على نفس الطاولة جلست أرتشف قهوتي الصباحية الهادئة،أرسم خطوط حلمي بالتحديق في الفنجان حيناً،وفي تذوق طعمها الممتع حيناً آخر .وأنا أعانق هذه النشوة الممتعة،سمعت صوتاً مؤلماً جعلني أعود من سفري اللولبي لأنقل بصري بسرعة نحو الأعلى»إخواني السلام عليكم ،عافاكم عاونوني راني باقي عاالله،الله يعاونكم». ظلت يده تراقص الريح، لكنه سرعان ما اتجه نحو طاولات أخرى،ليتمتم بنفس الكلمات... على نفس الطاولة عدت أتسلى بالوجوه الذابلة المارة في الشارع،كانت خيوط الشمس تضمد جراح الطرق المتعبة.لم تمت المدينة اذن ليلة الأمس فهذه الكائنات مازالت تمشي وسط الشارع بعد ان احتلت المقاهي الأرصفة العمومية. لايمكن الحديث عن الفوضى ولا عن الانفلات الأمني،ولا عن ترييف المدينة،ولا عن الدخول الثقافي،ولا عن العزوف السياسي،ولا عن سماسرة الإعلام ،ولا عن الأخلاق،ولا حتى عن الشعر لسبب بسيط وهو أني أريد أن أحتفظ بصفاء ذهني الى حدود الساعة العاشرة. أن يسير المرء مسافات طويلة فذاك أمر مزعج ،وأنا لاأحب السير صباحا خصوصا ًوأني لم أتناول سوى فنجاناً من القهوة السوداء وسأترك أمر تأديته الى وقت آخر. انا الآن متأكد أني لم أصل إلى المكتبة في الموعد المحدد،كانت المرة الأولى التي تطأ فيها قدمي هذا المكان. ياللمفارقة!!.الغرب يلجأ إاليها من أجل المعرفة،ونحن نلجأ إليها من أجل المواعيد الغرامية. حين اقتربت من بوابتها الخلفية،كانت عيوني المتعبة بالضجر تحدق في المسجد الأعظم المجاور لها، وفي الفسيفساء والخضرة المحيطرة به والتي جعلته في حلة جديدة بعد أشغال الترميم والتي سمحت باكتشاف آثار قيل أنها على درجة كبيرة من الأهمية، مثل الأحجار والنقود الرومانية، والنقيشة المكتوبة باللغة الإغريقية ،والمسجد الأعظم جزء من ذاكرة مدينة القصر الكبير أو قصر كتامة الذي عرف بمدينة الأولياء والصالحين مثل سيدي الرايس، للافاطمة الأندلسية، مولاي علي بوغالب،والجامع السعيد،و الزاوية التيجانية. اقتربت منها أكثر رفعت عيني الى الأعلى،وقرأت مايلي: المجلس البلدي - المكتبة الإسلامية للعلوم. وعلى الجانب الأيسر للباب كتبت لوحة رخامية بخط مغربي تؤرخ لتاريخ المؤسسة. حين وضعت رجلي اليسرى داخل القاعة السفلية،أدركت للوهلة الأولى أن عيوناً كثيرة تراقبني،بدت لي القاعة صامتة إلا من بعض الهمسات لتلميذات منشغلات بنقل بعض الدروس في أوراق صغيرة، وبطرقة دقيقة جداً ،وبالتحديق في المرآة للتأكد من ملائمة الماكياج لوجوههن... وبسرعة أدركت أنه على الصعود الى الطابق العلوي.لم يكن المكان فارغاً تماماً كما كان يتبادر لذهني ..بعض التلاميذ جلسوا في شكل دائرة يحللون بصوت مرتفع قصيدة «أنشودة المطر»لبدر شاكر السياب ،وفي جانب آخر كانت فاتنة وضاءة الوجه ترتدي قميصا برتقالي اللون،وسروال جين أسود تنتظر ظهوري لترسل لي إشارة دعوة للجلوس. وسط هذا الأرخبيل من الوجوه المختلطة والمختلفة الحجم والجمال ،تملكتني رغبة في الإنسحاب،لكن الأمر قد يبدو صعباً خصوصاُ وأن نسرين قد تعبت من أجل الإحتفاظ بكرسي فارغ. - صباح الخير آسف للتأخير ..أنت تعلمين أن المسافة الفاصلة بين» المرينة» و»باب الواد» طويلة. - لاعليك فهذه عادتك.. - ما الأمر الذي قلت لي في الهاتف انه مهم ومصيري؟ - اخفض صوتك،فأنا لا أريد لأحد أن ينتبه لحوارنا. - حسناً أنت تعلم أنني لم أكن أود أن تنتهي الأمور بهذا الشكل ،ولكن لا حيلة لي، وقد جرت الأمور على غير أريد. - لم أفهمك ماذا تعنين بهذا الكلام.. - المسألة بسيطة ياعبد السلام ..يجب أن نضع حداً لعلاقتنا. - بدا لي المكان الذي يحضننا ضيقاً وشعرت وكأن الأرض تهوى بي..سكتت لحظة وحين شعرت نسرين بثقل المفاجئة تابعت حديثها قائلة: - حاول أن تفكر في الأمر بشكل سليم، العمر يهرب ،وأنت كغيرك من المعطلين لايمكنك فعل أي شيئ .. - ما فائدة الإعتصام كل يوم في العاصمة غير الضرب والإهانة، أتفق معك أن المطالبة بالشغل حق ولكن الظروف لاتسمح لي اليوم بانتظار ماقد يتحقق أو لايتحقق! - عليك أن تكون واقعياً - واقعياً وهل أبدو لك طوباويا .إن واقيتي هي التي دفعتني للعمل في مطعم شعبي وتحمل تعب يوم يبدأمن الساعة السابعة صباحاً وينتهي في التاسعة ليلا وتحمل مخاطر المجرمين والسكارى مقابل أجر زهيد. - شيئ طبيعي أن توجد مسافة بين الحلم والواقع ، لكني على يقين دوما أن الواقع هو الحلم وقد تحقق . وسأسعى بكل ما أوتيت من إرادة إلى تحقيق هذا الحلم الذي شيدناه معاً. - لا زلت تحلم ، ولا تفكر في الواقع. كن موضوعيا مثلي - لا يمكنك ان تكوني موضوعية فقط بالقول ان الواقع صعب، انت تبحثين عن مبررات للتخلي عني في منتصف الطريق. - انت خائنة.. - صرت لاتفهم شيئاً لذلك ينادوك أصحابك ب « خوالبهايم». - نعم يحلو لي أن أكون أخا للبهائم على أن أكون أخا لأناس مثلك.على الأقل فهي لاتصنع من النفاق والخداع لباسا لها. وقبل أن تسرف في الرد على كلماتي خرجت مهرولا لتبتلعني أزقة المدينة القديمة.. في الغد وعلى نفس الطاولة جلست أرتشف قهوتي السوداء.كان الحزن بادياً على وجهي الشاحب من كثرة السهاد ،لكن امراً ما جعلني أضحك بشكل غير معهود. سألني النادل عن سبب الضحك الذي أثار انتباه رواد المقهى، فأشرت إلى أحد المارة وقلت له: - انظر انه صديقي أحمد يبدو فرحا هذا اليوم، إنه يمسك بيد امرأة يعتقد أنه يحبها ،ولا يعلم المسكين أنه يمسك بديناميت قد ينفجر في أية لحظة. وكل صباح وفي الجانب الأيسر لمدخل المقهى كنت أجلس على نفس الطاولة أرتشف قهوتي ،وأحمل معي أسئلة كثيرة حول الحرية ،والديموقراطية، والتعليم، والأمم المتحدة ،وقصيدة النثر،والنمو الديموغرافي، والفصائل الفلسطينية ،وكاشمير،والسلاح النووي،وأزمة السكن،وثقب الأزون،وارتفاع أثمنة البترول ،والتغيير الحكومي،والمغادرة الطوعية، وأنظمة الحاسوب المتنقل،وقانون الصحافة، والتغطية الصحية،و انهيار البرج الثالث لمركز التجارة العالمي ،ومستقبل الاشتراكية،والمهرجانات الموسيقية،وتسونامي، وباب الحارة،وحريق المسرح القومي المصري، ومصير الفلسفة بعد موت فلاسفة الإختلاف... شيئ واحد يعتقد الناس أني لم أعد أحمله ،لذلك صاروا ينادونني بالمجنون.