إذا كان محمد حسن الوزاني قد تحدث عن خصومه الاستقلاليين (في الداخل) بما يفيد أنهم كانوا (في صيف 1955) يعرفون رأي القاعدة الحزبية «بخصوص الطريقة السليمة لحل النزاع مع فرنسا»، فإن المقيم العام جلبرت غرانفال قد خرج من محادثاته مع اليزيدي (يوليوز 1955) بانطباع أكد له أن الرجل الثالث في حزب الاستقلال «لا ينظر إلى قضية العرش إلا كواحدة من الحواجز التي يجب إزاحتها من الطريق المؤدي إلى فسخ معاهدة الحماية واعتراف فرنسا بالاستقلال». اليزيدي لم ينس وهو يتحادث مع غرانفال بأن محمد الخامس تم إبعاده لأنه تبنى المطالبة بالاستقلال في يناير 1944 ومن هنا فعودته خطوة لا مفر منها لانتزاع الاستقلال كمرحلة سيتمكن فيها المغاربة من تدارك الزمن الذي ضاع طوال سنوات الحماية للخروج من أوضاع التخلف التي كانت سببا في سقوط المغرب في الفخ الاستعماري لمعاهدة فاس: عند نهاية السنة الدراسية 1954-1953 لم يكن مجموع من حصلوا على الباكالوريا، بعد سنوات وعقود الحماية، يتجاوز 530 مغربيا مسلما و625 مغربيا من الطائفة اليهودية، ولم يكن عندنا أكثر من 36 طبيبا مغربيا (مسلمين ويهود) و5 أطباء أسنان و48 محاميا و30 مهندسا. وهذه أرقام هزيلة بالمقارنة مع ما كان ينتظر المغرب من مهام معقدة لتدارك التخلف الناتج لا فقط عن أربعين سنة من فترة الحماية، بل جراء مئات الأعوام التي ظلت فيها بلادنا معزولة عن المسيرة البشرية. حالة التخلف جعلت العديد من المغاربة يتوهمون أن إرسال أبنائهم إلى المدارس لتلقي العلوم باللغة الفرنسية، سيحولهم إلى نصارى. ولهذا لم يكن إقبال كبير علىالتعليم العمومي، ولم يحصل على الباكالوريا إلا العدد الذي ذكره «روبير ريزيت» في كتابه «الأحزاب السياسية المغربية» الصادر سنة 1955. هذا هو المغرب كما وجده القادة الوطنيون بعدما استعادوا حريتهم وأصبح من حقهم، بعيدا عن السجون والمنافي والمعتقلات، في أكتوبر 1954، أن يوزعوا الأدوار ويتقاسموا المهام. وحسب ما قال الأستاذ امحمد بوستة لمجلة «شؤون مغربية» فإن «فرنسيين متنورين أدركوا أن المصالح الحقيقية لفرنسا بالمغرب، أصبحت مهددة وأن لابد من البحث عن سبيل آخر، للدفاع عن هذه المصالح وكنت إلى جانب الحاج عمر والسي عبد الرحيم ننتقل عبر التراب الفرنسي لإبلاغ وجهة نظرنا ولشرح الحالة الناتجة عن نفي محمد الخامس». أما المهدي بن بركة فقد ظل بالمغرب إلى جانب اليزيدي لإعادة بناء الأداة الحزبية، كما حصل لهما سنة 1945 بعدما غادرا سجن لعلو بعد أحداث يناير 1944. وكان على المهدي في نهاية 1954 أن يعمل على تقوية علاقات الحزب بالتنظيمات النقابية من جهة وبحركة المقاومة المسلحة من جهة أخرى، والاهتمام بالشارع للمزيد من الضغط على السلطات الاستعمارية للتعجيل بحل قضية العرش لبلوغ الهدف الاستراتيجي للحركة الوطنية: إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال الوطني. وسيشارك اليزيدي وبن بركة في الوفد الاستقلالي إلى إيكس ليبان -كما هو معلوم- وبعد ذلك سيظهر السي المهدي في الواجهة طوال شهري أكتوبر ونونبر 1955 كناطق بلسان حزب الاستقلال في المرحلة التي ستعرف خلالها القضية المغربية تطورات سريعة. يوم فاتح أكتوبر 1955 تم إبعاد ابن عرفة عن الرباط واستقر بطنجة. وليلة ذلك اليوم انطلقت العمليات الأولى لجيش التحرير بجبال الريف بمنطقة سميت بمثلث الموت (أكنول، بوريد تسي وسلي) بضواحي تازة، وبعد أيام أشرف المقيم العام الجنرال «بوايي دي لاتور»، الذي حل في نهاية غشت بالمغرب محل «جلبرت غرانفال» على تأسيس مجلس «حراس العرش». في هذا الصدد، يقول «إدغار فور» في مذكراته (الصفحة 463) بأن معلومات وصلت إلى قصر «ماتينيون» يوم الأحد 18 شتنبر 1955، تتعلق بقرب نشوب ثورة تعم المغرب العربي في فاتح أكتوبر. ويقول رئيس حكومة فرنسا بأن الكولونيل «تويا» الذي سيتكلف بمهمة لدى المغفور له محمد الخامس، بعد عودته إلى عرشه، هو الذي قدم له هذه «المعلومات السرية». وعلى إثر ذلك يخبرنا رئيس الحكومة الفرنسية بأنه وجه تعليمات إلى المقيم العام الجنرال «بوايي دي لاتور». «بمجرد وصولك إلى الرباط، ستطلب مقابلة ابن عرفة وتشرح له الموقف وبعد خروجك من القصر، ستطلب من الصدر الأعظم تشكيل مجلس العرش». جريدة «السعادة» أخبرت يوم الإثنين 17 أكتوبر 1953 بأن مجلس حفظة العرش وجه نداء إلى الشعب يشير إلى أن المغرب قد دخل في عهد ديمقراطي جديد. ولوحظ أن الجريدة شبه الرسمية وضعت عبارة «ديمقراطي» بين قوسين.وقال أحمد بن سودة ليلة 20 أكتوبر من إذاعة الدارالبيضاء بأن «حزب الشورى والاستقلال يوافق على مجلس حراس العرش في شكله الحالي». وفي الغد أدلى الشهيد بن بركة بتصريح لإذاعة الرباط جاء فيه: «إن إضافة عضو رابع (الطاهر أوعسو) بإلحاح من المقيم العام الجنرال «بوايي دي لاتور»، رغم اعتراض حزبنا، قد أخلت بالتوازن المطلوب لأن (هذه الإضافة) رجحت كفة التقليديين (المغاربة المتعاونين مع الاستعمار) وهذا خروج عن شكل المجلس المتفق عليه في إيكس ليبان وكان جلالة الملك محمد الخامس قد قبله وأخبر بذلك وفد حزبنا الذي زاره في منفاه. أما ما يقال اليوم عن قبول صاحب الجلالة للتشكيلة الجديدة للمجلس، فيقتضي أن يتمكن جلالة الملك من إجراء استشارات واسعة في جو من الحرية الكاملة بعد رجوعه إلى فرنسا. ومع الأسف فهذا الرجوع الذي وعدنا المسؤولون الفرنسيون على أساس أن يتم في بداية أكتوبر، لم يتحقق لحد الآن». وانتهز المهدي بن بركة المناسبة لاستنكار تصريح صدر عن الحكومة الفرنسية في فاتح أكتوبر 1955 جاء فيه بأن «لعقد الحماية صيغة غير قابلة لتبديل أو تغيير مع أنه عقد يتنافى مع حق المغرب في السيادة. إن حزب الاستقلال، لا يستطيع أن يتنكر لمبادئه حتى يؤيد هذا الشكل الذي ظهر عليه مجلس العرش، كمؤسسة تولدت عن أجواء الارتباك وتحت ضغط غلاة الفرنسيين القاطنين بالمغرب، وأننا نأمل أن يتم في القريب، تدارك الأخطاء المرتكبة عند تأسيس مجلس حفظة العرش». هذا ما سيدفع الجنرال جورج سبيلمان، الخبير في الشؤون المغربية، والذي ظل خلال السنوات الأخيرة من عهد الحماية رجل الظل برئاسة الحكومة الفرنسية، ليقول في كتابه «من الحماية إلى الاستقلال» عن تلك المرحلة: «لم أكن أثق في نوايا رجال حزب الاستقلال اقتناعا مني منذ شهر يوليوز 1955، بضرورة إجراء استفسار متكتم، ولكن صريح مع الملك المبعد. ولكن «إدغار فور» (يقول جورج سبيلمان) سيبقى لمدة طويلة مترددا بشأن إجراء اتصالات مع الملك في منفاه». وبطبيعة الحال فكل اتصال مع الملك الشرعي لابد أن ينتهي بانتقاله من منفاه بمدغشقر ليستقر في فرنسا، وهذا بالذات ما قال عنه رئيس الحكومة الفرنسية «إدغار فور» (الصفحة 439 من مذكراته): «ظل تاريخ وصول الملك إلى فرنسا غير محدد. كنا نعرف أن هذه كانت النقطة الأصعب من غيرها من نقط «مفاهمة» إيكس ليبان، من حيث تمريرها من لدن المحافل السياسية الفرنسية». مجلس حفظة أو «حراس» العرش بمجرد الإعلان عن تأسيسه بأربعة بدلا من ثلاثة (الصدر الأعظم محمد المقري، امبارك البكاي باشا صفرو السابق، محمد الصبيحي باشا سلا والطاهر أوعسو المطعون فيه من طرف حزب الاستقلال)، انتقل إلى مرحلة تكليف الفاطمي بن سليمان باشا فاس سابقا بمهمة تشكيل حكومة المفاوضات وهي على كل حال حكومة كان عليها أن تحل محل الهيئة المخزنية التي يرأسها الحاج محمد المقري منذ 1917، ولكن الفاطمي بن سليمان لم يكن يتوفر على حظوظ حقيقية للوصول إلى هذه الغاية. يصف جورج سبيلمان الفاطمي بن سليمان في كتابه ب«الرجل العاقل، المحتاط والرزين» والذي «يرى بأن ثمة مبالغة في الاعتبار الذي يحظى به زعماء حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال من طرف المسؤولين الفرنسيين». ويضيف باشا فاس السابق حسب شهادة جورج سبيلمان: «هذا ما يضايقني باعتباري سأترأس حكومة المفاوضات ولهذا ستكون مهمتي عسيرة».