عرف سمبوزيزم البحر المتوسط بأزمور Symposium médirrannéen d'azemmour المُقام مؤخرا بمدينة أزمور المغربية بمحاذاة مدينة الجديدة، مشاركة ثلاثة وعشرين فنانا وفنانة من دول عربية وغربية مختلفة، وهم: الشاعر والفنان التشكيلي العراقي علي رشيد، والفنان التشكيلي السعودي نهار مرزوق، والفنان عادل حواتا من بلجيكا، والفنانات الفرنسيات آن ميشيل فريي (مينة) Anne Michelle VRILLET (dite Mina)، وهي رئيسة جمعية «ورشات الفن المعاصر» Ateliers d'arts contemporain، وكورين بانيي Corine PAGNY وساندرين أليهوكس Sandrine ALEHAUX والفنانة المغربية المقيمة بفرنسا مارية قرمادي، ثم الفنان الفرنسي جان شارل ملبيي Jean-Charles MILLEPIED، وقد مثل المغرب الفنانون: بنيونس عميروش وأحمد جاريد وفؤاد شردودي وزين العابدين الأمين ونور الدين بومعزة والمهدي أوفيد وعبد العزيز أوصالح ثم الفنانة ليلى العراقي، وأما تونس فقد مثلتها الفنانان التشكيليات أماني فاخت وبسمة بن يحيى وألفة جمعة والفنانة المقيمة بفرنسا ريم العياري، وكذلك الفنان والنحات حمادي بالنية، ومن الإمارات العربية المتحدة حضرت الفنانة فاطمة عبد الله لوتاه والتي تقيم بالديار الإيطالية، ومن الأردن شاركت الفنانة نسرين صبح في أعمال هذا الملتقى الفني الكبير، والذي تم عرض أعماله بقاعة أمبر آر بمدينة الدارالبيضاء. من العسير أن تلقي العين بصيرتها في تضاعيف اللوحات الفنية الباذخة وتقوم بعزل الأعمال التصويرية عن بعضها البعض وتصنيفها ضمن مجموعات. فاللوحة ليست نصا يتقاسم بنياته اللغوية مع نصوص أخرى. اللوحة لا تنتمي سوى لجسد الفنان ولا تنخرط في غير ريبيرتواره الجمالي. كل لوحة من عالم التصوير Peinture أو كل منحوتة هي بصمة دالة على الأسلوب الإبداعي للفنان، أو هي نقطة مضيئة في مرحلة من مراحله الإبداعية. غير أن اشتغال الفنانين على أعمالهم الإبداعية في فضاء واحد مفعم بأجواء الفن، من شأنه أن يوطد التراسل الفني بين الفنانين، ويؤكد انمحاء وتلاشي الحواجز بين الفن العربي والفن الغربي، فالكل يشتغل في أفق «جمالية شائعة»، حيث يخضع الفن بصورة ما لفكرة «الموضة». وفي هذا العصر الذي يشهد على نضج فكرة التحرر الثقافي، لم يعد الفنان المتحرر يؤمن بفكرة «الأصالة» إيمانا شوفينيا، إلا بما يجعل منها مسألة خاصة للاستقواء بحصن الذات، ولم يعد الفنان المتحرر أيضا يهتم بالمنازع الكولونيالية للفن، والتي جعلت جماليته «دخيلة» في بعض مراحل التاريخ الطويل للفن. فالفنانون في هذا السمبوزيوم يستعيرون ثقافة المشاركة خلال إنجازاتهم، ويتسامرون حول تكوين شخصياتهم الفنية وآفاقهم الجمالية، علما أن كل واحدة وكل واحد منهم يُسِرُّ في نفسه رؤيته الفنية العميقة، ولا يُبديها للآخرين إلا من خلال العمل الفني المُنجز. ولقد أتاح الفضاء المنفتح تحرر الفنانين من سطوة الهواجس الخاصة التي تجوب فضاءات ورشاتهم المغلقة، إنه تحرر من سلطة التقنية النابعة من تصورات جمالية أحادية، فهم الآن وسط تقنيات متعددة ومتباينة، وهم في هذا الطرف من مدينة أزمور المُشرع على البحر، تدعوهم زرقة الأطلسي لأن يُعدّواَ صهوات مخيالهم لامتطاء مغامرة فنية حقيقية. وقد ساهمت الأنشطة المكثفة الجماعية مثل زيارة المآثر التاريخية التي خلفها البرتغاليون على الواجهة الأطلسية، من تعميق جسارة هذه الروح وهي تترنح بين الأشكال والألوان والخطوط والحجوم. مقطوعات لونية: حينما نبصر أعمال كل من الفنانتين ساندرين ألهوكس ومارية قرمادي وأعمال الفنان جان شارل ملبيي نبصر في عمقها تخطيطات أساسة للون والمادة، فالإيقاعات التي تخلقها الكتل اللونية بتقابلاتها (الأحمر والأسود خاصة عند جان شارلي) تؤكد على قيمة التركيب المحكم للوحة، وتتجلى الطبقات اللونية بوهن وفتور على سطح القماشة في لوحات سندرين، وكأنها تفتح تجاويف للضوء الذي يكسر رتابة التباينات اللونية، وتجعل نفس الرائي مشرعة على منافذ الإحساس باختراق المجهول. وعلى الرغم من أنها فنانة حديثة العهد بفن التصوير (أقامت معرضها الأول سنة 2005)، إلا أنها وقد انتقلت من مرحلة التصوير شبه التشخيصي Semi-figuratif نحو تجريدية غنائية Lyrique، فهي حسب تعبير الناقدة كارولين كانو Caroline Canault، تستجيب لضرورة التحرر من الصورة لاستشراف عواطف بكر، هي التي قادتها نحو هذه الغنائية. ولعل من نافلة القول بأن العواطف هي المنجم الخام للفن، إذ ليست لغة الشكل واللون سوى قناة لتصريف الأحاسيس والنوازع المعقدة. وفي بعض أعمال الفنانين تغزو العواطف جسد اللوحة وتطفو في المستوى الأعلى للصورة. هكذا تكشف لوحات الفنانة المغربية الفرنكوفونية ماريا قرمادي عن العواطف الجياشة التي منحتها فرشاتها للعمل الفني، حيث عنف الضربات، وتشعب الأشكال الشجرية، ورغبة الألوان في التلاشي، وكأنها بقايا صباغة جدران متآكلة، ترسم كلها شدة وقهر العواطف التي تبدو وكأنها ذات إحالة واقعية، بل حقيقية. لقد تنوعت جماليات الإبداع في أعمال هذا السمبوزيوم، خاصة وأن العديد من الفنانين هم من جيل الشباب المهووس بالبحث، وتجريب الرؤى الفنية المحكومة بمنزع الحداثة، حيث يقوم البعض بمناوشة الشكل على سطح القماشة بطريقة واعية بالمنجز الشكلي الذي يحبل به الريبرتوار الجمالي لفن التصوير، ومحترسة من السقوط في أحبولة التكرار، والمرئي سابقا Le déjà-vu . فمثلا نجد لوحات الفنان عبد العزيز أوصالح تسعى إلى تحصين جماليتها عبر تقنية اصطناع المادة التي تفرض معالم الشكل، وهو باختياره الرمل وتليينه صباغيا يراهن على تلطيف الكثافة والبروز، والانتصار للون الذي يظل سيدا في رسم الأشكال. أما في لوحات الفنان نهار مرزوق، فالمادة أساس الاشتغال الفني. إنها لحمة وسدى اللوحة، ولوحات مرزوق لا تحتفي بالمكان، بقدر ما تحتفي بأشياء المكان، والتي تزرع فيه الحياة، وتضبط إيقاعه. قد تكون تلك الأشياء زوارق ترسو على شاطئ مزخرف، أو شخوصا بلباس خليجي، أو أواني بسيطة. وقد تكون مثل العمل الذي أنجزه خلال هذا السمبوزيزم قطعة جبس منحوتة بعناية، وكأنها مقتطعة من بياض النهار. غير أن المادة في فن التصوير لا ترتبط فقط بالاستعمال الحقيقي لها، وإخراجها فنيا، بل وأيضا من خلال الإيهام بها عبر الثيمة التي يمكن أن يشتغل عليها الفنان، كما هو الأمر في ثيمة الماء التي تجعلنا نسمع جلجلة أُرْغُنِه في لوحات الفنانة نسرين صبح. وفيما يظل الفنان فؤاد شردودي وفيا لمنحاه الجمالي، مستمرئا نغمة التجريدية الغنائية ذات المنحى اللعبي، يغير زين العابدين الأمين من تصوراته الإبداعية بين الفينة والأخرى. فأعمال شردودي تراهن على التوزيع المتقن للعناصر البلاستيكية: اللون والشكل والضوء والفراغ والخط داخل فضاء القماشة، وعلى سلطة الضوء الذي يبدو في أغلب الأعمال وكأنه يشن هجوما على العتمة. وفي مقابلته للسواد ولدكنة الألوان، خاصة منها البني بمختلف تدرجاته، يُدوزن الضوء إيقاع العمل الفني، ويرسم غلالة شفافة تنطق بمدى ما يمتلكه هذا الفنان الصامت من قوة الإحساس الذي يعمل على تصريفه في اللوحة. أما زين العابدين، فهو من الفنانين الذين يمجّون السباحة في النهر مرات ومرات، يؤمن عن قناعة بالبحث المستدام والتجريب المستمر للأشكال المكتَشفة الجديدة. ومن تجليات الصورة في أعماله الفنية استناده إلى تقنية الغرافيك في رسم الأشكال الآدمية التي تنطلق في الغالب من الأسفل نحو الأعلى، وهي المخلوقات المتراصة التي تصور فكرة الجماعة وهي ترنو إلى الأشكال العلوية في اللوحة، مما يجعل فضاء اللوحة متزنا، ورؤيته متماسكة بفعل الملء. لكن يبدو أن المنزع الصوفي الذي تفيض به حكمة النفري «إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة» جعل الفنان زين العابدين يتجه نحو ما يسميه البعض تقشفا أو إقلالا في توظيف العناصر البلاستيكية، وهو يوضح ذلك بقوله: «تجربتي الجديدة متمركزة حول مبدأ الإقلالية والاختصار في استعمال الخامات والمواد والأشكال، والاقتصار على ماهو أهم للتعبير» (جريدة الاتحاد الاشتراكي، بتاريخ 04 دجنبر 2015، حاوره نور الدين محقق) علي رشيد: الفن تمرد عندما كان الفنان التشكيلي والشاعر العراقي علي رشيد يرسم بالخطوط تلك الأجساد الملتوية على بعضها وعلى بقاياها، فإنه كان يروم من خلال ملامحها المفزوعة أن يُنبئنا بأن «الحرب صناعة القبائل المحكومة بجاهليتها»، وأن «في العراق ألف غرنيكا لم تظهر بعد».(من مقال لوحات علي رشيد تقع في مناطق محظورة بالغة الخصوبة لعدنان بشير معيتيق جريدة العرب،بتاريخ 20/08/2015). تتميز تجربة علي رشيد الفنية بثراء رصيده الجمالي، حيث أقام العديد من المعارض، التي أنجز من خلالها أعمالا تتميز برؤية فنية مزدوجة الأصول، فهي تمتح تصوراتها من حدوس الشاعر، وتطبيقاتها من مشاعر الفنان وحرفيتة في الأداء. وإذا كانت الخطوط في اللوحات السالفة الذكر تكشف عن درجة إتقان عالية في فن الغرافيزم، فإن أعماله في هذا الملتقى جعلت من تلك الخطوط المتلاشية، طُرقا دالة على ما يضطرب في الروح من تمرد على ما يخلقه العقل في الواقع من بؤس ودمار. لقد كان أدورنو دائما ينظر إلى الفن بوصفه قوة تمرد. هكذا تشتغل لوحة علي رشيد على الأثر، ويصبح الخط علامة سيميائية بامتياز حينما يتحول إلى شكل «الخودة» التي تعتلي اللوحة، وتُطْلُّ من بياضها عُنوة. كما تتسرب من خلف ضباب البياض أيضا بقعة من الأحمر، تسمح بقراءة الجراح التي ينكأها فعل الفن ويحولها إلى عزيمة وإصرار على التضحية، وكأن اللوحة من خلال تَيْنِكَ العلامتين اللتين لم يستطع الطلاء الأبيض - أو رغبة الفنان في السلام - محوهما، تبوح بواقعية الفن العربي المكلوم جرّاء الاعتداءات المتوالية عليه. بنيونس عميروش: نوستالجيا غنائية سبق للفنان التشكيلي المغربي بنيونس عميروش أن اشتغل في بداية التسعينيات على تلك الأشكال الجسدية والعضوية التي تبتهج باللون، والتي تنسج علاقات إيروتيكية قائمة على إثارة الحس الجمالي، وعلى الرغبة في تجلية طقوس المرح. ليرتحل الفنان بعد ذلك نحو مضارب العلامةLe signe ، حيث تقهر الضربات القوية للفرشاة سطوة الشكل، وتفسح مجال الرؤية واضحا للعلامة التي كانت آنذاك احتفاء خاصا بالموروث الثقافي، وبالثقافة الشعبية المغربية (وشوم، تخطيطات زخرفية ورشوم...). وفي مرحلة موالية يشتغل الفنان عميروش على الذاكرة، حيث يعرض بطريقة استيعادية العديد من مؤثثاتها في حلة فنية تعتمد على الكولاج، وعلى تدخلات الفنان لتحويل المسار الزمني لتلك المؤثثات المعروضة، ونقلها من أجواء المَلْمَح الكلاسيكي نحو روح المعاصَرة. وبعد ذلك نجده يحن إلى تلك الغنائية الفنية، والتي يُلبِسُها في هذا الملتقى لَبوسا جديدا. يقوم توزيع اللوحة في هذا الشكل الجديد على تقابل لوني بديع يتجلى في استعمال ثنائية لونية Bi couleur الأصفر الخبازي والأزرق النيلي بطريقة تنسجم مع الصورة المعتادة للكون: لون التراب على الأرض أسفل اللوحة، ولون السماء الزرقاء يتطاير نحو الأعلى. مع تذكير Rappel لطيف للأصفر في المستوى العُلوي. فالسماء تظل دائما في خدمة الأرض. وبينهما تنفتح كوة الضوء المندفع والمُبهر. ويكثف السواد المستعمل في الخلفية أسفل اللوحة من قتامة الأرض، بينما يؤكد الأبيض في خلفية الجزء العلوي إشراقة السماء. تظهر أعمال الفنان عميروش صارخة بشهوة التحول، وإرادة الانعتاق، مما يؤكد انخراطها المُعلَن في هذه الغنائية اللعبية دون إغفال العلامة التي وإن كانت مُقلة في حضورها، إلا أنها أصبحت أكثر غنى برمزيتها الجريئة، حيث تظهر الصومعة مقابلة لشكل الكاتدرائية، كإشارتين بصريتَيْن تقدمان لنا دعوة للأخوة والتبادل، وفي ذات الحين، دعوة للتأمل في الفهم المنحرف والمغلوط في هذا العصر للعديد من المفاهيم الدينية والسائدة في المجتمعات العربية. أحمد جاريد: هل يمكن تصوير الروح؟ حينما سُئل النبي محمد (ص) عن الروح، أجاب بوحي إلهي: «قل الروح من أمر ربي». يؤكد هذا السؤال الأنطولوجي رغبة الإنسانية في معرفة كُنه ما يُحرك الجسد، وجوهر ما يربط الإنسان بالكون. ولعل الفنان إلى جانب المفكر والفيلسوف والأديب، غير مدعو إلى الإجابة، بقدر ما يجد في موضوع الروح مساحات شاسعة مثيرة للتأمل. كلما تأملت أعمال الفنان أحمد جاريد، استحضرتُ فكرة الروح، ليس لأن لوحة جاريد كما يُقال متقشفة وتهتم بالفراغ الذي قد يدفع نحو تفاعل روحاني، ولكن لأن بحثه وعمله الفني كما يُعبر الناقد مصطفى شباك « يتجه نحو الضوء، ذلك النور الداخلي بالمعنى الصوفي، والذي يتدفق بغتة بعد «ليلة» طويلة من المعاناة والاغتراب لكي يغمر العالم بشحنات الحياة».(من كاتالوغ معرض رباعيات الخيام للفنان أحمد جاريد 2013). فبعد اشتغاله في إحدى مراحل تجربته الفنية على حلكة السؤال وتيه الروح، حيث كانت لوحاته تغرق في جمالية السواد، وكأنها تتخبط في ليل مدلهم مشبع بمعاني الرومانسية. انبثق النور، وأضيئت الروح، وتحول الليل نفسه إلى نور، فلا مجال للعتمة، لأن الروح تستمتع بوجودها ليلا أو نهارا: «فما أطال النوم عمرا / ولا قصّر في الأعمار طول السهر» كما يقول عمر الخيام الذي اشتغل الفنان جاريد على حكمه الطافحة بأنوار الروح. ولذلك ومن أجل تحقيق فهم جمالي وتواصل روحاني مع أعمال أحمد جاريد يجب الرجوع إلى أعمال الشاعر العباسي عمر الخيام، فآثار الخيام واضحة في لوحاته: إدراك الفجر، السعي نحو القبض على فتنة الضوء، رشاقة السَّحَر، وسِحْر اللحظة المُعاشة وألق اغتنامها. ولا ريب في أن على سطح القماشة استقرت العديد من الألوان والأشكال، بل والكلمات. لكن البياض، وهو شقيق النور، والناطق الرسمي بجمالياته أدرك كل شيء، ونقل اللوحة من لذائذ المرئي إلى متعة اللامرئي. ولم تعد تطل سوى بعض ندوب الليل السوداء، شاهدةً على السهر، وبعض الحروف والكلمات الدالة على المناجاة. كورين بانيي: خطوط أزلية أرادت الفنانة كورين بانيي أن ترسم بوضوح الموقف من الصدام الواقع بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، بدعوتها إلى تحقيق السلام بين هاتين الحضارتين ضمن تعبيرية استعملت الصورة ومختلف إبدالاتها الأيقونية للوصول إلى غاية هذه الجمالية التعبيرية، حيث لا يُعبر الوجه المستجدي للمرأة المحتجبة وحده عن هذه الدعوة المسالمة، بل إن أيقونات العلم الفرنسي واليد الداعية للمحبة، والمستعملة في المواقع الإلكترونية للتواصل الاجتماعي، والمشفوعة بعبارة «أحب» التي غدت في اللوحة «أحْبِبْني» Like me، وشعار فرنسا الداعي إلى الحرية والمساواة والأخوة، تساهم كلها في تقوية نص اللوحة، وسرد جماليته وتلقائيته. حقّاً لا تزال رحلة الفنانين الغربيين نحو جماليات المشرق العربي والدول المغاربية مستمرة، فبعد أن نهل العديد منهم من هذه الجماليات أمثال أوجين دولاكروا، وهنري ماتيس، وبول كلي، هاهي الفنانة كورين تمثل نموذجا متجددا على اكتشاف الفنان الغربي لمعين الجمال المشرقي الذي لا ينضب. ولأنها خريجة المدرسة العليا للفنون التطبيقية ومهن الفن بباريس سنة 1981، فإن بصمتها الاحترافية في فن الرسم Dessin تبدو جلية في أعمالها، التي لا تهتم كثيرا بالمادة، حيث نجدها ترسم في بعض الأحيان بأقلام الباستيل على الورق. وفي المقابل فهي تعتني كثيرا باصطياد اللقطات التي تعمل على تصويرها، مستندة في ذلك إلى جماليات الخط La ligne الذي يساعدها على رسم حركة الأجساد، (لوحات الفرس)، وعلى اختزال الصورة في الأجزاء المعبِّرة من الجسد. فخطوطها الراقصة والتي تنفلت دائما من صرامة التحديد الهندسي، نحو الانحناءات والعفوية التي تتحقق بفعل السيلان، تجعل أعمالها قوية التعبير والبوح. فاطمة لوتاه: مكابدات الضوء في أواسط السبعينيات قررت الفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه دراسة الفن التشكيلي، فتوجهت إلى بغداد التي شكلت قبلة للفنانين العرب آنذاك، بجماعاتها القوية: جماعة بغداد، جماعة البعد الواحد، وغيرهما. والتحقت فاطمة بأكاديمية الفنون ودرست أصول الفن علي يد الفنان العراقي الكبير «فائق حسن»، ثم انطلقت ترسم خطوات مشوارها الفني برحلاتها إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، ثم إلى روما حيث ستسقر، وترسي دعائم مشروعها الفني الذي ينطلق من إحساسها العميق بالتوحد مع الفن، فهي تروي حكايتها معه موضحة ذلك الوله بالفن في كل محطة من تجربتها الغنّاء: «بغداد كانت المكان الذي فجر العشق بيني وبين الفن، بيني وبين اللون وخطوط القلم الأسود.. فيها انفجر الحب.. أما في الولاياتالمتحدة التي ذهبت إليها بعد فترة الدراسة في بغداد بدأت أتعرف على الفن بصورة «أعمق».. أما في إيطاليا فكان عطري رائحة اللون، وكحلي من الفحم. هنا بدأ التداخل ولم يعد باستطاعتي التخلي عن لحظة واحدة، فأصبح تنفسي فنا وتفكيري فنا أيضا، أصبحت أنا هو وهو أنا». والفنانة فاطمة لوتاه هي «مزيج من صمت المتصوفة وجنون الفنانين الكبار ورقة الحالمين بإنسانية أكثر رحابة وعدل» (من مقال لمحمد بابا بعنوان: فاطمة لوتاه: الصحراء . صمت أسعى إليه، منشور بجريدة الاتحاد الإلكترونية بتاريخ: 13 مايو 2010). لاشك أن فاطمة ترسم الصحراء، فألوانها البنية والرملية والنارية كلها ترشدنا نحو صورة فضاءات الصحراء اللامتناهية. يمكن القول أن الصحراء تحتل لوحات الفنانة لوتاه في أوقات مختلفة، فانعكاسات الضوء على الرمل وحبيباته اللامعة، تجعله يظهر بألوان تتراوح بين السطوع والخفوت، بين الهُتاف والإسرار. إنها ترسم لقاء الضوء العلوي بالأديم حمادي بالنية: تحفة للمستقبل يصرح الفنان والنحات التونسي حمادي بالنية بأنه انطلق في مسيرته الفنية من فن النحت، وقد أوحت «خوردة» الحديد بأول أعماله الفنية، فقد كان يشتغل تاجر حدائد عتيقة ferrailleur، وهو يرى، على حد تعبيره بأن قطعة بسيطة من نفايات الحديد يمكنها أن تلهمه بالفكرة. وتلقى منحوتات حمادي إقبالا من طرف المخرجين لتأثيث فضاءات التصوير للأفلام التلفزيونية أوالسينمائة أو الوصلات الإشهارية. كثيرا ما يلجأ هذا النحات للمتخيل لاستلهام قوة الموضوع، ففي بعض القطع التي تمثل حشرات ومخلوقات تنتمي للخيال المستقبلي يكون لنا صورة عن شراسة الملامح الإنسانية لعالم المستقبل، لذلك تدق تلك المنحوتات في دواخلنا ناقوس الخطر باقتراب هلاك القيم الإنسانية، وتلاشي العلاقات النبيلة، فالمستقبل لبطش العلوم ولتجردها من الأخلاق. فحشرات بالنية هي العلم العاري من الأخلاق والذي يبعث الرهبة، ويكثف من غلالة المجهول الذي يلف مستقبل الإنسانية. يطوع الفنان حمادي بالنية المادة بمجهودات جمالية عالية، فهو لا يقيم الخط بقطعة حديدة واحدة في العديد من أعماله، بل هو يُنجز الانحناءات والتقعرات والنتوءات بقطع صغيرة من البراغي والدوائر والقطع الحديدية المختلفة والمتخلفة من الأجهزة الميكانيكية والأدوات الحديدية ذات الاستعمالات المتعددة. ريم العياري: هجائيات باكية غناء السيرانات عبارة شبه بها رابليه الكتابة التي تبدو واضحة منسجمة مع هدفها، فقد تغري القارئ وتصرفه عن معانيها العميقة، فهي تشبه غناء حوريات البحر (السيرانات) اللواتي كن –حسب الأسطورة اليونانية- تغرين البحارة بغنائهن وتقدمنهم إلى الهلاك. كذلك هي لوحات الفنانة ريم العياري التي تثير بتأرجحها بين التشخيص والتجريد، وبألوانها التي تحرص على تناغم الحار والبارد. سخونة الواقع الذي يمثله الواقع التشخيصي للوحة. وبرودة السكينة التي أبعدت الانفعال عن تصوير وبناء اللوحة. ما الذي تبكيه الفنانة ريم في هذه التحف الفنية؟ هكذا تساءلتُ أمام أعمالها. وهكذا تذكرت تأكيد هايدغر على أن الفن ليس سوى المُعاش، فالنساء المنتحبات والأطفال الذين يصرخون في وجه مأساة الحياة ليسوا سوى صورة عن تفاعل الفنانة مع قضايا الواقع، ورصدها بالاندماج الكلي في مأساتها.