الرعيل الأول من علماء الأزهر وفقهائه في أربعينات القرن الماضي، تميّز بقوّة التصدّي لمحاولات جماعة الإخوان المسلمين الاستحواذ على الخطاب الديني من أجل مآربهم السياسية، وذلك عبر العديد من المؤلفات المتسمة بالحجة والمنطق، والدفاع عن الوسطية والاعتدال، لكن هذا الدور يكاد يكون مفقودا الآن، ممّا يدعو إلى التساؤل عن محاولات التعتيم على هذه المرحلة التنويرية من تاريخ الأزهر. العلاقة بين الأزهر والإخوان المسلمين في مصر، تصنف ضمن العلاقات الأكثر عداءً وصراعًا حول طبيعة المرجعية الإسلامية، بين مؤسسة تسعى لتقديم نفسها كصاحبة فكر إسلامي وسطي ومعتدل، وجماعة تحاول أن تفرض نفوذها الديني لتحقيق مآرب سياسية. لكن الاختلاف الحاصل في هذه العلاقة بمرور الزمن، يتمثل في تلك الرعونة الشديدة التي أصبح يتعامل بها الأزهر مع مثل هذه الجماعات، والتي تتجاهل دوره التاريخي. تبدو المقارنة بين مواقف الأزهر في الماضي، ومواقفه الحالية من الإخوان، ظالمة لجيل من علمائه كانوا قد خاضوا معارك فقهية وفكرية ضارية للحيلولة دون نجاح الجماعة في أن تستأثر بالدين أو تنجح في نشر أفكارها المتطرفة. وجاء كتاب «موقف الأزهر الشريف وعلمائه الأجلاء من جماعة الإخوان»، للباحث في شؤون الجماعات الإسلامية بالقاهرة، حسين القاضي، ليفنّد تاريخ المواجهات الفكرية التي قادها الأزهر منذ عشرات السنين ضد الإخوان، وكيف ساعد تراجع دوره الحالي، في أن تظل الجماعة متواجدة على الساحة، حتى وإن كانت تصارع من أجل البقاء. يعرض الباحث في كتابه الصادر مؤخرًا عن دار المقطم للطبع والنشر بالقاهرة، لتراث ضخم من المواقف الصارمة والآراء الصريحة لعلماء الأزهر على مدار السنوات الماضية، عجزت خلالها الجماعة منذ نشأتها عن التصدي لها بشكل مباشر، ما تسبب في تصدعات كثيرة في جدرانها أمام المجتمع. عكس علماء وقيادات الأزهر الحاليين، الذين تراخوا في مواجهة الإخوان وكانت مواقفهم مثيرة للجدل والريبة، وهو ما كان يميّز علماء الأزهر في الماضي، أنهم كانوا يردون بالحجة والبراهين، ويواجهون الفكر بالفكر من خلال كتب وإصدارات دينية توزّع في أنحاء الجمهورية دون مقابل. وقد وصف أسامة الأزهري المستشار الديني للرئيس المصري، ما يعرضه الباحث حسين القاضي في كتابه، "بأنه بداية مواجهة حقيقية مع الفكر المنحرف، وهو الخطوة الأولى في تفكيك هذه الأطروحة الإخوانية، واستعادة الذاكرة المفقودة وصناعة وعي محصن، عنده مناعة من الاختراق أو الخضوع للتزييف والتزوير". كان الكاتب قد عرض لمواقف علماء الأزهر من الإخوان مدعومة بأسانيد تاريخية وحقائق ربما تخفى على الكثيرين. ما يمكن اعتباره تذكرة للأزهريين الحاليين، أن الإمام مصطفى المراغي شيخ الأزهر عام 1945، كان أول من طالب صراحة بحل جماعة الإخوان، لتجرئهم على الفتوى بغير علم، فضلا عن الوثيقة التاريخية النادرة التي أصدرتها هيئة كبار العلماء بالأزهر في العام نفسه. وقال «إن الإخوان انحرفوا عن مبادئ الدعوة الإسلامية وسلكوا طريق التآمر على قتل الأبرياء وترويع الآمنين، والخروج عن هذه المبادئ بمثابة اتباع لسلوك سبيل العنف بالإرهاب والعدوان والتضليل والخداع". يستنكر الباحث في تصريحات ل»العرب» عدم قيام المؤسسة الأزهرية بنشر هذا التراث وتجميعه وطباعته بصورة رسمية من قبل المشيخة، في ظل انتقادات مؤسسة الرئاسة المتكررة لأداء المؤسسات الدينية فى مواجهة الفكر المتطرف والتراخي في مسألة تجديد الخطاب الديني. ووصف أكثر القائمين على شأن المؤسسة الأزهرية اليوم بأنهم مصابون بضعف وجمود مريب في مواجهة التيارات المتطرفة، وتقديم الفكر والفقه الإسلامي إلى العالم والشباب بطريقة مناسبة تشبع تعطشهم لسماع رأي الأزهر. يتذكر حسين القاضي في كتابه تلك الوثيقة التي صدرت عن الأزهر عام 1965، وجاء فيها: إن الأزهر يدعو إلى الله على بصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة، لكن أعداء الإسلام حين عز عليهم الوقوف أمامه حاولوا محاربة الإسلام باسم الإسلام، فاصطنعوا الأغرار من دهماء المسلمين، ونفخوا في صغار الأحلام بغرور القول، ومعسول الأمل، وألفوا لهم مسرحيات يخرجها الكفر لتمثيل الإيمان، وأمدوهم بإمكانيات الفتك، وأدوات التدمير. وإذا كان القائمون على أمر هذه المنظمات استطاعوا أن يشوهوا تعاليم الإسلام في أذهان الناشئة، واستطاعوا أن يحملوهم بالمغريات على تغيير حقائق الإسلام تغييرا ينقلها إلى الضد منه، وإلى النقيض من تعاليمه، فإن الأزهر لا يسعه إلا أن يصوب ضلالهم، ويردهم إلى الحق. يضاف إلى ذلك، تقرير الأزهر الذي أعده الشيخ عبداللطيف السبكي عضو هيئة كبار العلماء عام 1965، بناءً على طلب شيخ الأزهر آنذاك حسن مأمون، عن مضمون كتاب "معالم في الطريق" للإخواني سيد قطب. وجاء في التقرير "إن المؤلِّف ينكر وجود أمة إسلامية منذ قرون كثيرة، ومعنى هذا أن عهود الإسلام الزاهرة، وأئمة الإسلام، وأعلام العلم في الدين، والتفسير، والحديث، والتفقه، جميعًا كانوا في جاهلية، وليسوا من الإسلام في شيء، حتى يجيء إلى الدنيا سيد قطب.. إن كلمة "ولا حاكمية إلا لله" قالها الخوارج قديمًا، وليس أغرب من هذه النزعة الخيالية، وهي نزعة تخريبية، يسميها: طريق الإسلام، والإسلام كما هو اسمه ومسمّاه يأبى الفتنة ولو في أبسط صوره، فكيف إذا كانت غاشمة، جبارة، كالتي يتخيّلها المؤلف؟". يذهب الباحث إلى رأي منفرد للعالم الأزهري الراحل سعد الدين صالح، بعيدًا عن رؤية المشيخة نفسها في الكثير من المواقف المناهضة للإخوان بشراسة، في إشارة إلى مساعي الأزهر قديمًا للمواجهة الفردية والجماعية للإخوان. وقال العالم "إن 90 بالمئة من شباب الإخوان ممسوخ عقليا وفكريا كنتيجة لمنهج تربوي خاطئ.. وبدلا من أن تكون الجماعة وسيلة للعمل الإسلامي تحولت إلى غاية يوظف لها الإسلام، حتى وظيفة المرشد لا نهاية لها إلا بالموت أو الاستقالة، فما الفرق إذن بين نظام الجماعة وبين الأنظمة التي يتشبث قادتها بالحكم؟". ويوكد الباحث ل"العرب" أنه سعى من خلال مؤلفه إلى إماطة اللثام عن الموقف الصارم من علماء الأزهر نحو جماعة الإخوان عبر التاريخ، وأنهم قاموا بواجبهم لكن جهودهم وبياناتهم تبعثرت وتجاوزها الزمن، في مقابل نشاط حركي وتنظيمي وإعلامي كبير من الإخوان، ودعاية مخدومة بإنفاق كبير عبر عقود، ما أدى إلى مسح التاريخ، ومحو الذاكرة، والوصول إلى أجيال في حالة من الحيرة في اتخاذ موقف من الإخوان. ويشير إلى أن التجربة والواقع يؤكدان أن المواجهة الحقيقية الفاعلة للفكر المنحرف، لا بد أن تكون فكرية يقوم بها العلماء والمفكرون، وليست مجرد مواجهة أمنية حتى وإن كان لها دور لا يُنكر، طالما تمت من خلال إجراءات قضائية عادلة مع من يثبت قيامه بعمل تخريبي أو تحريضي ثبوتًا قطعيّا.