أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. «بُدلت الأرض غير الأرض» : بهذه الجملة القصيرة، لخص لنا الأستاذ عبد الحميد المهري، الأمين العام لجبهة التحرير الوطني الجزائري، معنى الأحداث التاريخية الجارية بالمغرب العربي الأوسط، بدءا من خريف الغضب الدامي، لغاية ربيع الديمقراطية الصاخب، ذلك الفصل الذي يصل ذروته في الانتخابات البلدية والولائية المرتقب إجراؤها في الثاني عشر من الشهر الجاري. أربع كلمات، تحيل، في الذاكرة إلى واحدة من الصور القرءانية تتصل بلحظة درامية مرعبة من مواقف الحشر : «يوم تُبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار إلخ...». نعم، «بدلت الأرض غير الأرض» وفقا لتعبير المسؤول الأول في الحزب الحاكم، بدلت الأرض، وتبدل البلد، بل أكاد أجزم بأن الجزائريين كفوا عن أن يكونوا عربا، في الأقل بالمعنى السياسي المبتذل، المعاصر لحقبتنا الراهنة، أي مطلع العشرية الأخيرة من القرن العشرين المسيحي. أريد في مستهل هذه السلسلة من المقالات حول الجزائر، أن أبوح للقارئ بأنني سوف أكتب بانحياز موضوعي، أو للدقة بموضوعية منحازة، بل متعاطفة، عن لقاءاتي، مشاهداتي ومسموعاتي، خلال عدة زيارات متقطعة قمت بها للجزائر على امتداد الأشهر الأربعة الأولى من هذه السنة. سأكتب إذن، من هذه الزاوية المنحازة انطلاقا من اعتبارات كثيرة يأتي على رأسها أن ما يجري حاليا في الجزائر قد يكون في نهاية المطاف حاسما بالنسبة لمستقبل منطقة المغرب العربي كلها. والمغرب العربي، هو هذه المنطقة المترامية من وادي النيل شمالا وشرقا إلى ضفاف نهر السنغال جنوبا وغربا. موقع الجزائر في المركز من شبه الجزيرة المغاربية، جعلها، أي الجزائر، بالأقل منذ الفتح العربي، الإسلامي، في أواخر القرن السابع المسيحي وحتى مشارف القرن الواحد والعشرين بمثابة «مختبر استراتيجي» لمجموع شمال إفريقيا. «الحدث-الأم»، بالمعنى الاستراتيجي للكلمة، ظلت، منذ ذلك التاريخ السحيق وحتى الآن، هي مسرحه بامتياز، يحصل فيها ثم ما تلبث أن تمتد عواقبه إلى الأطراف. إنها بطن المغرب العربي حقيقة ومجازا. هي البطن، وما تَحْبَلُ به من إرهاصات وما يولده هذه الإرهاصات من هموم وهواجس وانشغالات، لابد أن يصيب الأعضاء الأخرى منه قليل أو كثير يؤثر، بهذه الدرجة أو تلك، في بقية الجسد، وكلمة البطن واردة هنا بكل ما تجره معها من تداعيات وإيحاءات تتصل بالصحة والمرض، الخصوبة والعقم، الخمول والنشاط إلخ... موضع الجزائر وموقعها منحاها هذه المكانة المتميزة. والموضع والموقع ثابتان ثبات قوانين «الجيو-ستراتيجيا» وتطور التقنيات والعقليات لا يغير من قيمتها ووزنهما وإشعاعهما في المحيط القريب والعيد. تتبدل التقنيات وتظل الثوابت المتصلة بديناميات الجغرافيا والتاريخ على حالها. يحل السلاح الناري محل السلاح اليدوي، وتكون الطائرة النفاثة بدل الحصان، وتأتي المدرعة بدل الدرع، والذبابة بدل الجمل، والصاروخ مكان السهم، والتنكس بدل الحمام الزاجل والمقالة الصحفية بدل القصيدة الهجائية ... كل هذه «المستجدات» الطارئة في حقل التفاعل الحضاري بين المجتمعات، لا تلغي قواعد الجيو-ستراتيجيا، بل إنها تدخل إليها حيوية جديدة، تجعل مفعولها يتضاعف وينتشر بسرعة غير مألوفة. المعارك الحاسمة، أي تلك التي كانت نهاياتها بدايات لعصر جديد في حياة منطقة المغرب العربي، كانت أرض الجزائر مسرح عملياتها الفاصلة. معارك الفتح العربي بقيادة عقبة بن نافع وحسن ابن النعمان في أواخر القرن السابع المسيحي دارت على مشارف الأوراس وتخوم الصحراء، قرب واحة بسكرة. الهزائم التي سجلها الفاتحون العرب الأوائل على طول ذلك الشريط الجبلي الرملي الممتد من القيروان، حتى الأوراس، أمام جيوش الكاهنة الأمازيغية والأمير الأمازيغي، كسيلة، أعقبتها انتصارات فتحت الطريق بالتدريج أمام المسلمين للانتشار بمجموع الشمال الإفريقي ثم العبور بعد ذلك إلى الأندلس، رأس القارة الأوروبية. الانتصارات ضد مملكة الكاهنة اليهودية المسيحية، في نهاية القرن السابع ميلادي، كانت بمثابة «الحدث-الأم» وما جاء بعدها إنما هو ثمرة طبيعية وتلقائية له. ما حدث لاحقا من انتشار وتوسع للحضارة العربية الإسلامية، ربما وجدت بذرته المخصبة الأولى في مكان ما بين جبال الأَوراس ورمال الصحراء الشرقية الجزائرية. فتح جبال الأوراس، «فَتَح» الطريق أمام المقاتلين العرب ليتدفقوا دون الاصطدام بمقاومات كبيرة في اتجاه الغرب. بعد الفتح العربي الإسلامي تحولت المنطقة، إلى مجال تاريخي واحد، ظل نشوء الدول والممالك والإمارات فيه، ثم سقوطها، وتوسعها وانكماشها، ازدهارها وضعفها، يتم وفقا لتفاعلات تتناوب فيها المدن والثغور والأرياف والبوادي والأدوار. «الحدث-الأم» الثاني هو سقوط مدينة الجزائر بين أيدي قوات الغزو الفرنسي في صيف 1830، سقوطا مهد الطريق لإدخال تونس والمغرب تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي. هذان الحدثان الحاسمان، أي الفتح العربي الإسلامي، ثم الغزو الفرنسي، هما اللذان صاغا ماضي المغرب العربي القريب والبعيد، وهما اللذان، بحكم ما تركاه فوق الأرض المغاربية، من حضارة وثقافة ولغة وعادات وعلاقات إنسانية وروابط، اقتصادية، تجارية وعلمية، ما يزالان، يتحكمان في حاضره ومستقبله. كل ما يجري الآن فوق أرض المغرب العربي من صراعات تحت لافتات العروبة والإسلام والحداثة والديمقراطية والنهضة والاستقلال والتبعية إلخ، يستمد شرعيته ومشروعيته، من الحدثين الأولين. «الحدث-الأم» الثالث هو الاستقلالات الوطنية التي نشأت أو أُنشأت بموجبها الدول-الأمم، أو بالأحرى «الدويلات الأمم». حقا إن المغرب وتونس حصلا على استقلالهما «الرسمي» قبل الجزائر، لكن من الثابت أن العامل الحاسم في «استعادة» السيادة لم يكن فقط هو المقاومات المجيدة التي جرت فوق أرض المغربين الأدنى والأقصى، وإنما هو أيضا، وبالخصوص ما جرى في بلاد المغرب الأوسط. في كلام مختلف فإن ثورة أول نوفمبر في الجزائر 1954 كانت العامل الفاصل الذي دفع الفرنسيين إلى الإسراع بإعادة ملك المغرب محمد الخامس من منفاه في مدغشقر للتفاوض معه، من أجل إطفاء جذوة الحرب الناشئة في المغرب الأقصى. كما كانت ثورة نوفمبر وراء الإسراع بدخول باريس في مفاوضات ماثلة مع الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة. لقد كان هدف السلطات الفرنسية من وراء الاعتراف بمطالب الحركات الوطنية في تونس والمغرب، هو خلق ظروف مواتية تمكنهم من التفرغ لقمع الثورة التي كانت تقودها جبهة التحرير الوطني في المغرب الأوسط. كانت الحركات الوطنية في شمال إفريقيا، أي حزب الاستقلال وحزب الدستور وجبهة التحرير الوطني، وتحديدا أجنحتها المسلحة الوليدة، أي جيوش التحرير المغربية والجزائريةوالتونسية، قد أكملت سلسلة من الاتصالات والمشاورات دار أغلبها في مدريد والقاهرة، بمشاركة ممثلي الأقطار الثلاثة من أجل وضع هياكل قيادة موحدة والقيام بأعمال مشتركة ذات طابع رمزي يؤكد وحدة الوطن المغاربي. وقد تجسدت هذه الخطة القتالية الوحدوية يوم 20 غشت 1955 بصورة عنيفة في تلك الانتفاضة الدامية التي كان مسرحها الشمال القسنطيني بالجزائر والأطلس المتوسط بالمغرب. في الشمال القسنطيني وفي مدينة سكيكدة تحديدا، وفي الأطلس المتوسط، وتحديدا مدن بني ملال وخنيفرة ووادي زم، شن المقاومون الجزائريون والمغاربة، في يوم الذكرى الثانية لنفي السلطان الشرعي المغربي محمد بن يوسف، هجمات واسعة ضد أشخاص المستعمرين وممتلكاتهم وأعوانهم المحليين. وكانت حصة الأسد من هذه العمليات الموحدة من نصيب الجزائر، التي اعتبرت انتفاضة الشمال القسنطيني فيها، لاحقا، وفي نظر جميع المؤرخين، بمثابة نقطة اللاعودة في مسار ثورة التحرير الجزائرية. الصراعات التي انفجرت في كل مكان من المغرب وتونس غداة الاستقلال، بين مختلف أطراف المقاومة، ثم الخلافات الحدودية التي نشأت بعد استقلال الجزائر، وما أفرزته من شوفينيات ضيقة، سوف تدفع منتجي الأدبيات التاريخية إلى طمس هذه الصفحات المضيئة من تاريخ مغربنا العربي. الحدث-الأم الرابع هو استقلال الجزائر في صيف 1962. وهنا نجد مرة أخرى الثوابت الجيو-ستراتيجية. لقد كان سقوط المملكة اليهودية المسيحية بجبال الأوراس ضربا من معركة ستالينغراد في مسيرة الفتوح العربية الإسلامية لشمال إفريقيا، وكان سقوط مدينة الجزائر عام 1830 إيذانا بوقوع المنطقة كلها تحت الهيمنة الغربية، وسوف يكون خروج الجزائر من هذه الهيمنة بداية لعهد جديد ما نزال نعيش مضاعفاته إلى اليوم، وهذا الحدث يستحق منا وقفة أطول من سابقيه لاتصاله المباشر بالأحداث الجارية حاليا في الجزائر. وبين يدي وأنا أحرر هذا المقال وثيقة مهمة، تلقي ضوءا كاشفا على نقطة من نقط ملف الخلاف الجزائري المغربي حول الحدود وكيف عالجته الدولة الجزائرية وهي ما تزال في طور المهد. وأنا أورد هذه الوثيقة كنص تاريخي يفسر موقف الجزائر ويفسر بصورة غير مباشرة انعكاس هذا الموقف على العلاقات المغربية الجزائرية، التي كانت وأظن أنها سوف تظل العنصر الحاسم في بناء المغرب العربي أو عدم بنائه. ولا أظن أحدا يختلف معي في أن هذين البلدين، بحكم عوامل بديهية معروفة بما فيه الكفاية لدى الجميع هما العمود الفقري للمنطقة. من الممكن مثلا أن تتوحد الجزائر وليبيا وتونس ولكن هذه الوحدة، إن تمت على أساس عزل المغرب وتهميشه ومحاولة فرض بعض السياسات والحلول عليه، لن تكون أكثر من محور جديد، يعزز حالة التجزئة القائمة، ومن الممكن أن يتوحد المغرب وموريتانيا، ولكن هذه الوحدة، إذا نظر إليها الآخرون نظرة شك لابد أن تعمق هي الأخرى من عوامل الانقسام الموجودة. ومن الجائز أن تتحد ليبيا وتونس وأن تنضم إليهما موريتانيا، أي من الممكن أن يتحد قطران أو ثلاثة أقطار، إلا أنه من الثابت أن إبقاء المغرب أو الجزائر أحدهما أو كلاهما خارج أي مشروع وحدوي، لابد أن يحكم عليه الفشل. أقول هذا وأرجو أن يكون القارئ طويل النفس معي وأن لا يتسرع في إصدار الأحكام أو الخروج بخلاصات متسرعة قد لا تتلاءم. وما يخيل إلي منذ الآن أنني سأوظف هذه الوثيقة لإبرازه، من وقائع لها اتصال وثيق بالوضع الراهن في الجزائر وبالآفاق الجديدة التي يفتحها أمام قطار وحدة المغرب العربي. الوثيقة تأخذ أهميتها من كونها، أو هذا مبلغ علمي في الأقل، أول رواية كاملة تصدر عن مسؤول جزائري، من صناع القرار السياسي، في نص مكتوب موجه إلى الجمهور الواسع، وهي متوفرة في كتاب صدر بالجزائر العاصمة خلال الأسبوع الأخير من شهر مايو 1990 بعنوان : «المصادفة والتاريخ Le hazard et l'histoire» مؤلف من جزئين يقعان في حوالي تسعمئة صفحة من الحجم المتوسط. وكان هذا الكتاب، بعد صدوره قبل بضعة أيام حدث الموسم السياسي والفكري. وقد شاهدت شخصيا عشرات الأشخاص يتزاحمون أمام مكتبات العاصمة لشرائه، وكأنهم يبحثون عن بضاعة جديدة توشك أن تفقد من السوق. وكان السؤال الوحيد الذي يطرحه الصديق على صديقه خلال الأسبوعين الماضيين، حين يلقاه في الشارع أو في العمل أو في المقهى أو في أي مكان آخر : هل قرأت كتاب : «المصادفة والتاريخ»؟ وقد نفدت من مخازن المكتبات النسخ المتوفرة وحصل انقطاع في تزويدها بها بسبب صعوبات في التوزيع الأمر الذي أدى إلى ميلاد إشاعة قوية تؤكد بأنه تمت مصادرته. وكتاب «المصادفة والتاريخ» مثل حياة الرجل الذي قدم مادته الخام، وليد «المصادفة والتاريخ» حقا. أما الرجل فهو السيد عبد السلام بلعيد وزير الصناعة والطاقة في عهد الرئيس هواري بومدين، وأما المؤلفان، إن صح التعبير، فهما علي الكنز ومحفوظ بنون، الأستاذان بجامعة الجزائر، أحدهما، وأظنه علي الكنز يسكن شقة بعمارة في حي حيدار، مجاورة للعمارة التي يقيم بها الوزير السابق. كان هذا الأستاذ الجامعي، وهو من أبرز ممثلي مدرسة السوسيولوجيا الجزائريةالجديدة، مع صديقه وزميله محفوظ بنون، ينوي القيام بدراسة ميدانية عن مركب صناعة الفولاذ المعروف بمركب الحجار في عنابة، ولما كان عبد السلام بلعيد هو أب الصناعة الجزائرية، فقد سعى إليه الأستاذ الجامعي للاستنارة بمعلوماته، كان من المفروض أن يجري معه أحاديث حول بناء المركب لا تستغرق أكثر من جلستين أو ثلاث جلسات، كما ذكر ذلك في مقدمة نصه، لكن المناقشات الأولى، كشفت للباحث أنه أمام قارة عذراء كاملة، مليئة بالأسرار والألغاز، أسرار قصور السلطة، وأكاذيب الصحافة الرسمية وصخب الخطاب الإيديولوجي، وهي معطيات كانت تغطي الواقع المر بأردية سميكة من أوهام ظل الجميع، إلى غاية خريف الغضب الدامي، يأخذونها على أنها حقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.