أي أسرار تلك التي تقف وراء الموقف الجزائري الرسمي المثير من القضية الليبية؟.. هل الأمر مجرد مزاج سلطة عسكرية حاكمة بقصر المرادية بالجزائر العاصمة، منغلقة على نفسها، حالمة أن تكون القوة الإقليمية الأولى بكل الشمال الإفريقي، أم أن تمة منطقا أكثر صلابة للدولة الجزائرية، يتأسس على حسابات جيو ستراتيجية مركبة؟.. هل النواة الحاكمة في بلاد الأوراس، خائفة من الآتي بخرائطه السياسية الجديدة في كل الشق العربي لإفريقيا، أم أنها (كعادة ديبلوماسيتها الماكرة) تعمل في الميدان بصمت، ولا تتموقف سياسيا سوى بعد أن تكون قد هيأت الأرضية المادية للتحرك؟.. أليس أنها، هنا مرة أخرى، إنما تعمل ببرودة دم وتفكير براغماتي، من أجل أن تنجح في «حلب النملة»، بما يحقق لها مصالحها التي تراها حيوية، عبر آلية تفاوض تكون حاسمة؟.. الأسئلة كثيرة، ولو تتبعنا خيوطها لأخدتنا إلى جغرافيات مدوخة محيرة. لكنها في الواقع إنما تترجم مدى القلق المستبد بكل من له تعالق مع الملف الجزائري - الليبي. وهذا «الكل» هو من التعدد ما يسمح بحصره في بابين كبيرين: هناك الدول المحيطة بهما جغرافيا (تونس، النيجر، مالي، التشاد، السودان، مصر، موريتانيا والمغرب). ثم هناك كل الدول الكبرى، القوية اقتصاديا وماليا وعسكريا، التي لها مصالح حيوية، مع ما تختزنه رمال الساحل من ثروات هائلة. بالتالي، سيكون من الخطل اعتقاد أن ما يبرز على السطح من مواقف هنا وهناك، في الجزائر العاصمة وفي بنغازي (المؤقتة)، هو تصفية حسابات وردود أفعال انفعالية، بسبب هذا الموقف أو ذاك من السلطة الحاكمة في الجزائر اتجاه الثورة الليبية ومسارها الناجح لإسقاط واحد من أفظع الأنظمة الديكتاتورية في إفريقيا، أي نظام عائلة القدافي. الحقيقة، أن ذلك ليس سوى مقدمة لما قد تصبح عليه العلاقات بين الدولتين في القادم من الأيام. وهنا ربما علينا أن لا نستهين بقدرة «الجماعة العسكرية الحاكمة في الجزائر» على التأثير على الإستقرار السياسي في ليبيا. وهي لن تتوانى في استعمال كل الوسائل لتحقيق ذلك، بما يجب لها من تغليف ديبلوماسي ، ما لم تتوافق طرابلسالجديدة، مع مصالحها. ولها أوراق وازنة كي تنجح في ذلك بهذه النسبة أو تلك، وبالقدر الذي سيسمح به أيضا، منطق المصالح الخارجية المتداخلة اليوم مع تطورات الملف الليبي، خاصة في اتجاه باريس وروماولندن. فيما ستكون واشنطن لاعبة ماهرة للتوازنات، حتى تقلم من العودة القوية لباريس وبعدها لندن في حوض البحر الأبيض المتوسط عبر البوابة الليبية. لكن، ما هي الأدلة على ذلك كله؟.. أو بصيغة أخرى، ما الذي يقلق الجزائر من تطورات القضية الليبية؟.. وحين نقول «القضية الليبية»، فلأننا أمام لحظة جديدة للتاريخ تصنع في كل الشمال الإفريقي من قناة السويس حتى مضيق جبل طارق، ومن رأس المندب حتى نهر السنغال.. الحقيقة أنه لا يمكن فهم أسباب القلق الجزائري، الذي هو وراء مواقفها الأخيرة، التي تبدو ملتبسة، ومتدبدبة في تعاطيها مع التطورات الميدانية بليبيا، دون استحضار خصوصيات تميز علاقات البلدين منذ أكثر من قرن من الزمان. لقد دعم بوتفليقة القدافي ماديا، في ورطته أمام شعبه، وأنكرت حكومته ذلك علنا. بل إنها حاولت أن تستثمر الأمر في حربها المعنوية المفتوحة مع المغرب، من خلال السعي إلى تصدير الإتهام إلى الحكومة المغربية، بدعوى أنها هي من وراء تحريك تلك التهم عبر ما تتوفر عليه من «لوبي أمريكي « في واشنطن. وسارع الوزير الأول الجزائري السيد أويحيى ليعلن من خلال ذلك أن مسألة فتح الحدود بين الشعبين المغربي والجزائري غير واردة. وحين يقول أويحيى ذلك، فالأمر مفهوم، كونه المرشح فوق العادة للمؤسسة العسكرية الجزائرية، المرشح لرئاسة الجزائر، وكلما صعد من لهجته تجاه المغاربة، كلما كسب رضى «جماعة الجنرالات» الوازنين في اللعبة السياسية لجارنا الشرقي . لكن توالي الأدلة الدامغة، أضعف تلك الخرجة الفاسدة منه اتجاه المغرب، الأدلة التي ليس آخرها، ما تسرب من أسرار ضمن الوثائق الرسمية للقدافي، التي تفيد أن تمة صفقة مهمة جدا للأسلحة، كانت تتم بين نظام عائلة القدافي والحكومة الصينية، في الربع ساعة الأخيرة من عمر النظام، وأن نقل تلك الدخيرة كان مقررا أن يتم عبر جنوب إفريقيا والجزائر. وقد جاءت لتضاف لواقع اعتقال مرتزقة من البوليساريو في باب العزيزية بطرابلس وفي مدينة الثوار التاريخية بليبيا، مدينة الفكر الحر، والعلماء، ومدينة المعارضة الدائمة للقدافي، مدينة الزاوية، التي لا تبعد عن طرابلس سوى بخمسين كلمترا. الأمر الذي سيكون ورقة حاسمة في أية مفاوضات تكون انطلقت بين المجلس الوطني الإنتقالي الليبي لرسم خريطة علاقاته الجديدة مع الجزائر. في سياق محاولة فهم ما يجري بين ليبيا الحرة، والسلطة الجزائرية، لا يمكننا إسقاط معطى حاسم تاريخيا، يحكم طبيعة العلاقة بين النظامين، كونه المقدمة الكبرى لفهم كل التعالقات التي تميز ملف العلاقات بين الدولتين. هذا المعطى، مرتبط بقيام وتحقق فكرة الدولة في البلدين معا. فهما معا دولتان حديثتان جدا، بالمعنى السياسي والقانوني للدولة، كما تحدده المواثيق الدولية ما بعد الحربين العالميتين وتأسيس عصبة الأمم وهيئة الأممالمتحدة. وكلاهما ظل يتبع سياسيا منذ قرون لتاج ملك خارج أراضيهما، إما شرقا (الأمويون والعباسيون والفاطميون والعثمانيون) أو غربا (الموحدون والمرينيون والسعديون، في مراكشوفاس). وكانت أراضيهما المحددة اليوم، جغرافيا في خرائط العالم، تتوزع بين هذه الإمارة أو تلك، التي يحكمها هذا القائد أو ذاك، الذي على تزكية سياسية (دينية) من هذا الخليفة الأموي أو ذاك العباسي، ومن هذا السلطان الفاطمي (الشيعي بمصر وفلسطين) أو ذاك السلطان العثماني في الباب العالي بالقسنطينية. هكذا، فإن فكرة الدولة حديثة جدا عندهما معا، أي الدولة المستقلة بذاتها ولذاتها، والتي لها تراكم في التدبير الإدراي، المفضي إلى بروز هوية متميزة تسمح بنعت جماعة بشرية أنها موحدة بالتراكم الحضاري فوق أرض معينة، كما تحقق مثلا مع الجماعة البشرية التي تعرف بالمغاربة، أقله على مدى القرون الخمسة العشرة الأخيرة. بل، إن نواة الدولة الأمازيغية التي تبلورت في هذه الجغرافية الشاسعة، ما قبل مجيئ الدعوة المحمدية، في صراعها مع بيزنطة والرومان، والتي كانت تقسم إلى بلاد «موريطانيا القيصرية» شرقا باتجاه مصر، وبلاد «موريطانيا الطنجية» غربا، لم تتبلور لأسباب عدة، يضيق المجال هنا بتدقيق أسبابها، والتي تحصر في أسباب اقتصادية محضة، كونها كانت مندرجة في دورة الإنتاج الإقتصادي الروماني، وحين انهيار تلك الدورة الإقتصادية أمام الصعود الهائل للدولة الإسلامية، خبى الدور الإستراتيجي لتلك الدول الأمازيغية. هكذا نجد أن أهالي الجغرافية الممتدة من برقة شرقا حتى وهران غربا، قد توزعها حكم قواد جيش، انتسبت لهم مماليكهم، بحسب أسماء قادتهم الكبار المؤسسين. مثل الرستميين (نسبة إلى عبد الرحمان بن رستم) والأغالبة (إبراهيم بن الأغلب) والزيريين (الزيري من مناد الصنهاجي) والحماديين (حماد بن بلكين) والزيانيين (أبويحيى يمغراسن بن زيان)، ثم عهد البايات وعهد الباشوات وعهد الدايات، وعهد الأغوات، بالتحديد السياسي العثماني (أي فرمانات السلاطين، التي هي قرارات التعيين السلطانية العثمانية التركية). وهذه المماليك كانت تتسع وتضيق حسب قوة عسكرها بين مدن الجزائر الحالية وتونس وليبيا، على امتداد الشريط المحاذي للشواطئ المتوسطية، وكان نفوذها جنوبا نحو الصحراء شبه منعدم. مع تسجيل معطى تاريخي هو أن ليبيا ظلت موزعة تاريخيا بين الفاطميين في مصر وبين هذه العائلات غربا، وأنها تميزت عموما بالتوزع بين ممالك برقة شرقا ونفوسة غربا وفزان جنوبا، التي تكونت تبعا لخطوط تجارية حاسمة. برقة لعلاقاتها مع مصر وكل المشرق العربي، ونفوسة لموقعها الإستراتيجي (طرابلس اليوم) باتجاه الغرب وباتجاه البحر صوب إيطاليا وصقلية ومالطا، وفزان باتجاه بلاد الطوارق وأساسا عاصمتهم التاريخية الحاسمة «أكاديس أو أكاديز». وواضح الجدر الامازيغي للتسمية هنا (أي أكادير التي تعني الحصن أو الخزان). التحول سيحدث مرة أخرى في هذه البلاد بسبب تدخل العامل الخارجي، الذي هو الإحتلال الأروبي الإستعماري. وأساسا الإحتلال الفرنسي لبلاد الجزائر وتونس (والتسمية هنا للبلدين تمت من قبل العثمانيين، حيث نسب البلد كله لأهم مدنه)، ثم الإحتلال الإيطالي لأهم أجزاء ممالك ليبيا الثلاث. البداية كانت بالجزائر سنة 1830 ثم تونس سنة 1880، ثم طرابلس الغرب سنة 1911. هنا تكونت أنوية الدولة الحديثة في تونس وليبيا والجزائر، وهي أنوية تكونت بتحديد للخرائط من قبل الإستعمارين الإيطالي والفرنسي والبريطاني. و كان عاديا أن نجد أراضي من إقليم نفوسة وفزان الليبيين تحت السيطرة الفرنسية في زمن من الأزمنة، لأن الإستعمار الفرنسي كان أسبق من الإيطالي، وأن نجد روما تقاوم بهذا الجهد أو ذاك، حسب ميزان القوى، لتوسيع نفوذها غربا وجنوبا في البلاد التي سميت ليبيا. الخلاصة، هي أن الدولتين الجديدتين وجدتا أمامهما ترتيبا للخريطة تم بحساب خارجي، مما جعل الخلاف قائما حول ترسيم الحدود بين طرابلس والجزائر العاصمة. وهي الحدود التي لم ترسم ولم تحدد قط، وهي مشكل عويص بين البلدين. وهو أول الملفات الشائكة الذي يقلق عاليا الجزائر، بل إنه ملف عالي الحساسية هناك، بسبب أن كل الأراضي الحدودية الجزائرية لم يكن عليها إجماع قط. وإن كانت قد حسمت قانونيا إشكالاتها الترابية مع تونس من خلال ترسيم رسمي ونهائي للحدود، فإنها مع المغرب لم تفلح في ذلك تماما (لأن ترسيم الحدود لسنة 1972 لم يصدق عليه قط البرلمان المغربي إلى اليوم، وأنه اتفاق بين الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين وما لم يصدق عليه لا قوة قانونية له)، مثلما أنها لم تحدد قط حدودها الترابية رسميا مع ليبيا. ليبيا التي كان ملكها السنوسي يطالب دوما الرئيس الجزائري بومدين بضرورة ترسيم الحدود دون فائدة، فيما ظل القدافي متجاوزا عن الأمر ولم يطرحه قط كنقطة ذات أولوية في علاقات البلدين. واليوم وارد جدا أن تفتح «ليبيا الحرة» هذا الملف الشائك مجددا. وهنا نكون قد بدأنا نصل إلى بعض أسباب قلق جماعة جنرالات الجزائر من التحولات الليبية اليوم. الحقيقة أن هذا الملف قنبلة موقوتة حقيقية بين الشعبين، والتسليح الجزائري الضخم والقوي من السوق الروسية إنما يجد بعضا من أسبابه في الإستعداد لأي تهور عسكري من القدافي، المعروف بقوة ترسانته العسكرية الروسية أيضا. وقضية الحدود لم يحسم فيها حتى بين الدول الإستعمارية للبلدين سوى سنة 1950، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانهيار النظام الفاشي لموسوليني بروما، الحليف الأول لهتلر ضد الحلفاء. فقد وقع، حينها، اتفاق بين لندنوروما المنهزمة، عرف ب «اتفاق بيفن و سيفورزا»، يقضي بفرض الوصاية الإيطالية على إقليمطرابلس، والوصاية البريطانية على إقليم برقة، وترك إقليم فزان الجنوبي الغني بالثروات الباطنية لفرنسا. وهو الإتفاق الذي وقع عليه يوم عاشر مارس 1949، ووافقت عليه اللجنة المختصة بالأممالمتحدة يوم 13 ماي 1949، وعرض على التصويت في جلسة عمومية للأمم المتحدة ولم تتم الموافقة عليه، بسبب الموقف الأمريكي والسوفياتي الخفي. فصدر قرار آخر هو القرار الأممي رقم 289 بتاريخ 21 نونبر1949 القاضي بتوحيد ليبيا، فتكونت جمعية تأسيسة ليبية سنة 1950 تضم ستين عضوا، عشرون عضوا من كل إقليم من الأقاليم الثلاثة الكبرى، وهي برقة ونفوسة طرابلس وفزان. وهي الجمعية التي وضعت دستورا للبلاد واتفقت بعد نقاشات حادة ترأسها مفتي طرابلس، على اختيار إدريس السنوسي، ملكا للبلاد، مع الإبقاء على شكل حكومات محلية في الأقاليم الثلاثة المذكورة، إلى أن جاء التعديل الدستوري ليوم 26 ابريل 1963 ليقرر وحدة ليبيا الملكية. واليوم كلما أراد الليبيون والجزائريون الإرتكاز على رسم للحدود لا يجدون أمامهم سوى ذلك التقسيم القديم الفضفاض الموقع بين روما وباريس في بداية القرن العشرين. وهو التقسيم الذي تعتبر فيه طرابلس أن أجزاء كبرى من أراضيها الكلاسيكية في إقليمي نفوسة وفزان قد ألحقت ظلما بدولة الجزائر الجديدة. وأن الإستعمار الفرنسي عمل على ذلك الإلحاق لأغراض اقتصادية واستراتيجية محضة. ها هي فرنسا تعود اليوم للعب دور خارجي جديد حاسم في ليبيا الجديدة بالتخلص من ديكتاتورية القدافي، وربحت عودة قوية لها إلى المتوسط، بعد أن فقدت قوتها الإستراتيجية الكبرى في الإتحاد الأروبي أمام ألمانيا، منذ سقوط جدار برلين. وسيسجل التاريخ أن ساركوزي لعب دورا حاسما في إعادة القوة للورقة الفرنسية أروبيا وعالميا. وهذا مما يقلق الجزائر كثيرا. بل إن ذلك القلق يتعاظم، حين ندرك أن مسألة الخلاف الحدودي مرتبطة بحقول البترول والغاز والفرشات المائية الهائلة بإقليم فزان، وكذا بثروات اليورانيوم الهائلة في بلاد الطوراق الممتدة بين النيجر والجزائر وليبيا. وكم أهانت قوات الدرك الجزائري التابعة للجيش المكلفة بمراقبة الحدود كبار جنرالات الجيش الليبي، في مهمات رسمية لهم رفقة مبعوثين أروبيين مكلفين بتتبع شبكات الهجرة السرية وتجارة البشر، والتي في مرات عدة، آخرها سنة 2009، كادت تتحول إلى مواجهات مسلحة. بسبب اعتبار القوة الجزائرية أن تلك السلطات الليبية قد تجاوزت التراب الليبي إلى التراب الجزائري، حتى وجنرالات القذافي يصرون على العكس. إن تتبع خريطة حقول البترول والغاز بين البلدين تجعلنا نقف عند معطى هام، هو امتداد «حقل غدامس» (وغدامس هي أول مدينة ليبية على الحدود مع الجزائر والقريبة جدا من أقصى الجنوبالتونسي) من الجزائر صوب الأراضي الليبية. وبه أكبر حقول النفط الجزائرية، حقل حاسي مسعود الشهير والغني جدا. و ثلث ذلك الحقل النفطي يقع داخل الأراضي الليبية، مما يتسبب من شنآن كلامي دائم حول من يمتص بترول الآخر. (مع الإشارة أن أهم حقول ليبيا تقع في الوسط الشرقي قرب مدينة سرت، ويسمى حقل سرت الكبير. وهناك حقول أصغر في منطقة الحمرا غربا ومنطقة مرزوق في الجنوب الغربي قريبا من سبها). مثلما أن ليبيا والجزائر تتقاسمان حقلا مهما للغاز، مناصفة، هو حقل إليزي. علما أن أكبر حقول الغاز الجزائرية توجد في وسط الجزائر بمنطقة حاسي الرمل. والمستفيد الأكبر من عدم رسم تلك الحدود، هي الجزائر، كونها ورتث حدودا حددتها باريس الإستعمارية بالغصب والقوة، ولم تكن روما الإستعمارية من القوة العسكرية لفرض توازن في تحديد المصلحة الإقتصادية آنذاك. لكن، ضخامة هذا الملف الخلافي على الحدود بما يسيله من لعاب التمكن من الثروات البترولية والغازية بمداخيلها التي تقدر بملايير الدولارات، تتراجع أمام القلق الآخر الكبير الذي يشكله ملف الطوارق بالنسبة للسلطات الجزائرية، وارتباط ذلك الملف بالثروة الهائلة لليورانيوم في شمال النيجر، الذي تسعى للتحكم فيه كل من طرابلس والجزائر العاصمة وباريس. تجدر الإشارة، هنا، أن حجم الثروة البترولية لليبيا يصل اليوم إلى حوالي 42 مليار برميل، ما يجعلها في المرتبة الأولى إفريقيا ويشكل النفط 94 بالمئة من عائداتها التي تصل مع عائدات الغاز البالغ حجمه 37 ترليون متر مكعب، إلى 37مليار دولار سنويا، لتعداد سكاني لا يتعدى السبعة ملايين نسمة. وإذا ما تجاوزنا ملف الفرش المائية الهائلة في الحوض الممتد بين سبها الليبية وتمنراست الجزائرية، والقلق الذي أرق السلطات الجزائرية أمام مشروع النهر الصناعي العظيم للقدافي، الذي فشل عمليا. علما أن التحدي القادم أمام حكومات البلدان المغاربية ومصر، هو مشكل ندرة المياه، بما قد يستتبع ذلك من صراعات ربما تتطور إلى صراعات مسلحة (خاصة بين ليبيا والجزائر). فإن الملف الأخطر المتفجر بين سلطات عاصمتي البلدين، هو مشكل الطوارق وفي القلب منه، التحكم فعليا في طريق الحرير الجديدة (مناجم اليورانيوم والفحم الحجري بشمال النيجر على الحدود بين البلدين). من خلال السعي للتحكم في القوة الإقتصادية المستعادة للمدينة الإستراتيجية التاريخية، «أكاديس» أو «أكاديز»، التي ظلت تعتبر تاريخيا عاصمة الطوارق الكبرى، وصلة الوصل الحاسمة بين شرق الصحراء الكبرى وغربها، وبين شمالها وجنوبها. أي بين بلاد السودان ودارفور (الغنية بالمياه والبترول) شرقا، وبلاد سبها وفزان الليبية في الشمال الشرقي، وبلاد تمنراست وصولا حتى حمادات تندوف وبعدها فاس عبر سجلماسة في الشمال الغربي، ثم بلاد تومبوكتو بمالي حتى أدرار بموريتانيا غربا. عمليا اليوم، هناك مثلث اقتصادي هائل مستعاد، خاصة بعد تعبيد طرق كبيرة بين تمنراست من الجهة الجزائرية وسبها من الجهة الليبية، بملايير الدولارات، مع مدينة «أكاديز» بالنيجر، وهذا المثلث أضلاعه تمتد على المنطقة الجغرافية الممتدة بين المدن الثلاث هذه. وفي القلب من هذا المتلث، تمة خلاف حدودي كبير بين طرابلس والجزائر العاصمة حول منطقة «الأحجار» خاصة الأراضي الممتدة بين بلدة «أغرات» الليبية وبلدة «دجانيت» الجزائرية. كونها مناطق استراتيجية حاسمة في بلاد الطوارق وفي التحكم في نقل ثروات اليورانيوم غير البعيدة منها. وهو اليورانيوم الذي اكتشفته سنة 1969. وأمام تعاظم الرهانات المالية على تلك الثروة القوية جدا، وبداية عودة الروح لمركز «أكاديز» التاريخي، استفاق مارد الطوارق من قمقم التاريخ، فحدتث «انتفاضة الطوارق» ما بين 1991 و 1995 التي لم تكن مخابرات القدافي بعيدة عنها، وسارعت الجزائر لاحتضان مفاوضات التسوية مع زعامات الطوارق الجديدة، التي انتهت إلى توقيع اتفاقية 24 أبريل 1995 مما سحب البساط من القدافي، وتسبب في أزمة ديبلوماسية صامتة بين البلدين بسبب احتضان طرابلس لجزء من زعامات الطوارق الجدد المنتفضين، مما اعتبر طعنة في الظهر من طرف الدولة الجزائرية. ولقد توسع ذلك المشكل ليشمل اليوم تجارة البشر في الهجرة السرية، ثم الأخطر من ذلك، بداية توسع التطرف في المنطقة، من خلال تواجد قيادات عناصر «القاعدة في المغرب الإسلامي»، وتفريخ مافيات تتاجر في كل شئ، من المخدرات الصلبة إلى اليورانيوم، إلى الهجرة السرية، إلى مواد الإستهلاك المختلفة، إلى السجائر المهربة، إلى اختطاف السياح والعاملين الأجانب بذلك المثلث الذي يبيض اليوم ذهبا. هنا كما يقول المثل المغربي «فكها يا من وحلتيها»، فقد كبرت المسألة. إن كبرالمسألة، الذي تخشاه الجزائر اليوم (وتخشاه معها قوى عظمى وازنة من حجم واشنطن) هو أن تكون عودة باريس إلى القضية الليبية، فرصة لتعزيز قوتها الهائلة في منطقة الساحل، الذي قد يجعلها تحيي بصيغة منقحة ما كانت تحلم به منذ الخمسينات من القرن الماضي، من مشروع «المجلس الجماعي للمناطق الصحراوية» الذي ترى فيه أن يضم الأجزاء الصحراوية للجزائر والنيجر ومالي وليبيا والتشاد. الذي ليس سوى مجال نفوذ الطوارق. هنا الصراع صراع نفوذ استراتيجي. وما يظهر من تخبط للسلطة الحاكمة في الجزائر، أمام تطورات الملف الليبي، إنما هو ترجمة لحجم تخوفاتها من المستقبل. والخوف كل الخوف أن تتحول الأراضي تلك إلى «تندوف» جديدة بمرتزقة جدد يتزعمهم سيف الإسلام القدافي، ضد حقوق الشعب الليبي، فتفتح الجزائر جبهة جديدة لوأد المغرب العربي. ملف صحرائنا الجنوبية بالمغرب، ربما هو أمام فرصة تاريخية غير مسبوقة للحل، إنصافا للحقوق المغربية التابثة في استكمال وحدته الترابية. ليس فقط لأن خبراء السلطة بالجزائر يدركون أن معادلات عدة تتبدل بشكل نهائي في كل الشمال الإفريقي. وهم مفروض يملكون ما يكفي من الذكاء السياسي لربح المستقبل المشترك. لأن غير ذلك سيكون ضربا من التحدي المجنون، الذي بمنطق «ربح الزبدة وفلوس الزبدة»، لن يجر كل المنطقة سوى نحو المجهول. وأخطر ما في ذلك المجهول هو أن تغرق جماعة الجنرالات هذه الشساعة المغاربية في صراع عسكري سيأتي على الأخضر واليابس. الحل هو في الإصلاح، في ذكاء تقاسم المصالح، وأيضا في تقوية البيت الداخلي للبلدان المغاربية، عبر ترسيخ الديمقراطية ودولة المؤسسات والحق والقانون بشكل لا رجعة فيه. ومن أبواب ذلك أيضا، فطنة استثمار فكرة «الحكم الذاتي»، التي ستحفظ ماء وجه الجزائر ليس فقط في ملف صحرائنا المغربية الغربية، بل أيضا في الملف الشائك الخطير للطوارق. هل تكون الجزائر أمام لحظة للتاريخ وتربح الرهان؟.. الجواب متروك للمستقبل.