية بين هذا المكان كتجربة معيشية واللغة السينمائية التي تبلورت بداية بفعل مشاهدة الأفلام ،كل الأفلام، دون تمييز، ثم بعد ذلك تدريجيا بفعل انتقاء لنوعية معينة من الأفلام، ورسم هذا الشريط كذلك الجغرافية الضيقة التي ستشكل مكونا وخلفية مرجعية لمساري السينمائي. في نص سيرة النوايا الذي كنت ارتجلته أنذاك، لكي أرتب أفكاري، وأجد الخيط الرابط بين اللقطات التي كنت أنوي تصويرها، كنت قد كتبت: إنني سأصور بقايا مدينة وأن الفيلم يجب أن يكون بشكل ما بكاء على الأطلال،لأننا كنا نتابع، بأسف واحتجاج أخذ كل الأشكال، الهجمة الشرسة التي كان يتعرض لها التراث المعماري للمدينة من طرف أعوان السلطة ومافيا العقار، خصوصا مع تحولها إداريا من باشوية إلى عمالة. كل الأمكنة أو ما تبقى منها التي كنت قد صورتها، عدت لها لاحقا في أعمال أخرى ابتداء من «نسيمة» 1998 مرورا ب»بلكون أطلنتيكو» 2003 إلى كل الأعمال التلفزيونية التي صورتها بالعرائش، حيث كنت في كل مرة، و أنا أبحث عن سياق بصري لفيلم ما بتعاون مع مدير التصوير، أحاول أن أبحث في الذاكرة عن إضاءة تميز المدينة بإطلالتها على المحيط وبمنازلها ذات الطابق الواحد التي تجعل الشمس تنفذ بشكل عادل إلى كل الأمكنة وتجعلها تقاوم الرطوبة المفرطة. آخرعمل صورته في العرائش، وأنا على مشارف إنجاز «زمن الرفاق» بتطوان، كان شريطا قصيرا وثائقيا لم أعرضه لحد الآن «رسالة حب « 2009 أو رسالة وداع سينمائية، لصديق جيلنا إدريس الصبايحي مصور المدينة الذي التقط صورنا الأولى بالأبيض والأسود منذ أن رأينا النور، ثم منحتنا رفقته بعد أكثر من ثلاثين سنة، وبعد أن حط بنا الرحال زمن الرفاق بالمدينة ، أجمل الذكريات وأحلاها، ارتبطنا به وبإقباله على الحياة بابتسامته الدائمة، وكأن الحياة سلسلة من اللحظات الجميلة لا تتخللها أية صعاب، ارتبطنا بالطريقة التي ينظر بها إلى الحياة و تعاليقه الدقيقة والعميقة إلى درجة أننا أصبحنا بعد سنوات نستشهد بها بنفس الطريقة التي نستشهد بها بالمفكرين الكبار. لم نصدق وكل العرائشيين خبر وفاته ، ربما كنا نعتقد في دواخلنا أن شخصا مثله لا يموت مثل شخصية الجد الأبدي في فيلم «سبيرياد»1979 للمخرج الروسي أندريه مخالكوف كونشالكوفسكي. تعلمت من إدريس في تسكعنا بشوارع المدينة وسهراتنا الطويلة في أستوديو التصوير الموجود بالسوق الصغير بالمدينة العتيقة إلى آخر ساعات الليل، أو أثناء الجلسات الطويلة في مقهى سنطرال، أن التصوير شيء آخر غير مجموعة من التقنيات والتدابير الفنية،كنت قد أشرت إلى شخصية إدريس في الفيلم التلفزيوني «باب المدينة « 2005 بشكل مباشر، وجعلت منه ذلك الأب المصور الفوتوغرافي المهووس بالتصوير الفوتوغرافي وبالمدينة، الذي توفي وحيدا بعد أن هجرته زوجته بطفلهما الصغير ليأتي الأخير (محمد نظيف) يبحث عنه بعد سنوات من الغياب، في الليلة التي بث فيها الفيلم على القناة الثانية للمرة الأولى، وكان صديقنا إدريس بصحبتنا مع مجموعة من الأصدقاء، تأثر كثيرا، وانتابته حالة من الخوف لأن الفيلم تنبأ بموته، وتفاجأ الجميع لأنه كان يسخر دائما من الموت إلى درجة أنه كان صديق عامل البلدية الذي يكفن الموتى ويوصيه دائما بالكيفية التي يجب أن يدفنه بها عند موته، كان خلال بث الفيلم، يسألني، بإلحاح، هل فعلا الشخصية التي استلهمت منها شخصيته هي شخصية الأب المتوفى، غادَرَنا في نفس السنة على إثر حادثة سير ببوقنادل. مع موت إدريس، صديق الجميع، تغيرت أشياء كثيرة، تغيرت العلاقات الإنسانية وكأنه كان عنوانها، تغيرت المدينة وكأنه كان حارس تفاحاتها الذهبية، مات إدريس كإعلان عن نهاية مرحلة وبداية أخرى. هذا الارتباط بالمدينة، تعامل معه بعض المهتمين والصحفيين كعتاب أو كانتقاد، حيث جاء سؤالهم خاطئ منذ البداية كالعادة وفي صيغة : « لماذا تصور بالعرائش ؟ « سؤال كان وما زال يزعجني ويضايقني ولا أقبله، ببساطة لأنه سؤال غير مشروع ، أُسأل» لماذا أصور بالعرائش'' وكأنني ولدت في ستوكهولم أو في موسكو، أوكأنه في دفتر تحملات السينما يفرض عليك أن تتخيل حكايات لا تتجاوز مدن المركز أو مدن أخرى بعينها. أن تسألني لماذا أصور بالعرائش، كأن تسألني لماذا أصور بالكاميرا أو لماذا أكتب بالقلم. في وقت لاحق تحول السؤال إلى صيغة استنكارية: ما سبب هذا الارتباط بالشمال؟ والمراد ب : لماذا ترتبط بمدينتك ؟ أصبحت أرد بالقول مثلا، إنه في غياب مرجعية سينمائية محلية ( مغربية) يجب علينا ،لكي نضفي نوعا من القوة و المصداقية على سينمانا ، أن نرتبط أكثر بالفضاء الذي نعرفه، ونمتلكه ، ونضبطه، أو يمكن أن نقول إن سبب الارتباط بمدينتي، يجد جذوره في سينما المؤلف التي تأثرت بها كثيرا ، وارتباطي بفكرة أن يبقى المخرج مرتبطا بمجاله ومحيطه ليصنع سينما صادقة وآنية، أو يمكن أن نقول أيضا إن العالمية تبدأ من المحلية، كل هذه الأجوبة ممكنة، مقبولة، وقد تكون مقنعة ولكنني في الحقيقة، أجد أن هذا الارتباط يتجاوز التبرير، إنه كالحب الذي لولاه يصبح العيش غير محتمل حتى لو كان مدمرا. لكي أرسم الخطوات الأولى لمسار فني كان ما زال في بدايته، كنت أبدو، في بعض الحالات، متعصبا إلى درجة الشوفينية لأنني اعتقد أن هذا السؤال يحور النقاش ويبعده عن الموضوع : الفيلم والمجهود الذي أُنتظر الاعتراف به فقط ،أحس أنه سؤال يقصيني كمخرج لأحتفظ فقط بصفتي كالعرايشي أو الشمالي . سؤال يقصي حق مدن الهامش أن يوجد بها من يحكي قصصا و يجعلها تتخلص من القليل من وضع قدري كهامش. لم أعد إلى العرائش بعد هذا الفيلم القصير، الذي لا يمكن أن أصنفه بغير عنوانه «رسالة حب»، فيلم بدون أي طموح فني، من غير هاجس الحفاظ على الذاكرة، فيلم كان من المفروض أن يصوره صديقي إدريس.ب «رسالة حب» أكون قد عدت لنفس أسلوب الشريط الأول «ذاكرة مدينة» وأنا أريده هذه المرة عفويا وفيه شيء من الطراوة. لم أعد إلى العرائش التي أسكنها وتسكنني وأحملها في القلب والذاكرة أينما وليت وارتحلت، ربما لأنني أريدها أن تكون فضاء للعيش والكتابة، ذلك المكان الذي أعود إليه للراحة بعد العمل والسفر، لا أريد أن أخلط الأوراق ولا أريد أن أعيش يومي بصفتي المهنية، لأن ذلك أحسه يقف حاجزا بيني وبين الناس ويجعل علاقاتي بهم مصطنعة وغير حقيقية، لأن الناس لا ينسون أنك مخرج ويتصرفون، في الغالب ،كما لو أنك تحمل كاميرا خفية، كما لو أنك ستستغل، لا محالة، ما يعيشونه في عمل ما وتفقد بذلك اللحظة عفويتها . كنت في البداية محتاجا أن أحتمي بجغرافية أعرفها بشكل حميمي، وأن أُثبت هذا الانتماء، لأنني تعلمت الحياة في شوارع هذه المدينة وأزقتها ، واكتشفت السينما في قاعاتها الأربع، وحلمت أن أصبح يوما ذلك الشخص الخفي الذي يأتي اسمه في أخر الجنريك وأنا أتابع عودة مراكب الصيد عند الغروب وحكايات العشق عند الشرفة الأطلسية ... لهذا لا يمكن لي إلا أن أبقى وفيا لمدينة وهبت ذاكرتي كل تلك الصور الجميلة وشكلت بذلك رؤيتي للأشياء وللعالم ، وفيا لما كنته، ولحلم ذلك الطفل بأماكن يمكن يوما أن نشاهدها على شاشة السينما، وحلم جيل صنع ذاكرة النادي السينمائي وحلم سينما وطنية، إيمانا بأنها -أي السينما- يمكن أن تساهم في التغيير واستعادة الوطن ... الأسئلة الخاطئة لا تحتمل أجوبة صحيحة، سؤال»لماذا تصور بالعرائش؟» أو ما يرادفه من الأسئلة ، سؤال خاطئ ببساطة ، قد أصور أينما شئت و أينما شاءت القصص التي أريد أن أحكي، لأنه في أبجديات الكتابة، مكان التصوير لا يوجد ببساطة، لأنه يتحول إلى مكان متخيل لا يشبه الأصل أو على الأقل يوهم بذلك. فبعد مسافة عيش وتجربة حياة، نتوقف عن السفر في المكان، نسافر ونحن لا نراوح مكاننا، نسافر في سفر معكوس للعودة للذات، لأماكن الطفولة، إلى الأماكن التي تسكننا وربما لم نعد نسكنها، لأننا غادرنها جسديا منذ زمان. المكان في السينما ،رغم حضوره المادي، ليس في النهاية إلا استعارة أو مجاز لما تبقى في الذاكرة أو في مكان قصي من القلب، عندما نصور الطريق مثلا ،على الشاشة تتحول إلى شيء أخر غير الطريق، ربما لهذا كان الرسام السوريالي ماجريت على حق عندما كان يرسم الأشياء، ويكتب بجانبها على اللوحة ما يفيد أنها ليست حقيقية، أن ما نراه ليس حقيقة. يكفيني أنني أشعر بانتماء لثقافة منطقة، لثقافة بلد، قارة، أو لنقل للثقافة الإنسانية بما أحمله من هويات متعددة، لكنها في نفس الآن منسجمة، لم يكن لهذا الإحساس بالانتماء الكوني أن يكون ممكنا لولا الانتماء أولا إلى جغرافية ضيقة في حجم مدينة صغيرة، في حجم حي أو حتى في حجم حجرة في فندق صغير أو في حجم هذا التراوح بين العام و الخاص، بين الذاتي والكوني.