حاول الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، إقناع الفقيد باهي محمد بأن يشغل منصب رئيس الجمهورية الصحراوية الوهمية. غير أن باهي الذي كان مدركا للمخطط الجزائري رد عليه، بمغادرة الجزائر إلى باريس، وبنشر مقال على صفحات جريدة «المحرر» بتاريخ 13 غشت 1975 تحت عنوان» لا تجعلوا لينين موظفا لدى فرانكو».. مع نهاية مداولات محكمة العدل الدولية بلاهاي تقترب لحظة الحقيقة بالنسبة للصحراء المغربية، وتبدو المسألة وكأنها قد استعادت «صمت القضايا الكبرى». ولا يحتاج الإنسان لأن يكون ملما بخفايا السياسة الدولية وألاعيبها ليدرك أن أكثر من جهة في أكثر من عاصمة تعكف الآن على دراسة المشكلة وتضرب أخماسا في أسداس لتخرج بتصور جديد للموقف. وربما أدى الغبار الكثيف الذي أثير حول الموضوع إعلاميا وسياسيا ودبلوماسيا خلال الشهور الأخيرة إلى طمس جملة من البديهيات ولعل أول هذه البديهيات أن المسألة المركزية هي في البداية كما في النهاية، مشكلة مغربية. ولابد، تجنبا لكل تأويل أو التباس أن نوضح ما نقصده بالضبط من هذا الكلام. إن كل «الأطراف المعنية» أو التي تعتبر نفسها معنية لأسباب لن نخوض فيها الآن، تنطلق في رسم سياساتها الخفية والمعلنة من خلفية الشك في وجود إدارة مغربية حقيقية مصممة على التحرير والتوحيد. أما مصدر هذا الشك فيرجع إلى أن المغرب يعطي عن نفسه صورة للعالم الخارجي، توحي بأنه غير واثق من قدرته على الانخراط في صراع مكشوف، والذهاب بهذا الصراع إلى نتائجه القصوى. ويستطيع المراقب المتتبع لمواقف الدول العربية والإفريقية والأجنبية من قضية صحرائنا أن يلاحظ وجود تناسب طردى بين جدية السياسة المغربية ودرجة التأييد أو الحياد التي تحظى بها خارج الساحة الوطنية. بعبارة أخرى فإن نجاح بلادنا في هذه النقطة مشروط بدرجة مصداقية أقوالها وتطابق هذه الأقوال مع أفعال من طبيعة معينة. ومعنى ذلك أنه ينبغي للمغرب أن ينصرف للإعداد الحقيقي لمعركة استرداد جزء منه، وأن لا ينتظر كثيرا من الآخرين. ومن المؤكد أنه حين يشعر هؤلاء الآخرون بتصميم المغرب على وضع ثقله الكامل في الصحراء، فإنهم سوف يغيرون مواقفهم. ويتعلق الأمر هنا بثلاث مستويات يجب الفصل بينها بدقة، ولكن في نفس الوقت إظهار أقصى ما يمكن من الحزم والجدية ليفهم الجميع أن المغرب لا يقبل مساومة في قضية حيوية كهذه. المستوى الأول : هو وجود عناصر صحراوية من الشباب المتعلم أو شبه المتعلم، يعملون في إطار ما يسمى بالجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليزاريو)، ويدعون إلى الاستقلال والانفصال عن المغرب. ولابد من قول بعض الحقائق المرة لهؤلاء الشباب، وأيضا لفريق من شباب المغرب المستقل يؤيدهم ويدافع عنهم في المحافل الدولية. وأول هذه الحقائق، هي أنهم قد يكونوا من حيث لا يشعرون ضحايا وهم كبير. ولعل كاتب هذه السطور، أن يسمح لنفسه بكلام ذاتي حول هذه النقطة ليبعد عن هذا المقال صبغة النصيحة الأبوية الفوقية. إنه واحد من أبناء المنطقة الصحراوية، يذكر أنه تربى سياسيا، ضمن نفس المناخ الوطني الذي عرفه نفس الجيل في شمال الوطن. وحتى إذا كانت الاعتبارات تتصل بالبعد الجغرافي، وبالقمع الخاص المسلط على مناطق كانت خاضعة لسلطة عسكرية مباشرة منعته وأقرانه من الانتقال إلى الشمال قبل بداية الخمسينات، فإن الأدبيات السياسية الوطنية التي كانت تأتي من الشمال في ركاب رجال القوافل التجارية، ظلت زاده وزاد أبناء جيله. وحين بدأت حركة المقاومة المغربية بعد نفى المغفور له جلالة محمد الخامس، كان الهم الأول لعناصر الشباب في المناطق الصحراوية النائية هو شد الرحال نحو مواقع العمل المسلح. ولم تكن الرحلات تتم آنذاك عن طريق الطائرات، ولا كانت هناك دول تعطي الجوازات والمساعدات للذين تحركهم حمية الوطنية الصادقة. كان الإيمان هو السلاح الوحيد، وكان لهذا الإيمان هدف محدد : المشاركة في تحرير المغرب وتوحيده. وكان هذا الإيمان هو الذي دفع مئات الشباب من سكان الصحراء في تلك الفترة إلى اختراق أراضي مقفرة لا زرع فيها ولا بشر ولا ماء، بحثا عن وحدات جيش التحرير التي كانت بدأت تصل من الشمال إلى مشارف الصحراء في نهاية 1955 وبداية 1956. ولقد كان لكاتب هذا المقال شرف الالتحاق بأولى تلك الوحدات التي استقرت في كلميم. وليس هنا مجال الحديث عن تاريخ جيش التحرير المغربي في ذلك الجزء من الوطن. ولكن المهم أن نذكر أنه قاد معارك طاحنة ضد الوجود الفرنسي والإسباني بالمناطق المحتلة، وأن نضاله أسفر عن تحرير جبال أيت باعمران ومدينة إيفني الشاطئية، ومدينتي طرفاية والطنطان وأن الحكومة الإسبانية وجدت نفسها مكرهة على التفاوض مع المغرب لإعادة الأراضي المحررة، وقبول إدماجها رسميا في الدولة المغربية. وعودة هذه المناطق، التي هي جغرافيا وسكانيا جزء من الصحراء المغربية المحتلة، هو أكبر دليل على أن إسبانيا لم تكن تنازع مبدئيا في مغربية الصحراء. إن مدينة العيون، وهي اليوم العاصمة الإدارية للصحراء المحتلة، لا تبعد إلا ببضع عشرات الكيلومترات عن طرفاية. وبعض الذين ينادون اليوم بالانفصال أو على صلة مباشرة أو غير مباشرة بالحركة الداعية إليه كانوا في وقت من الأوقات يدافعون عن نظرية معاكسة. ولكن من الحق أن نقول أن بعضهم كان قصير النفس، وأنه انتقل عدة مرات من الوحدة إلى نقيضها. غير أن هؤلاء يقعون في مأزق، وخاصة حينما يحاولون ارتجال تاريخ صحراوي «وطني» مستقل عن المغرب، أو حينما يرقعون شخصية وطنية صحراوية متميزة. ولكنهم يهربون من المشكلة بتذويبها في إطار مغرب عربي فضفاض، أو في إطار عربي أوسع وأشمل، ثم يزعمون بعد هذا كله أنهم دعاة وحدة على صعيد المغرب العربي وعلى مستوى الأمة العربية. فإذا أحرجوا، وأفحموا وأفهموا أن في تحليلهم بعض التناقض، وإذا قيل لهم أن الوحدة الحقيقية لا تتم عن طريق تمزيق التشكيلات الوطنية المكونة تاريخيا (والمغرب واحد منها)، ولا بواسطة اصطناع كيانات قزمية لا تملك أسباب الوجود، وجدتهم يستنفدون ذخيرتهم الحية بسرعة، ورأيتهم يلجأون إلى المدفعية الإيديولوجية الثقيلة... والمدفعية الإيديولوجية الثقيلة هنا تتلخص في رفع علم «تقرير المصير» وحق الشعوب في اختيار النظام الذي يناسبها، وماشاكل ذلك من حجج لا جدال في سلامتها، ولكنها في هذه الحالة بالذات تصبح ستار الكثير من السفه العقلى وورقة توت لتغطية أهداف لا يجرؤ أصحابها عن الإعلان عنها. ولا يملك المحاور الذي يتمسك بعقله إلا أن يستغرب من وجود منطق يلفق محاكماته للأشياء انطلاقا من مراجع تبدأ بامرئ القيس بن حجر الكندي، وتنتهي بلينين وماوتسى تونغ. يتبع إحدى الحجج التي يسوقها الشباب الصحراوي الداعي إلى الانفصال لتبرير خطه السياسي هي وجود عشائر عربية صحراوية، ما زالت تعيش حياة رعى وتنقل شبيهة بالجاهلية الأولى. وحين نقول لهم أن العشيرة يمكن بالتأكيد أن تكون موضوعا لدراسة أنثروبولوجية أو انتولوجية طريفة ولكنها لا يمكن أن تكون موضوعا للتاريخ، نشعر بأنهم فوجئوا بمثل هذا الكلام. ولكنهم لا يترددون في العودة بقوة إلى تقرير المصير والاستشهاد بمقتطفات كاملة من لينين.. ولا يشعر هؤلاء الشباب الذين يدعون الماركسية أنهم بعملهم يحولون لينين إلى موظف بسيط في قصر فرانكو. ولا يعرفون أن الدولة العتيدة التي يَدْعُون إلى إنشائها في الصحراء، سوف تكون دولة تابعة بحكم طبيعتها وبحكم قوة الأشياء في عصر الإمبريالية، إلى دولة امبريالية. وتلك حقيقة ثانية لا يجوز أن نمل من تكرارها. وحتى إذا افترضنا أن كل قادة الفكر الماركسي والثورى الأحياء منهم والأموات، بدءا من ماركس ولينين وانتهاء بماوتسى تونغ وكاسترو، مرورا بغيفارا وتروتسكي، تسلموا جميعا السلطة في الدولة الجديدة، وفي الظروف الدولية الراهنة، فإنهم سوف يضطرون الالتجاء إلى مساعدة خارجية. أما الحديث عن «البؤرة الثورية»، في هذه الحالة فلا يمكن أن يصدر إلا عن أشخاص يأخذون رغباتهم على أنها حقائق. هذا مع افتراض وجود النية سلفا.. إن من الأفضل الحديث عن «البئر الثرية»، أي عن وجود ثروات هائلة في باطن أرض الصحراء المغربية وشواطئها يسيل لها لعاب الثوريين وغير الثوريين. أليس المغرب بحاجة هو الآخر إلى الفوسفاط الصحراوي وإلى الثروات الأخرى الكامنة في الصحراء؟ بالتأكيد هو بحاجة إلى هذه الخيرات وهذا ليس عيبا ولا عارا. وحتى إذا كانت التهمة الموجهة إليه هي أنه يتحرك بدافع الحرص على استرجاع الفوسفاط، فلا ينبغي له أن يخجل من ذلك. إن كل دولة تحترم نفسها، سواء كانت ليبرالية أم دكتاتورية، اشتراكية أم رأسمالية، تستميت في الدفاع عن مصالحها وثرواتها القومية. والموقف من الوطن ووحدته وكيانه أمر لا علاقة له باللون الإيديولوجي. طبعا هذا لا يعني أن لا علاقة بين النضال الوطني والنضال الطبقي غير أن الطبقات الاجتماعية الناجحة هي التي تتصرف بذكاء لضمان وحدة الوطن، لأن في ذلك ضمانا لمصالحها الخاصة. ولكن الثورية مهما بلغت من الصفاء والطهارة والعذرية، لا يمكن أن تكون مبررا للتفريط في الحفاظ على المصلحة الوطنية، في مرحلة تاريخية معينة. ومصلحة المغرب الراهنة، بصرف النظر عن التناقضات الطبقية العميقة، ومصلحة شعبه ومستقبله هي في أن تعود إليه الصحراء. أقول هذا الكلام للرد مسبقا على حجة كثيرا ما ترد في سياق الحديث مع الذين يؤيدون تقرير المصير، بدعوى أن ضم الصحراء سوف يؤدي إلى تعزيز وضع معين. وهذا الضرب من المنطق يعالج قضية وطنية بعقلية تاجر البازار الشرقي. وهو مرفوض، ليس لخلوه من الصحة، ولكن ببداهة، لأنه يستخدم أسلوب «كلمة حق.. أريد بها باطل» وينسى أصحاب هذا المنطق أن الشعور العميق بالحرمان الذي لابد أن يتولد في المغرب، في حال ضياع الصحراء منه، ليس من المؤكد أن ينتهي كما يتصورون. المستوى الثاني : هو الموقف من إسبانيا. إن هذه الدولة لا توجد في حالة تسمح لها بخوض حرب حقيقية طويلة ضد بلد مجاور مثل المغرب. إن قوتها الظاهرية متأتية من ضعف المغرب الظاهرى أيضا. ويعود عجز النظام الفرنكوي عن الحرب إلى تخوفه من عواقبها الداخلية وإلى كون الجيش الإسباني نفسه غير مستعد لخوض تجربة عنف قد تنتهي بهزيمته. وعلينا بهذه المناسبة أن نذكر بأن النظام الفاشي المسيطر حاليا في مدريد قد ولد روحيا في المغرب. ففي أعقاب الهزيمة النكراء التي ألحقها البطل عبد الكريم الخطابي ومقاتلوه بالعساكر الإسبانية، بدأ فرانسيسكو فرانكو وكان وقتها ضابطا برتبة ملازم، يتآمر مع حفنة من صغار الضباط لاستلام السلطة في اسبانيا بدعوى أن الحكم القائم في مدريد كان المسؤول عن هزائم الجيش الإسباني في المنطقة الشمالية. وكانت دكتاتورية «بريمو دي ريفييرا» السابقة للجمهورية ثمرة من ثمار حرب الريف. والأغلبية الساحقة من الضباط الفاشيين الذين تحركوا مع فرانكو انطلاقا من جزر كناريا والمناطق المحتلة سابقا من شمال المغرب، والذين تشكل منهم في ما بعد الطاقم القيادي للدولة الفرنكوية. كانوا من قدماء حرب الريف، وكانوا مدفوعين في مناهضتهم للجمهورية الإسبانية بمشاعر المهانة والمذلة التي شعروا بها خلال محاربتهم للمغاربة. وهكذا، فإن النظام الذي ولد في الشمال يمكن أن يسقط في الجنوب. ويجب ونحن نذكر ذلك أن لا ننسى أن نضال المغرب في نهايات الربع الأول من هذا القرن، والذي كانت قمته الكبرى ثورة الريف بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي، قد حظى بدعم واسع من طرف كافة القوى الثورية المناهضة للامبريالية. ونفس الظاهرة يمكن أن تتجدد إذا ما عرف المغرب كيف يختار طريق المواجهة بدون تردد ولا وجل. ومنذ الآن، تحظى بلادنا بتأييد كافة القوى السياسية الوطنية والديمقراطية الإسبانية ذات التأثير الواسع في إسبانيا وهي الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والمسيحية اليسارية، التي أخذت تعمل للإعداد لما بعد الفرنكوية. وينبغي على القوى السياسية الوطنية والتقدمية في بلادنا أن تدرك أهمية التحالف التكتيكي الراهن مع المعارضة الإسبانية المناهضة للفاشية، وأن تعمل ما دام الظرف مواتيا وبسرعة لتحويله إلى حلف استراتيجي يساهم في إضعاف النظام الفرنكوي. وليس من اللائق أن يجرى التعامل مع المعارضة الإسبانية، كما هو الحال حتى الآن على أساس أن عدو عدوى صديقي فقط، وإنما المطلوب أيضا تعميق الروابط معها ودعمها سياسيا وإعلاميا، اعتبارا لأن ذلك من شأنه أن يزعج السلطة الفرنكوية المحتضرة والمهتمة أولا وقبل كل شيء بضمان نهاية انتقالية سريعة وهادئة. ولعلي، لا أبالغ إذا قلت أن وجود مسكنة الغجارية كالصحراء بين مدريد والرباط، يضع مصير النظام الإسباني إلى حد كبير بين أيدي المغرب. إنما بطبيعة الحال، بشرط واحد لكنه في منتهى الأهمية : أن يقرر المغرب الدخول في الصراع والذهاب به إلى نهايته القصوى، واستخدام كل الأوراق المتوفرة لديه للإسراع عن طريق المزج بين الحرب التحريرية، والتعاون الاستراتيجي مع المعارضة المناهضة للفاشية، بإنهاء النظام الفاشي. هل أنا أحلم؟ ربما .. وعلى كل حال فالمشاريع العظيمة كانت في بدايتها دائما أحلاما خيالية. المستوى الثالث : الموقف من الدول الأجنبية، وخاصة الدول الغربية الكبرى ذات المصالح الاقتصادية أو الأطماع الاستراتيجية في المنطقة. والدول الغربية الامبريالية الكبرى المعنية مباشرة هنا هي الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا وألمانيا الغربية. الولاياتالمتحدة مهتمة بالقضية، لاعتبارات استراتيجية واقتصادية بديهية. إن الصحراء المغربية تقع على الضفة الأطلسية المواجهة مباشرة لولاية نيويورك. والمغرب الذي تنتمي إليه يتحكم في مضيق جبل طارق الذي يشكل عنق الزجاجة بالنسبة للتجارة البحرية الدولية. فهنا يلتقى البحران الكبيران : الأطلسي والأبيض المتوسط وتتعانق العوالم العربية والإفريقية عبر الشواطئ المغربية والإسبانية والبرتغالية. وفي هذا العناق الجيو-ستراتيجي تبدو صخرة جبل طارق وكأنها عين أسطورية ساهرة، حقيقة ومجازا، تنظر بقلق وخشية في كل الاتجاهات. ونتيجة للتطورات الأخيرة والجارية حاليا في الطرفين الشرقي (تركيا واليونان) والغربي (البرتغال وإيطاليا وليبيا)، من حوض البحر المتوسط يكتسب المغرب موقعا وموضعا ذا قيمة استراتيجية فائقة. يضاف إلى هذا أن الصحراء المغربية، قد اكتشفت حسب كثير من المصادر، احتمالات نفطية واعدة. وكانت الاحتكارات الأمريكية كعادتها سباقة فبادرت بعقد اتفاقات مع الحكومة الإسبانية للتنقيب عن الذهب الأسود. ومعلوم أن الدول الغربية المذكورة تساهم كلها برؤوس أموال شركات حكومية أو خاصة في الكونستريوم الدولي الذي يستخرج فوسفاط مناجم بوكراع. وتعتمد إسبانيا بالذات على هذه المناجم، لتطوير صناعة الأسمدة والبذور والمشتقات الكيماوية، لتجعل من نفسها قوة صناعية كبرى في أوربا. كما أن الشركات المتعددة القوميات العاملة في صحرائنا، ترجو ومن ورائها حكوماتها أن تساعدها على السيطرة المستمرة على المناجم الفوسفاطية في الحيلولة دون مولد قوة اقتصادية جديدة في العالم الثالث تتيح لها مواردها الضخمة من هذا المنجم أن تعزز جبهة الدول الرامية إلى تحرير المواد الأولية. وتدل التجربة الماثلة أمام عيوننا أن أحسن وسيلة لاستمرار النهب، وجود دويلة صغيرة، تتمكن الشركات من إفسادها بشتى الطرق. وفي حالة الصحراء المغربية، فإن اعتمادها إذا ما أصبحت «المستقلة» على الفوسفاط، سيجعل منها منافسا خطيرا للمغرب. وهكذا فسوف يكون تناقضها السياسي ترجمة لصراعها الاقتصادي، مع بلد تكون قد «استقلت غصبا عن إرادته». حين تسوق هذه الحجة يرد البوليزاريون بأنهم سيؤممون كل شيء. وهذه لغة لم تعد تنطلى على أحد. التأميم أصبح مبدأ مقبولا في بلدان كالسعودية وإيران وإمارات الخليج. بل إن الاحتكارات تشجعه في بعض الأحيان للتخلص من الأعباء والنفقات الكثيرة. بالتأكيد أن التأميم سوف يخلق طبعة بيروقراطية جديدة سوف تمتاز عن غيرها بأنها ستنتقل رأسا من حضارة البداوة إلى عصر الكونكورد بدون مقدمات. وليس في التجارب الكثيرة الجارية الآن في أكثر من أرض عربية ما يجعلنا نصدق أنها ستكون أحسن من غيرها ولا أكثر تقدمية أو ثورية أو وحدوية من بورجوازيات النفوط الأخرى. بل إن هؤلاء الشباب الذين يذهب بهم الاعتزاز بالنفس إلى حد التجني على التاريخ ومقارنة الأعمال البسيطة التي قاموا بها بما جرى في الفيتنام، سوف يصبحون غدا مقدسين مع كيانهم الجديد، وسوف يجدون من الصحفيين والكتاب عددا كافيا يقدمهم للرأي العام العربي على أنهم عظماء كبار لم يجد الزمان العربي بمثلهم حتى الآن.