تعتبر رواية «أرانب السباقات الطويلة» آخر إصدار ينضاف إلى مجموعة متنوعة وغزيرة من الأعمال الروائية والقصصية للكاتب المغربي الميلودي شغموم. ويتكون هذا العمل من عشرين فصلا، تقوم على تنويعات خاصة، تتكامل وتتظافر لتشكل عوالم هذا المقترح الإبداعي، الذي يجمع بين ما هو تاريخي، وسياسي، وفلسفي، وصوفي... في توليفة ذكية تعكس طبيعة كتابات شغموم، بما يعطيها بصمة خاصة يدركها القارئ المتتبع لما أنتجه مخيال هذا الكاتب المنتظم الإنتاج، على امتداد أزيد من أربعة عقود من الزمن. تدور أحداث هذا العمل حول شخصية ناصر الفكاك، وهو عميد شرطة سابق اشتهر باستقامته وبنظافة يده، اختفى فجأة من مستشفى عمومي للأمراض العقلية كان يتعالج فيه، حيث سيأمر العميد عادل المقدم المفتش بوعزى الضاوي بالبحث في القضية، هذا الأخير سيستعين بخبرة الصحفي سعيد الفك، ليساعد في فك خيوط هذه القضية المتشابكة. وأثناء ذلك، يقوم الكاتب بسرد تفصيلي لما يمكن اعتباره سيرة حياتية لصاحب هذا اللغز المحير، قبل أن يصل إلى بسط الأسباب والدوافع التي كانت وراء دخوله المستشفى واختفائه منها فجأة. لنكتشف، في نهاية الأمر، أن سبب هذا الاختفاء يرجع إلى تلفيق جنحة زنى المحارم لناصر الفكاك، بمساهمة من بناته الثلاث اللائي أصبحن يمتهن الدعارة فيما بعد. حيث ستقود التحريات إلى الكشف عن خيوط هذه المؤامرة، بعدما تأكد أن المختفي لم يكن سوى بيدق أو أرنب من بين أرانب السباقات الطويلة التي لا تستمر حتى النهاية، بسبب الإيقاع الحاد والسريع الذي تتخذه في حياتها، ولم يكن، بالتالي، إلا أداة ووسيلة لها دور وظيفي ينتهي بانتهائه. وعلى الرغم من صغر حجم هذا العمل، الذي يقع في 143 من القطع المتوسط، إلا أنه يحفل بغير قليل من الغنى والتشويق، اللذين يفيدان في تقديم عوالم متباينة وفضاءات متنوعة ونفسيات متضاربة، من خلال توظيف مقاطع تاريخية سابقة، ما زالت تحفل بكثير من الغموض والالتباس وفراغ المعطيات التوضيحية اللازمة. من هنا سيكون تركيزنا منصبا، في هذه القراءة التقديمية، على عنصرين اثنين من عناصر بنية الرواية، بدا لنا أنهما يعكسان بعضا من تلك الروح الكاشفة، التي أبان عليها الكاتب في أكثر من عمل، فيما يشبه إثارة الانتباه لما يعتور تقديم بعض الحقائق والمعطيات التاريخية من خلل وانتقائية يزيدان من غموضها. يتعلق الأمر من جهة، ببنية الشخصيات، أو بالأحرى شخصية محددة بدا لنا أنها تؤشر على جانب مهم من الرمزية وهي شخصية الأعمى. أما المستوى الثاني، فيمكننا حصره في استحضار الكاتب لجانب هام من تاريخ المغرب، الذي يقع موقع المرحلة الملتبسة، والمقصود هنا، مرحلة تأسيس وسيادة وانتهاء ما يسمى، في مجهول تاريخ المغرب، بالدولة البورغواطية. أما بالنسبة للعنصر الأول، فلسنا في حاجة إلى التأكيد على أن مفهوم الشخصية يعتبر من العناصر المركزية داخل العمل السردي. ومن ذلك حظوته بغير قليل من الاهتمام داخل أنساق الدراسات النقدية الحديثة. إذ تنوعت مقارباته من دراسة إلى أخرى وفق سيرورة المناهج النقدية التي سعت إلى الوقوف عند أهمية هذه البنية، ضمن بنيات وأنساق العمل الروائي. من هنا كان التركيز على البطل الإشكالي، والشخصية السيكولوجية، ثم القوى الفاعلة أو ما يعرف بالعامل كما أسهب فيه كريماس. وبالرجوع إلى « أرانب « الميلودي شغموم، نجد أن الكاتب قد انتقى لهذا المولود الجديد شخصيات متنوعة ومتباينة التصورات والرؤى، لها بنيات ذهنية واجتماعية ونفسية وفكرية مختلفة، مما خلق صراعا دراميا فعالا داخل الرواية. من بين هذه الشخصيات المؤثرة، في صياغة الحبكة الدرامية لهذا العمل، تحضر شخصية الرجل الأعمى. وهي شخصية وإن بدا دورها هامشيا أو مكملا لأدوار شخصيات أخرى رئيسة، إلا أنها تقع، في سياق سيرورة الحكي، موقعا مفصليا وهاما. إنه رجل في حوالي الأربعين من عمره، يجلس كل ليلة على جدار ساقية، يروي تاريخ المنطقة، وبفضله تشكلت لدى ناصر الفكاك، حين كان ما يزال طفلا، خلفية معرفية تاريخية حول بلاد بورغواطة وما ارتبط بها من بطولات وأمجاد وأساطير وخرافات...، حيث كان ناصر لا يمل من الإقبال على حكايات الأعمى، مهووسا ببلاغته وقدرته على الحكي، إلى أن علم أنه تم اعتقاله وقطع لسانه، بجريرة إفشائه لأسرار المنطقة. لذلك، عندما اختفى الأعمى وانقطع عن موسم محمد الفكاك أحس ناصر بأن ذاكرته قد انقطعت بدورها، لم تكتمل، ستظل ناقصة، جريحة طول العمر...( «أرانب السباقات الطويلة»، المتقي برينتر، المحمدية، 1016، ص: 18 ). ما أثار انتباهنا لدى هذه الشخصية، هو ذلك الملمح الواضح لعنصر حكمة الحكي والإصرار على الجهر بالحقائق وتصحيح مسارات أخطائها المتعمدة، فضلا عما يمكن أن يرتبط بهذا الأفق من عواقب، قد تصل إلى حد إسباغ طابع الخرافة والهذيان على كل ما ينتج عن إزعاج عقلي في صيغة حقائق دامغة وكاشفة عن المستور. أوليس من دلالات العمى « اللغز والأحجية «؟ كما أن من سقط عنه « صنف المرئيات « فالوجود عنده ما لا يُرى، ولكنه يُعقل. من هنا قوة هذه الشخصية، شخصية الأعمى، بأبعادها الرمزية، في إماطة اللثام عن كل ما اعتبر حقائق مفترى عليها. هذا الأمر قادنا إلى طرح السؤال حول دلالة عاهة العمى أو العَوَر، ليس فقط في هذا العمل الروائي، وإنما أيضا في أعمال أخرى سابقة لنفس الكاتب، ونخص هنا بالذكر، تحديدا، حضور شخصية الأعور في رواية « عين الفرس « ( 1988 ). مما لا شك فيه أن التراث العربي الإسلامي حفل بغير قليل من الإشارات الدالة على ما للعميان من شأن اعتبر أهم من شأن المبصرين في أمور كثيرة، منها: « قوة الباه، والمُكنة من القص، والذكاء المبين «. إلى درجة اعتبر بعضهم أن « من تمام آلة القصص أن يكون القاص أعمى»، وختام ذلك قوة الحافظة، والدهاء، ف « قلّ أن وجد أعمى بليدا، ولا يرى أعمى إلا وهو ذكي». وسبب ذلك « أن ذهن الأعمى وفكره يجتمع عليه، ولا يعود متشبّعا بما يراه «. وحسب ما جاء في « الأغاني « لأبي الفرج الأصفهاني، فإن بشار بن برد، وقد «خلق ممسوح العينين»، كان قد ربط بين العمى والذكاء، فلما سئل عن علة ذلك، قال « إن عدم النظر يقوّي ذكاء القلب، ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء، فيتوفّر حسه، وتذكو قريحته «. ومن ذلك قوله افتخار الشاعر بعاهته منشدا: « عميتُ جنينا والذكاء من العمى فجئتُ عجيب الظن للعلم معقلا «. ومن ذلك أيضا ما نسب لابن الأعرابي في قوله: « إذا أبصر القلب المروءة والتقى فإن عمى العينين ليس يضير «. وحسب الصفدي، مرة أخرى، فإن العميان « يدركون ما لا يدرك البصراء». بعض من هذا التميز لفائدة العمياء يظهر في سياق تسلسل أحداث «أرانب السباقات الطويلة « من خلال ما جاء على لسان السارد، يقول: «لقد كان الرجل أعمى ولكنه كان بالنسبة إليه أكبر المبصرين، بعينيه اللتين بنى بواسطتهما ذاكرة، ذاكرة مكان بأكمله، ممتدة في الزمان، تؤثثه وتزينه» ( الرواية، ص: 18 ). نفس الوضع الاعتباري للرجل الأعمى في نفسية ناصر الفكاك، نجده حاضرا في ذاكرته من خلال الحوار الذي دار بينه، وهو يلف إحدى رجليه التي كان يشكو من ألم بها ب « تين وبصل «، والطبيب النفساني الذي سأله عن الحكمة من هذه اللفة الغريبة، فكان جوابه كالتالي: « تين وبصل، آه، كي لا تتعفن فيقطعها القانون (...) لأنه كان الأكل المفضل للراوي الأعمى. كان يكثر من أكل التين ويقطع أكله بالبصل الأحمر. تابع يسأل: ولماذا التين والبصل الأحمر؟ كف عن الابتسام كأن السؤال صدمه: التين كثير السكر، والبصل يعالج البصر. فكر الطبيب بصوت عال: ولكنه، إذا فهمت كان أعمى؟ ابتسم من جديد: كان يرى من الداخل مالا يراه مبصرا (..) يرى حبائل الزمن ومصائد الوقت التي لا يراها المبصرون» ( الرواية، ص: 67-68 ). يظهر من خلال هذا المقطع الحواري الذي دار بين الطبيب وناصر الفكاك، مدى رغبة الكاتب في إبراز الحكمة التي كان يتمتع بها هذا الرجل الأعمى، الذي لا يمتلك عينا مبصرة في حين له بصيرة يفتقدها الكثيرون، بصيرة الكشف واليقين، متوسلا بفن الحكي. وهو بذلك يمثل الذات العالمة اللبيبة، التي لا تلوذ بأدنى احترام وتقدير داخل المجتمع العربي سوى التهميش والنفي والتنكيل. ولعل ذلك ما لاقاه الرجل الأعمى في فترة لاحقة. ومن ذلك، يقول ناصر: « قيل إن الأعمى قد اعتقل وقطع لسانه، وقد يكون ذبح يوم عيد الأضحى أو قتل غدرا من طرف أحمق أو عميل...قيل وقيل بشأنه الكثير...» ( الرواية، ص: 18 ) نفس الوظيفة، أي إجادة الحكي وتعرية المستور، يسندها الكاتب في رواية «عين الفرس» للراوي الشيخ المثقف العارف «محمد بن شهرزاد الأعور»، الذي كان مؤنسا وجليسا للأمراء من خلال حكاياته. ولعل الاسم الذي اختاره الكاتب لهذه الشخصية، يستضمر دلالات عدة، فبالإضافة إلى اعتبار هذه الشخصية امتدادا للشخصية التراثية «شهرزاد»، فإن صفة الأعور تكاد تكون قريبة من الصفة التي ألصقها شغموم بالرجل الأعمى في رواية « أرانب ..»، وبالتالي تكون الشخصيتان متشابهتين على مستوى امتلاك ناصية القول البليغ، الحكيم والكاشف، وإصابة كلتيهما بعاهة على مستوى العين، ثم أيضا نهايتهما التراجيدية، جراء ما ما لقيتاه من تنكيل وتعذيب من قبل السلطات، بسبب ما اعتبر كشفا للمستور، أو تسريبا لمعلومات كان ينبغي أن تبقى في طي الكتمان. أما بخصوص العنصر الثاني التاريخي، فيتمثل في دولة بورغواطة، لما تمثله من حضور سياسي غامض، ظل يشكل، إلى وقتنا الراهن، حلقة مفقودة ضمن حلقات تاريخ المغرب. ومعلوم أن هذه الإمارة نشأت في منطقة تامسنا ( الشاوية حاليا ) وكانت تمتد من حدود نهر أبي رقراق لتصل إلى مدينة آزمور على مصب نهر أم الربيع. (البكري، «المسالك والممالك» مكتبة المثنى، بغداد، ص: 87. ورد في كتاب «البرغواطيون في المغرب»، ذ. ابراهيم العبيدي وآخران، دار القرويين، ط3، 2014، ص: 47 ). وعلى الرغم من الفترة الزمنية الطويلة، التي وجدت فيها هذه الدولة على ساحة الأحداث السياسية في الغرب الإسلامي، والتي تمتد إلى أربعة قرون، لا نجد لذكرها أي أثر مفصل في المدونة التاريخية المغربية، باستثناء بعض الإشارات المبتسرة في ثنايا هذا المصدر أو ذاك، وهو أمر يلفه كثير من الغموض. هذا الغموض تزيد من التباسه بعض الكتابات التاريخية، حين تذهب إلى التأكيد على فساد دين أحد مؤسسي هذه الإمارة، ويتعلق الأمر بصالح بن طريف، الذي قيل ادعى النبوة و كان يتلقى الوحي... وبالعودة إلى محكي الراوية، نقف على ما يدل على احتفاء الكاتب بهذه الإمارة بما يفيد التذكير ببعض مناقبها، إن باعتبارها « بلادا للأحرار « أو من خلال استحضار مدينته « ابن أحمد «، أو بالأحرى مدينة نصار الفكاك، باعتبارها إحدى أهم وأشهر المدن البورغواطية . نستشف ذلك من كلام السارد عند قوله: « بفضل هذا الأعمى اكتشف وهو لا يزال صغيرا أنه ينتمي إلى بلاد بورغواطة الأحرار، فهنا توجد واحدة من أهم وأشهر مدنهم، التي تجاوزت الأربعين مدينة، ناهيك عن ثلاثمائة قرية: هنا قرب الضريح توجد مدينة تامسنا التي ستحمل بلاد بورغواطة اسمها الشهير، وتعرف كذلك باسم القصبة الكبيرة...» ( الرواية، ص: 18 ). ولا يقتصر السارد على ذكر ما يفيد التعريف بتاريخ بورغواطة المجهول، وإنما يحاول ربط التاريخ المؤسس لهذه الإمارة بما بقي منها من آثار شاهدة على قوتها وخصوصيتها، وبخاصة ما يتصل بساكنتها. حيث تبرز منطقة أمزاب، التي لا تعدم عقلاء - على الرغم من كثرة عجزتها ومجانينها - كمشتل للثورات والقلاقل وكقلعة للمتمردين، ممن يشهد التاريخ الحديث على بعض ثوراتهم المتأخرة. ومن ذلك، ما جاء على لسان السارد في قوله: «هذه عاصمة أمزاب التي خلفت قصبتها القصبة الكبيرة، كان سكانها دائما ثلثهم من العجزة وثلثهم من العقلاء والثلث الباقي من المجانين. لذلك كانت تنجب من حين لآخر بعض العباقرة وكانت كثيرة التمرد والثورات (..) مثل ثورة 1897، وثورة 1903، تلك التي كانت تؤدي إلى تخريبها حتى خربت بشكل كامل، سنة 1908، إثر مقاومتها للاستعمار». ( الرواية، ص: 38 – 39 ). وأيضا قوله: « فهذه المدينة قد أنتجت، عبر تاريخها الطويل، ما يكفي من العلماء والمفكرين والقادة والمتصوفة الكبار وكانت عامرة أو ضاجة، محاطة بالزوايا والمدارس...» ( الرواية، ص: 39 ). هذا التقابل الذي يقيمه السارد بين شخصية الأعمى – الحكيم من جهة، وعاصمة مزاب، باعتبارها امتدادا جغرافيا وبشريا طبيعيا لإمارة بورغواطة، من جهة ثانية، يفيد - في تقديرنا – ذلك المصير المأساوي الذي انتهى إليه كل منهما. إذ شكل كل منهما - تاريخيا - مصدر إزعاج وقلق، وحالة وجود « نشاز « في تقدير الواقعين خارج دائرته. الأعمى وقد كان ممعنا في الحكي، وليس أي حكي، وإنما ما تحيل عليه المحكيات من كشف لغطاء المستور، وفضح لمنزلقاته وإبراز لعيوبه، ثم إمارة بورغواطة وبعدها عاصمة أمزاب في الزمن الحديث، وقد صارت مصدر قلق وإزعاج، بما يمثله ذلك من خروج على السيطرة والاصطفاف في طابور القانعين بواقع الحال. خلاصة القول، إننا أمام مستوى آخر من مستويات البناء الدرامي لرواية « سباق الأرانب الطويلة «، حاولنا من خلاله، بغير قليل من إعمال لدينامية التأويل، الوقوف على بعض ما يؤشر عليه هذا العمل من ربط للماضي بالحاضر، وما ينم عليه من تنويع للتقابلات، ليس فقط في الكشف عن السر في اختفاء نصار الفكاك من المستشفى، وكذا خلفيات اعتقاله، وإنما أيضا السبب في اختفاء جزء من تاريخ المغرب – تاريخ إمارة بورغواطة، ثم اعتقال وقتل الأعمى، الذي لا يمثل سوى ذلك الصوت الذي يجهر بالحقائق، صوت بل ضمير من يرى الباطل ولا يسكت عليه حتى لا يصبح أخرصا. أو ليس الخرص عاهة أقسى من العمى؟