يزخر التراث العربي بقصص وأخبار الأولين التي تم تدوينها، في كتب ومجلدات عديدة، متناولة حيوات أو أحداثا وقعت لهذا الشاعر أو هذا الأديب أو لذاك الوالي أو ذاك الحكيم أو هذا المجنون، أو هذا الطماع وذاك المحتال إلخ.. وهي قصص وأخبار انتمت في غالبها إلى الأدب العربي، الفصيح العالم منه، أو الشعبي، مما ظل الحكاة والرواة يرددونه في مجالس أنسهم، أويطالعه المهتمون بالأدب لإغناء قاموسهم اللغوي، لما تنطوي عليه بعض هذه القصص من مفردات مُفعمة بنداوتها الأولى وطراوتها البدئية، أو لما تشمله من عبر وحكم وأمثال أو لمجرد متعة القراءة والترفيه عن النفس. لذلك، اخترنا منتخبات من هذا التراث ليصاحبها القارئ الكريم، عله يجد فيها من البلاغة والفصاحة وحسن القول وسرعة البديهة، وخفة الظل والدم ومن مهارات الخطابة وأساليب المكر والحيل لبلوغ الغاية ومن الامتاع والمؤانسة، ما يملأ به وقته استفادة ومتعة. أترى الله يعطيك وينساني؟ خرج الرشيد إلى الحج، فلما كان بظاهر الكوفة، إذ أبصر بهلولا المجنون على قصبة، وخلفه الصبيان وهو يعدو، فقال: من هذا؟ فقيل له: بهلول المجنون، فقال: كنت أشتهي أن أراه، فادعوه من غير ترويع، فذهبوا إليه وقالوا أجب أمير المؤمنين، فلم يجب، فذهب إليه الرشيد، وقال: السلام عليك يا بهلول: فقال: عليك السلام يا أمير المؤمنين، فقال: دعوتك لاشتياقي إليك، فقال بهلول: لكني لم أشتق إليك! فقال الرشيد: عظني يا بهلول، فقال: وبم أعظك؟ هذي قصورهم وهذي قبورهم! فقال الرشيد: زدني فقد أحسنت! فقال: يا أمير المؤمنين. من رزقه الله مالا وجمالا، فعف في جماله وواسى في ماله كتب في ديوان الأبرار، فظن الرشيد أنه يريد شيئا، فقال: قد أمرنا لك أن تقضي دينك، فقال: لا، يا أمير المؤمنين، لا يقضى الدين بدين، أردد الحق على أهله، واقض دين نفسك من نفسك، قال، إنا أمرنا أن يجرى عليك، فقال: يا أمير المؤمنين: أترى الله يعطيك وينساني! ثم ولى هاربا. وردت في عقلاء المجانين، وقصص العرب (ج 4)