أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. «وفي الساعة الحادية عشر والنصف وصل اليزيدي وبن بركة من حزب الإستقلال. كان حديثي معهم مختصرا، وعندما كنا نَهُمُّ بالافتراق حوالي الساعة الثانية عشرة إلا ربعا، اتصل بي الجنرال لوبلان هاتفيا وكان قد تلقى معلومات عن اضطرابات وادي زم تشير إلى موت مراقب مدني وواحد من رجال الدرك وأحد أبناء المستعمرين. وقال لي مدير الداخلية إنه سوف يزودني بمعلومات أكثر بمجرد توصله بها. وأضاف أن بقائي في الرباط ضروري، ومعنى هذا أننا لن نذهب إلى خنيفرة. وحين عدت إلى ضَيْفَيَّ (يقصد اليزيدي وبن بركة) لاحظا شحوب لوني. كنت أحاول أن أقنع نفسي رغم كل الإنذارات والأوامر التي تلقيتها وأصدرتها أن يوم 20 غشت، سوف يمر من دون خسارات كبرى. وقد تصورت أن أحداث خنيفرةوالدارالبيضاء قد تكون مجرد تظاهرات معزولة. إلا أن الأخبار التي تلقيتها قبل قليل تفيد العكس مع الأسف، ولذلك أصبحت أخشى أن تسوء الأحوال، وقد فسرت لزائريَّ أسباب قلقي وهي سقوط ثلاثة موتى بشكل يؤثر على الجيش والمستعمرين. كيف لا نتوقع أن يؤثر ذلك بشكل سيء على المناخ السياسي؟ وشعرت بأن الرجلين اللذين كنت أتحدث إليهما تأثرا بعمق سواء لهذه الأخبار أو لعجزهما عن التأثير» (ص 229). أتوقف أو بالأحرى أكتفي بهذه الفقرات، من كتاب آخر مقيم فرنسي عام وأؤجل المقارنة بين ما حدث في سفوح جبال الأطلس المتوسط المغربية وما جرى في سهول ومروج وشواطئ الشمال القسنطيني في اليوم نفسه، إلى نص قادم، سوف تُبرز فيه أوجه التشابه من تلقاء نفسها لأسجل ملاحظة تتصل بكلمتين وردتا في فقرة سابقة من هذا المقال هما كلمتا الزمان والمكان، العلاقة الزمنية أو الوقتية بين الوقائع واضحة بما فيه الكفاية، ولكن لابد مع ذلك من الإشارة إلى أنها غير راسخة بما ينبغي من الدقة واليقين في بعض الأذهان. لقد انفجرت الأحداث في الدقيقة نفسها في مدينة سكيكدةالجزائرية الواقعة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط في الشمال الشرقي الجزائري. وسوف أقول بعد قليل لماذا حصل هذا «التواقت» الدقيق الذي لم يكن بأي حال من الأحوال مجرد مصادفة أو نتيجة لتدبير الأقدار وحدها. أما الآن فإني أريد أن أوضح ما أقصده من عبارة «المكان» الواردة في السياق أعلاه. نعم المكان الذي وقعت فيه انتفاضة 20 غشت 1955 «المغاربية» هو العمق غير الحضري للبلدين. في الجزائر كان المجال الجغرافي للهبة العارمة هو ضواحي مدينة سكيكدة وأرياف مدينة قسنطينة، المهد البشري والروحي للمقاومة التاريخية وللثورة الوطنية الجزائرية. كان الموقع الجزائري الذي تحرك آنذاك. هو تلك الأقسام من الأرض الجزائرية التي أنتجت عبد الحميد ابن باديس. وكان الموضع المغربي الذي انتفض هو البقعة التي خرج منها حمو الزياني. إنه هنا وهناك قلب الكيان الأمازيغي العربي في المغربين الأقصى والأوسط. إنه القلب حقيقة ومجازا، ولكنه الهامش فيما بعد، تأثيرا وتقريرا ونفوذا في المغرب على الأقل. أما التوقيت الدقيق الذي تحول مع التنفيذ إلى تواقت هام محسوب بالثواني على ساعات سويسرية، فله قصة أخرى تستحق التذكير ولو باختصار في وقت تنزع فيه استراتيجيات إحياء المناسبات التاريخية القطرية إلى تجريد الوقائع الدامغة من أبعادها القومية. إن اختيار ذلك اليوم جاء في أعقاب سلسلة من الاجتماعات والاتصالات الطويلة التي تمت في مدريدوتطوانوالقاهرة بين مندوبين عن الحركات الوطنية، وتحديدا جبهة التحرير الوطني الجزائري والمقاومة وجيش التحرير المغربيين من أجل تحقيق وحدة المغرب العربي في إطار الكفاح المسلح. وقد نقل رسل جاؤوا من المغرب ومن تونس إلى الجزائر تعليمات دقيقة بهذا الشأن، وذكر جلبير غرانفال في كتابه المشار، إليه وقائع سلسلة من المناقشات دارت بينه وبين جاك سوستيل حاكم الجزائر الفرنسي آنذاك. أثناء زيارة قام بها إلى باريس تؤكد أن السلطات الفرنسية بدأت منذ صيف 1955 تخطط لمواجهة نشوب ثورة مسلحة عارمة على مستوى المغرب العربي كله، بل أشار إلى أنه وصلت للإقامة العامة معلومات تفيد بأن «المتمردين» بعثوا مندوبين عنهم إلى منطقة سوس للبدء في تكوين جماعات مسلحة. وعلى أية حال، فعلاقة أحداث 20 غشت 1955 و20 غشت 1956، في كل من المغرب والجزائر بإشكالية بناء المغرب العربي وصلتها بالقاهرة، حيث كان يقيم كل من الزعيمين الوطنيين عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي جنبا إلى جنب مع الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني بعضوية كل من أحمد بن بلة وحسين أيت أحمد ومحمد خيضر، هي من الأمور المعقدة لكن لا عجاج صحراوي عليها. ودون الجزم حول أُبُوَّةِ ونسب هذه الفكرة (أي جعل يوم 20 غشت مناسبة للتضامن والعمل المشترك على طريق توحيد المغرب العربي). وهل هي من بنات أفكار المغاربة أو الجزائريين. ودون القطع في مكان ميلادها لأول مرة بالضبط وهل هو القاهرة أم مدريد أم تطوان. فإن الروايات المختلفة التي استمعنا إليها من شخصيات مغربية وجزائرية ومصرية عايشت تلك الفترة، تؤكد أن المسألة كانت موضع مناقشات مستفيضة في العواصم التي كان يجتمع فيها المسؤولون المغاربة والجزائريون من أجل التخطيط لمستقبل المغرب العربي. المشترك الآخر، أو السمة الجامعة بين أحداث 20 غشت المغربية والجزائرية هو أنها شكلت قطيعة جذرية متعددة الأبعاد في تاريخ البلدين وفي مسيرة المغرب العربي كله. وهذه الكلمات «قطيعة جذرية متعددة الأبعاد» تستوجب شرحا ربما أبعدنا الخوض فيه عن مجال التاريخ الظرفي الذي نحن بصدد معالجته. نقصد أن ما جرى في ذلك اليوم أدى مباشرة بالسلطات الفرنسية للدخول في مساومة مع رموز الحركة الوطنية المغربية، أسفرت عن إعلان الاستقلال في الشروط والملابسات المعروفة وأسفرت بالنتيجة عن توقيف حركة توحيد المغرب العربي، هذا هو البعد الأول من تلك القطيعة الجذرية. أما البعد الثاني فيتمثل في «إبعاد» العناصر ذات الجذور الشعبية التي ساهمت في النضال منذ الأيام الأولى عن مراكز التقرير والتوجيه في قيادة الدولة الوطنية المغربية وإسناد مهمات المرحلة الجديدة إلى الجماعات ذات الجذور البورجوازية والإقطاعية. أما البعد الثالث للتحول وهو من المفارقات السياسية الفاقعة في التاريخ فيتجسد في أن ذلك اليوم (20 غشت 1955) الذي كانت الفكرة الرائدة من وراء اختياره أن يصبح رمزا للوحدة المغاربية وحافزا لها تحول إلى بداية لمسيرة قطرية منفردة، اتخذ فيها كل واحد من الطرفين الأساسيين فيه (أي المغرب والجزائر) وجهة مستقلة ومتناقضة، وأصبحت الدولتان وبعض الحركات والشخصيات توظفه لتأكيد مقولات أصالة وطنية مزعومة أنشأوها أصلا لتجاوزها إلى الانتماء المغاربي الأوسع والأشمل. المشترك الثالث أو السمة الجامعة بين أحداث البلدين، في ذلك اليوم هو أنها جاءت من مناطق لم يكن متوقعا أن يحدث فيها شيء. وجاءت في نفس الوقت لتؤكد تقارير الاستخبارات الفرنسية التي كانت تتحدث عن وجود بداية تنسيق عسكري على مستوى الساحة المغاربية كلها. ويشير جلبير غرانفال، في كتابه المذكور آنفا، إلى أنه عندما حضر إلى المغرب وفي نيته إصلاح الأوضاع الإدارية والاقتصادية لتجنب الانفجار العام، وبدأ يفكر في معالجة وضع السلطان بن عرفة وفي الاتصال مع الحركة الوطنية، أنذره كبار الموظفين بأنه سوف يُفجر ثورة عارمة يقودها القواد والباشاوات ورجال القبائل. كما يذكر أن الخوف كان يأتي أساسا من الدارالبيضاء ومن المدن الكبرى، ثم جاءت الوقائع لتفند كل هذه التوقعات : فقد قامت الانتفاضة في قلب جبال الأطلس، لا بتوجيه من «كبار قواد الجنوب والجبل» من أجل إبقاء المخزن الاستعماري، ولكن كنتيجة لعمل تنظيمي، يهدف إلى نسف الجسور، بوجه كل من يريد المساومة على هوية البلاد وسيادتها. لم تأت الانتفاضة لا من الدارالبيضاء ولا من المدن الأخرى، كما كانت تتوقع التقارير وإنما انطلقت شرارتها من العمود الفقري، وأخمدتها وأطفأت جذوتها المفاوضات المباشرة في إيكس ليبان، الشيء نفسه حدث في الجزائر : لم تأت الهبة المتوقعة من العاصمة ولا من بلاد القبائل ولا من وهران، وإنما حصلت في «القلب-الهامش». أي في تلك المنطقة التي يطلق عليها الجغرافيون «منقار البطة»، وذلك هو العنصر الآخر المشترك والجامع الناظم لوقائع 20 غشت الجزائرية المغربية : إنه ما يسميه ميغل «دهاء التاريخ» وهو قاعدة كونية كثيرا ما تغيبها الذاكرة قصيرة النظر. وإذن، فقد كان الفرنسيون ينتظرون أن تثور الدارالبيضاءوالرباط وفاس ومراكش، فثارت جبال الأطلس واشتعلت خنيفرةووادي زم. وكانوا يتوقعون أن تهتز الجزائر العاصمة ووهران، فإذا بهم يواجهون الثورة العارمة في سكيكدة وضواحيها، عبد الناصر أيضا كان ينتظرهم من الشرق فجاءوا من الغرب. والعرب كانوا ينتظرونها من عمان فجاءتهم من إفران، أو ليس ذلك هو تعريف المفاجأة، تأتي في زمان ومكان غير متوقعين؟ تبقى بعد ذلك، خصوصية الوقائع تكوينا ونتيجة مباشرة وفي المدى البعيد وهي قضايا معقدة ينأى بنا البحث في تفاصيلها عن الموضوع، لكن المهم بالنسبة للشق المغربي هو أنه عند ما جلس المتفاوضون حول المائدة المستديرة لتقرير مصير الشعب المغربي لم يكن بينهم واحد يتحدث باسم الذين حملوا السلاح. أما عندما حان موعد الحسم السياسي بعد ذلك بسبع سنوات في الجزائر، فقد كان السيد كريم بلقاسم، أحد مؤسسي جبهة التحرير ووزير الحرب في الحكومة المؤقتة هو الذي يرأس الوفد الجزائري.