يزخر التراث العربي بقصص وأخبار الأولين التي تم تدوينها، في كتب ومجلدات عديدة، متناولة حيوات أو أحداثا وقعت لهذا الشاعر أو هذا الأديب أو لذاك الوالي أو ذاك الحكيم أو هذا المجنون، أو هذا الطماع وذاك المحتال إلخ.. وهي قصص وأخبار انتمت في غالبها إلى الأدب العربي، الفصيح العالم منه، أو الشعبي، مما ظل الحكاة والرواة يرددونه في مجالس أنسهم، أويطالعه المهتمون بالأدب لإغناء قاموسهم اللغوي، لما تنطوي عليه بعض هذه القصص من مفردات مُفعمة بنداوتها الأولى وطراوتها البدئية، أو لما تشمله من عبر وحكم وأمثال أو لمجرد متعة القراءة والترفيه عن النفس. لذلك، اخترنا منتخبات من هذا التراث ليصاحبها القارئ الكريم، عله يجد فيها من البلاغة والفصاحة وحسن القول وسرعة البديهة، وخفة الظل والدم ومن مهارات الخطابة وأساليب المكر والحيل لبلوغ الغاية ومن الامتاع والمؤانسة، ما يملأ به وقته استفادة ومتعة. دخل أبو دلامة على المهدي، وعنده عيسى بن موسى، والعباس بن محمد وجماعة من بني هاشم. فقال المهدي: يا أبا دلامة قال: لبيك يا أمير المؤمنين قال: لئن لم تهج واحدا ممن في هذا المجلس لأقطعن لسانك، فنظر إلى القوم، كلما نظر إلى واحد منهم غمزه بأن عليه رضاه، فعلم انه قد وقع . وقال: أنا أحد من بالمجلس ثم أنشد: ألا أبلغ إليك أبا دلامة فليس من الكرام ولا كرامه إذا لبس العمامة كان قردا وخنزيرا إذا نزع العمامه جمعت دمامة وجمعت لؤما كذاك اللؤم تتبعه الدمامه فإن تك قد أصبت نعيم دنيا فلا تفرح فقد دنت القيامه. فضحك المهدي وسر القوم اذ لم يسئ لأحد منهم،ثم قال له المهدي: تمّن. قال: يا أمير المؤمنين، تأمر لي بكلب صيد، فسبه وقال: وما تصنع به؟ فقال: الحاجة لي أم لك؟ فقال: صدقت: أعطوه كلبا. فأعطي كلبا فقال: يا أمير المؤمنين، لابد لهذا الكلب من كلاب (من يقوم عليه) فأمر له بغلام مملوك. فقال يا أمير المؤمنين. أو يتهيأ لي أن أصيد راجلا؟ فقال: أعطوه دابة، فقال: ومن يسوس الدابة؟ فقال: أعطوه غلاما سائسا، فقال: ومن ينحر الصيد ويصلحه؟ قال: أعطوه طباخا، قال: ومن يأويهم؟ فقال: أعطوه دارا. فبكى أبو دلامة وقال: ومن يمون هؤلاء كلهم؟ فقال: يكتب له بمئة جريب مزرعة عامرة ومئتي جريب غامرة، فقال: وما الغامرة؟ قال: التي لا نبات فيها قال: فأنا أعطيك مئتي ألف جريب في فيافي بني أسد! فضحك وقال: ما تريد؟ قال: بيت المال. قال: علي أن اخرج المآل منه: قال: يصير حينئذ غامرا، فاستفرغ ضحكا، وقال: اذهب، فقد جعلتها لك كلها عامرة. فقال: يا أمير المؤمين ائذن لي أقبل يدك، قال أما هذه فدعها. قال: والله ما تمنع عيالي شيئا أهون عليهم منها! فناوله يده فقبلها.