يزخر التراث العربي بقصص وأخبار الأولين التي تم تدوينها، في كتب ومجلدات عديدة، متناولة حيوات أو أحداثا وقعت لهذا الشاعر أو هذا الأديب أو لذاك الوالي أو ذاك الحكيم أو هذا المجنون، أو هذا الطماع وذاك المحتال إلخ.. وهي قصص وأخبار انتمت في غالبها إلى الأدب العربي، الفصيح العالم منه، أو الشعبي، مما ظل الحكاة والرواة يرددونه في مجالس أنسهم، أويطالعه المهتمون بالأدب لإغناء قاموسهم اللغوي، لما تنطوي عليه بعض هذه القصص من مفردات مُفعمة بنداوتها الأولى وطراوتها البدئية، أو لما تشمله من عبر وحكم وأمثال أو لمجرد متعة القراءة والترفيه عن النفس. لذلك، اخترنا منتخبات من هذا التراث ليصاحبها القارئ الكريم، عله يجد فيها من البلاغة والفصاحة وحسن القول وسرعة البديهة، وخفة الظل والدم ومن مهارات الخطابة وأساليب المكر والحيل لبلوغ الغاية ومن الامتاع والمؤانسة، ما يملأ به وقته استفادة ومتعة. خرج الفرزدق حاجًا، فلما قضى حجه، عدل إلى المدينة، فدخل إلى سُكينة بنت الحسين، فسّلم، فقالت له: يا فرزدق: من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت! أشعر منك من يقول: عليَّ ومن زيارته لِمامُ ومن أمسي وأصبح لا أراهُ ويَطرُقُني إذا هجع النّيام فقال: أما والله لو أذنت لي لأسمعتك أحسن منه، قالت: أقيموه، فاخرج، ثم عاد إليها من الغد، فدخل عليها، فقالت: يافرزدق من أشعر الناس؟ فقال: أنا. قالت: كذبت، صاحبك جرير أشعر منك حيث يقول: لولا الحياء لعادني اسْتِعْبَارُ ولَزرتُ قَبْرَكِ والحبيبُ يُزارُ كانت إذا هجع الضجيج فِرَاشها كتم الحديثُ وعفَّت الأسرار لا يلبث القُرناء أن يتفرقوا ليل يكُرُّ عليهم ونهارُ قال: والله لو أذنت لي لأسمعتك أحسن منه، فأمرت به، فاخرج. ثم عاد إليها في اليوم الثالث، وحولها موَلَّدَاتٌ لها كأنهن التماثيل،فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن، فأعجب بها، وبُهتَ ينظر إليها، فقالت له سكينة: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت كذبت! صاحبك أشعر منك حيث يقول: إن العيون التي في طرفها مرض قتلتنا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا فالتفت إليها وقال: يا بنت رسول الله، إن لي عليك حقا عظيما، قالت: وما هو؟ قال: ضربت إليك آباط الإبل من مكة إرادة التسليم عليك، فكان جزائي من ذلك تكذيبي وطردي، وتفضيل جرير عَليَّ، ومنعك إياي أن أنشدك شيئَا من شعري، وبي ما قد عيل منه صبري، وهذه المنايا تغدو تروح، ولعلي لا أفارق المدينة حتى أموت، فإذا أنا مت، فمري بي أن أدرج في كفني، ثم أدفن في ثياب هذه الجارية (تلك التي كان قد أعجب بها)! فضحكت سُكينة، وأمرت له بالجارية، فخرج بها آخذًا بريطتها (أي بملاءتها)، ثم قالت له: يا فرزدق! احتفظ بها وأحسن صحبتها، فإني آثرتُك بها على نفسي، بارك الله لك فيها. قال الفرزدق: فلم أزل والله أرى البركة بدعائها في نفسي وأهلي ومالي.