هذا التنوّع في الخارطة التشكيلية المغربية يُعدّ سمة من سمات تاريخ التشكيل في المغرب ماضياً، وحاضراً بفضل التعرف على مدارس غربية، وبفضل التفاعل مع تيارات فنّية ذات مرجعيات مختلفة، وبفضل تمازج الثقافات فيه أولا وبفضل الرهان على تجارب تشكيلية في التجريب ثانيا مما منح لكل فنّان تجريبي إمكانات ذاتية، وموهبة مدعومة بالقدرة على اكتساب المعرفة بالدراسة،و بنحت مناحي فنّية جديدة يرسم بها للفن التشكيلي المغربي لغته اللونية في علامات لها دلالاتها، ولها عمقها المحلي ،ولها تطلّعاتها التي تستشرف بلهفة وبثبات أفق العالمية. وبفضل هذا التنوع الدلالي، والبصري، والتشكيلي، في عالم اللوحة،وفي فضاءاتها الشاعرية، نحت كثير من التشكيليين المغاربة أسماءهم على صفحات تاريخ التجربة التشكيلية بالمغرب، ووسّعوا من دائرة حضورهم الفنّي والجمالي بلغة التشكيل،حتّى غدا هذا الحضور امتدادًا لتجارب عالمية،وصار امتداداً لأسلوب تشكيليين عالميين صارت ظلالهم، وملامح أشكالهم التعبيرية، محفّزاً للكثيرين منهم على جعل أسلوب الإبداع بهاء باذخاً في اللوحة، وانزياحاً حقيقيا عن كل الأصول، والمرجعيات والظلال والمدارس الفنّية التي كانت لديهم من قبل تمثّل المحفّز الذاتي الذي يقدح نور الوجود في لون وفي أشكال اللوحة،ويشعل نار الرغبة في فعل صهر هذه المرجعيات في امتدادات تتوسّد على معاني التجريد الشكلي في أشكال،وألوان، وحروف،ورموز، وأيقونات،تصير بعد نسجها في عالم اللوحة مزجاً للوحة مع حياتها الجديدة،كما أبدعها الفنّان التشكيلي. وإذا كان رواد هذا التجريب التشكيلي في المغرب أجانب ومغاربة قد رسموا باللون والأشكال صور المغرب،وطقوسه،وفروسيته،ومعالمه التاريخية فأبلغوا،ورسموا فأوضحوا،وشكّلوا مواضيعهم التجريدية بصمت اللوحة فأشكلوا، والتبس على المتلقي فكّ وفهم جمالية غموض اللوحة،فإن هذه العمليات كانت تُضفي على إبداعهم متعة أخّاذة تستمتع بجمالية المباشرة والوضوح تارة والغموض تارة أخرى وتجد لذّة في جمالية الالتباس، وتخوّل لهم إمكانات التفاعل بينهم وبين تجارب الرواد،ومن جاء بعد الرواد ،وتساعدهم على أن يكونوا على علم بالأسس الثقافية التي ينطلق منها كل فنّان تشكيلي مغربي،سواء أكانت أسساً ثقافية بصرية، تنضاف إلى تجارب أخرى سابقة ،لها علاقة بالمعمار،وبالخطّ،والحلي، والزربية،والألبسة بحواشيها وزخرفتها المزركشة، أوكانت لها علاقة بالطبيعة الميتة والحية، وبالفنّ الإسلامي،و بالفسيفساء، فيختار منها كل فنّان جملة من العلامات التي يكتب بها علامات الشكل، أو الأشكال ،والألوان المحدّدة، أو المجرّدة ذات التجريد الذي يبني واقعية اللوحة على المواد الموجودة في الواقع لتصير صورة فوتوغرافية،أو تتحوّل إلى لوحة تشكيلية،وهو بكتابة هذا المحدّد، أو بتشكيل هذا المجرّد، يكتب واقعية التجريد بغموض الصمت الذي تنطق به عوالم اللوحة. وعندما تنضبط الرؤية الفنّية للفنّانين التشكيليين المغاربة، بمهارة التوظيف الفنّي لهذه الأسس، بكل هذه العلامات التي تكتب زمن التنوّع التشكيلي،وتتربّع على حركة التوازي والتقابلات بين الشكل والشكل، وبين اللون واللون،وبين التقاطع مع الخطوط والأبعاد، والظلال، والأعماق ،تكون هذه الرؤية الفنيّة،وهذه المهارة، مقياساً حقيقياً يحدّد مدى نجاح هذا التنوّع التشكيلي وهو يُسّخّر فنّيته ومهارته لكتابة الحركات، والحروف، والفراغات، والألوان في الفضاء المسطّح،أو في المجال المركّّب بأحجام وزوايا تعطي للرؤية،وللتخييل في بناء عالم اللوحة، فرصة التجوّل بين مفردات التقاطعات و الأحجام،وتساعدها على الانتقال بين نتواءات، وتضاريس، و تراكيب معمار اللوحة، لإنتاج جمالياتها بالأبعاد التي تُنزل الخطوط والظلال والألوان منزلتها في أبعاد وأعماق القماش. وتظهر جلياً هذه النقلة النوعية في مستويات تغيير أسلوب التعبير التشكيلي المغربي عند الجيل الجديد الذي بدأ ممارسته الإبداعية مع بداية التسعينيات من القرن العشرين،دون أن يقطع صلته طبعاً مع الرغبة المتأجّجة في مواصلة مشاهدة أعمال الرواد،ومواصلة دراسة تموّجاتها الفنّية، والتعرف على أسرار التميّز فيها،ودون أن يقطع علاقاته بالتعبيرات والتقنيات الغربية التي أخذت تُحدث فعلا انقلابياً في التعامل مع اللوحة في علاقتها بزمن بناء الأحجام،وزمن التعبير عن العالم ،وزمن تأثيث العلامات اللونية ذات البناء التشكيلي الذي يصير في نهاية الإبداع، ويصير مع بداياته معماراً آسراً بجمالياته المنفلتة من قيود الحجم الواحد،و اللون الواحد،و البعد الواحد. ومن هذا الاختيار،ومن هذا المنظور، وهذه التجربة ذات التنوّع المتنوّع،ينتمي الفنّان التشكيلي بنيونس عميروش إلى خارطة هذا التنوّع، حيث دخل عوالمه محمّلا بالكثير من الخبرات،والمعارف،والمهارات،فهو ناقد تشكيلي،وأستاذ لهذا الفن، و مترجم للعديد من الدراسات التي تهتمّ بالتجربة التشكيلية في الغرب، و مُطلّع على مدارات ومظاهر التجديد عند التيارات التشكيلية ذات المنحى المتمرّد على أسلوب و أيقونات الكتابة المتجاوزة فنّيا. وبدعم من ثقافته البصرية التي راكم بها القدرة على إبداع لغة التشكيل أثناء تلقّي تجارب التشكيل المابعدحداثية،والبوب آرت، صارت له ملكة حسّاسة امتلك بها القدرة على تفكيك العلاقات بين العلامات ومرجعياتها،وعمل على فهمها ،والاقتراب منها ،ومعايشة أسرارها الإبداعية،وقراءة أكثر من تجربة ،وأكثر من لوحة، وأكثر من إنجاز فنّي،وما اشتغاله على فهم هذه التجارب ،والعمل على تأويل معانيها،ونقل ما يمكن نقله من مفردات فنّية إلى تجربته لتصبح نوعاً من أنواع اكتساب المعرفة بتجارب الآخرين،إلاّ بهدف تحويل الرغبة في الكتابة التشكيلية إلى بداية التحقق الفنّي زمن الكتابة في اللوحة،والإفصاح بالتفكير الهامس عن لغة التيمات الفاعلة في مخاضات الألوان، وامتزاجها،والمزج بين أصلها والأصل الذي ستصير عليه في اللوحة أثناء ميلادها لحظة الإبداع التشكيلي، وحل ألغاز كل مكونات، وكل أسرار مدارس الفن التشكيلي ،والنقد، لحظة اكتمالها الفني. والعناية بهذه الخبرة،والعناية بتوظيفها في إنتاج المثال الذي يريده عميروش أن يصير ميزة خطابه بالتشكيل، غايته أن يتحوّل نتاجه إلى جمال مُطلق ينطق بكلام الألوان الصامتة بعد توليد دلالاتها الجديدة،ويمزج ما بين علامات الأشكال ومستويات تأثيثها في معمار اللوحة،وكلّ هذا طبعاً من أجل تحبير اللون بالكتابة فوق قماش اللوحة بعلامات يكون تشابكها تشابكاً لا متناهيا من الإيحاءات،والرموز،والوضوح، واللبس، وكأنّها تحكي عن مثال لا يوجد إلاّ في زمن تجريدي محكوم بمفهوم عميروش للتجريد القائم على ترك ملامح الواقع حاضرة في نتاجه كبعد ينتمي إلى الذاكرة، وإلى التاريخ،وإلى الحلم. وما يميّز هذه الكتابة التجريدية التشكيلية في لوحات بنيونس عميروش، هو تجميع مواد جمالية مختلفة منزوعة من سياقات مختلفة، يبني بها اللوحات،ويضفي الشاعرية على علاماتها،ويزّين حُلمها بألوان الطيف، والخيال،والتأمّل،بفعالية تُركّب عناصر أخرى تدخل في سياقات غير سياقاتها الأصلية،فتُدمج فيها الأحجام، وتدخل في تشابكها الأبعاد، وتتموّج فيها التركيبات اللونية التي تصير موضوع اللوحة،أو تصير مفردات لونية توضع فوق هذه اللوحة ،أو توضع بجوارها مفردات أخرى تتوازى أو تتداخل معها كقصاصات الجرائد،والمقتطعات من بوستيرات،أو الملصقات،أو الصور المنتقاة بعناية من الزمن الموسيقي، والسينمائي،وكلّها علامات مأخوذة من أزمنة فائتة، لكنها تبقى رموزاً حيّة في ذاكرة الفنّان عميروش،معها تظلّ المنشورات السياسية،و ملصقات الأفلام السينمائية العالمية، وأغلفة الكتب، والحرف العربي،والرسائل المخطوطة،والطوابع البريدية،والأسطوانات،تمثّل ذاكرة للتواصل في هذه التركيبات،فتشكّل ذاكرة لمعنى المكان،وذاكرة لمعنى الزمن،وذاكرة لأشكال التواصل الفنّي مع عالم السينما،وموسيقي البوب،والجاز،والبلوز، والإشهار، والنظم الخاص بالحرف الذي يخرج من بنيته الكتابية لغوياً،ليصير خيطاً ناظماً لهذه الذاكرة فنّيا،كما قدّم نموذجه المعرض الأخير الموسوم ب»فلاش باك». هذا المعرض الذي نُظّم ببهو المعهد الفرنسي بمكناس من 14 إلى 31 يناير 2009 تحت شعار «فلاش باك»، يمثّل زمناً إبداعياً ينطق بدلالات التجربة التشكيلية لعميروش،و يقدّم لوحاته موقّعة بين 2003 و 2008 ،كلّ لوحة من لوحات المعرض عبارة عن «لوحة متحف»، وكلّ لوحة فيه تنطق بحنينها إلى بهاء اللحظات الجميلة التي طواها النسيان،أو داس المجتمع الاستهلاكي جماليتها،ودنّسها بقوّة الإشباع النفعي العابر الذي يطرد جمالية الفنّ الإنساني من التواصل الإنساني. والفنان بنيونس عميروش لا يعني باستحضار هذه العلامات نوعاً من القبول المطلق بما تحمله من دلالات،ولا يتصالح مع ما هو جاهز فيها،لأنّه يريد تشييد متحف يخصّ مفهومه لتشكيل كلّ لوحة، ويريد التخلّص من شتات معاني الأفكار التي لا يريدها أن تبقى محصورة في ظلال الذاكرة، بل يريد أن يجعل من فعل إحيائها إعادة للزمن الهارب من الزمن الحقيقي،فيسعى إلى إدخالها في الزمن الإبداعي المفترض، ويبني ذاكرة اللوحة بأزمنة تكون جمالياتها أزمنة حالمة يحضر فيها الزمن السياسي، والإشهار، وإعادة استنطاق الذاكرة، والخِزانات الخاصّة وما تحويه من وثائق، ومستندات،وصور فوتوغرافية قديمة،يعود بها إلى تركيب مفردات أخرى ،بعلامات أخرى، تصل إلى اكتمالها المحتمل بعد أن تتمّ أسْلبة أنساق اللوحة/ المتحف بهذه المفردات اللونية، والصورية،فتغدو بعد الانتهاء من تشكيلها بنية مكتملة الدلالة، تقاوم النسيان، وتتخلّص من مرارته، وتعمل على الحدّ من سبات العلامات، أو موتها،و تحدّ من الميل إلى إفراغها من دلالاتها المتراكمة في الذاكرة،من هنا يأتي تدخّله لإعادة تأويل هذه العلامات يجعله لا ينزوي بعيداً خارج ألوانه، بل يجعله قريباً منها،أو جزء منها،وهو يعبّر بالصرخةوبالعيون، وبالمهرج،وبالنخيل،وبتشابك الأيدي، وباللوحة ذات الثلاث لوحات في لوحة واحدة، أو ثمانية لوحات في لوحة واحدة. وبالاندماج الحاصل بين هذه العلامات و المواضيع الصغرى التي لا يمكن الفصل بينها وبين كل عنصر في اللوحة يريد عميروش أن يأخذ من وميض الذاكرة ما تجذّر في هذه الذاكرة ليغدو كل مكان في اللوحة/ المعرض موعداً مع غيبهب كلّ ذاكرة توسّع عمر اللوحة بالتذّكر المتعدّد بالصور، بعيداً عن غموض النبرات،والإيقاعات،وحركات الشخصيات،والألوان. وبهذا تسعى كل لوحات/متحف في التجربة التشكيلية عنده إلى إحياء ذكرى الثقافة البصرية في العمل التشكيلي بكتابة تصير قصيدة صامتة لا ينطق فيها سوى حب الإصغاء إلى ما في الدوائر المغلقة،والأسطوانات من معاني ودلالات إنسانية،والاستماع إلى المربعات التي فقدت زواياها،وإتمام الصور التي نقص اكتمالها بعد أن تمزّقت رقعتها،وبهت فيها اللون، والملمح، والقسمات، فيتدخّل لتعديل شكلها بما يلائم شكل اندماجها مع باقي العناصر التي تجمّعت فيها تيمات كل اللوحات الملفوفة بسواد اللحظات الملتهبة بالتشاؤم،أو المسربلة بالألوان الزاهية التي تصير سوداء وبيضاء تتشح بألوان الحلم،والحنين،وتتطلّع إلى رؤية مابقي عالقاً في الذاكرة،وكأنها صور مكتوبة باللونين الأبيض والأسود،وتأتي ألوان ساخنة لتلوين هذه اللحظات،وتخرج بها من زمن الحلم والتذكّر،والسهو،والانفلات من زمن الضياع،ويقرّبها من الحالات التي تصل بخيال الفنان التشكيلي إلى تجميل ذاكرته في ذاكرة كل لوحة/متحف، حتى لا يظل عالم الإبداع الفنّي مدنّساً بآفة النسيان. مع التذكّر،ومع الخيال،ومع عشق العلامات التي تثير فتنة البهجة في مخاض الكتابة التشكيلية وتوليد العلامات التي تصير جزء حيويا في تركيب زمن السفر بين القطع،والمنتقيات،والأشياء،تصير لحظات اللوحة/ المتحف،لحظات بكر في أزمنة بهيّة،و تتحّول مع لذّة النص المرئي إلى سويعات هناء تفارق رهبة ماض ولّى،لتلتقي بحاضر مغمور بدفق الغبطة، هو مستقبل ذاكرة الكتابة التشكيلية في تجربة بنيونس عميروش،بعد أن صار كل متحف في اللوحة شلالا من الضوء الدافق الذي يحكي حكايات عن وهج الماضي الآفل. إن ذاكرة اللوحات/المتحف عنده هي ذاكرة تكليم الماضي بكلام يغادر ظلمة الزمن الفائت، ويسلّط الأنوار عليه بلعبة الضوء والظلال على مفردات النص البصري الجديد،بعد أن نسى أن كل العلامات والرموز السابقة لا تعود بينها مسافات بين وجود سابق،وآخر يتأسّس لأن قيمتها، أو موقعها خاص في الحاضر، يتمّ استبدال شكل حضوره الموروث،بشكل آخر معدّل، أو بأشكال أخرى تُعاد كتابتها بما يُلائم منظور عميروش إلى نهجه في التعامل مع الموروث البصري المغربي والعالمي لتكوين عالم اللوحة بتقنية «الفلاش باك» كتقنية سينمائية تراعي توقيف الزمن الحاضر أثناء استحضار الزمن الماضي بكل ما يعنيه هذا التوقيف من رغبة في إنطاق حياة الأشخاص،والكلام،والحركة،ووصف رائحة الأماكن،وعبق المدن،والكشف عن أسرار العالم. اللوحة المتحف في هذا المعرض لا تتكلّم بلسانها،بل تتكلّم بلسان الزمن الذي مضى،تنطق بكلام العالم،تنهض من الأمكنة،والوجوه، والأشياء الغافية،تستجمع قواها بإرادة من يكتب عمرها في فضاء اللوحة بمختلف درجات الألوان،فتكون السيادة فيها للألوان الساخنة ،أو الباردة، حسب المقامات، وحسب العناصر والملحقات التي تحتل مكانتها بشكل مُكبّر في البرواز الذي يحدّد جغرافيتها، وخارطتها، و يؤطّر مواضيعها ،بغية أن يسود الدفء، والارتياح،والمتعة،عند كل متلقٍِ يقترب من هذه الدرجات والأشكال بعد أن تمّت هندسة متحف كلّ لوحة على الشكل التالي: * تقسيم فضاء اللوحة/ المتحف إلى أروقة صغيرة تستقل بموضوعها،أو تكرّر هذا الموضوع في اللوحة بموضوع واحد تكوّنه مواضيع صغرى،وكأن الفنّان عميروش يلعب لعبة الصورة وما تعكسه الصورة بالمرآة،إما بالسيمترية،أو بالتقابلات بين الصورة والصورة،أو باختيار تسلسلها كشريط سينمائي يحتاج إلى من يحرّك صوره لتكتمل الحركة بالتتابع الذي يعطي في نهاية المطاف بلاغة الاكتمال للصورة السينمائية. * تركيب اللون بالأسطوانات القديمة،بلونها الأسود،وبالجسد،وبملامح المدن،وبالأبواب التقليدية ذات الأقواس،والشرافات في أسوار المدن العتيقة، وإدماج أشكال الزليج المغربي في بنية المتحف، إضافة إلى توظيف الحرف الأمازيغي ،والعربي،وأغلفة الأسطوانات،ووجوه المغنّين المشهورين عالميا للحفاظ على ذاكرة العناوين،وتواريخها،وإحالاتها على زمانها. * العري المحتشم لبعض الأجساد،والتدخل القصدي لتصغير بعض الأعضاء،برسم رأس مصغّر، أو تكبير أعضاء أخرى بشكل كاريكاتوري فيه سخرية، وغروتيسك،وشنق،وقبلة الطفولة البريئة،أثناء تقديم أجساد،وسيقان مكبّرة، متراكبة، مقلوبة أحيانا أو أّنها تتعايش أحيانا أخرى داخل أوضاع مختلفة. ومن خلال كل ذاكرة جديدة في كل لوحة/متحف،يرتسم بالتركيب،وبالتوليف النصي البصري عالم مدهش يسعى به عميروش إلى التخفيف من صدمة النسيان الذي يطال الزمن الجميل الذي ولّى، ويسعى إلى ترويض كلام اللوحة على مصالحة المتناقضات، والمفارقات التي لا يريدها أن تعادي لغة الإبداع،أو تسحب منه جذوة التواصل مع المواضيع الأكثر التباساً، أو دنساً، أو غموضاً في تاريخ الزمن الإنساني،لأن التشكيل عنده عبارة عن عمليات تتحقّق بالمواءمة بين الخطوط،والمساحات،والفراغات في القماش الذي يختفي كأرضية للبناء الدلالي،بعد أن يتحوّل متحفاً يتمّ بناؤه بناء غريباً يدل على غرابة الجمع بين جمالية التذكّر في جماليات العلامات في المتحف وبين الصورة النهائية للوحة. الذاكرة الجديدة في اللوحة/المتحف هي ذاكرة المعنى الجديد بالعلامات الجديدة التي تعطي للتواصل معناه الجديد اعتماداًعلى فهم،ونباهة، وموهبة، وصناعة الفنان عميروش لهده العلامات، وبحذقه يسخّر إمكانية الاقتراب أكثر من الإبداع الذي يريده متجلياً في هذا المتحف، فيبدأ سفره المتخيّل في التراث العالمي كتراث إنساني لبناء متخيّل كلّ لوحة،لأنّ التذّكر عنده يعني النهوض من سبات العلامات ، والعيش مع روعة العلامات الجديدة التي عانقت بياض وهيبة فضاء اللوحة بتأثيث شعرية التفاصيل أثناء التذّكر حتى لا تتعوّد العين على القبول بالبياض المطلق،أو تصبح أسيرة الظلمة التي تصبح معها هذه العين عمياء. وبين الذاكرة الملتهبة بغنى هذه العلامات الدافقة بفيض المواضيع ،وبالذكريات ذات المرجعيات الذاتية ،والمرجعيات الاجتماعية، وبين الغرب في علامات الغرب الآسر ببلاعة الصور،وبالتراث العربي الآسر ببلاغة الخط، وتصوير الجسد،اختار الفنّان التشكيلي بنيونس عميروش، تيماته الخاصة في التشكيل، ليكتب بها ذاكرة كل لوحة/متحف،وداخل كل ذاكرة تتأسّس في اللوحة ذاكرات أخرى يُؤالف بينها وبين السياق الذي وضعه لرسم مجال العمل التركيبي للوحة، إما بالسيمترية،أو بقلب الصور، والأجساد،والأحجام، أو بوضعها كما هي ،بلونها الأصلي، أو بوضع لمسات لونية فنّية على هذا الأصل ليصير مفردة تنتمي إلى باقي مفردات التشكيل داخل اللوحة،حتّى توافق وتتناسب مع جمالية التركيبات التي تخضع لها كل المواد المنتقاة للعمل التشكيلي. والفنان بنيونس عميروش حين يقوم بلصق الكثير من الأشكال ، والكثير من الأحجام لتكون خيطاً رابطاً بين هذه الذاكرات في الذاكرة المحورية في كل لوحة/متحف،يقوم بتجميعها بكولاج يستجيب لرؤيته الجمالية ،فيُنهض الذاكرة من غفلتها، ويحيي علامات اللوحة بهذه الذاكرات المتعدّدة بصمت ينطق باللون،وبدلالات العناصر الملحقة باللون، فيحقق بناء التيمات المركزية في كل لوحاته بالمخطوطات،والأسطوانات،ويحوّل ماهياتها الموجودة إلى ماهية أخرى تخفي الحنين إلى زمن الطفولة،و الصبا،والرشد،والنضج الفنّي . يعتمد بنيونس عميروش في هذه التجربة على التجميع، وعلى الكولاج،ويقوم بتركيب الأشياء الملصقة على القماشة، يُعالجها تشكيلياً،ويُصرّ أثناء التدقيق في التوليف بعفوية وعقلانية على إنطاق هذا الحنين بكلام المنتقيات والمهملات التي يضعها على القماش، ويُدمجها في فضاء اللوحة كصيغة نهائية يتحوّل معها التوليف البصري،والتعبيري،والمزاوجة بين الرمزي والصوري،إلى صيرورة إبداعية تمرّ بمرحلة التصوّر، ثمّ تحديد الرؤية،ثمّ إنهاء صياغة الفكرة بهذا الحنين لتتبوّأ مكانها في الموقف الجمالي لهذه اللوحة/المتحف ،فيبرز مفهوم التجميع كقيمة تعبيرية بتقنية إظهار أسطوانات تنتمي إلى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، من بينها أسطوانات»الخنافس»،واستعادة الحاكي»الفونوغراف»كآلة غدت تنتمي إلى الآلة التراثية/المتحف. إن استحضار كل فنّ مهدّد بالزوال، وإدماجه في اللوحة /المتحف، هدفه عرض الأشياء الجاهزة،وتقديم الوثائق المصوّرة،كأسناد تدعم السند الأساس للتجربة التشكيلية في كلّ اللوحات، وهو سند القماش الذي تدخل فراغاته الأشياء المسطّحة، وتؤثّث فيه ثنائية الأبعاد،أبعاده الممتدّة بين نوستالجيا اللوحة وحنينها إلى وصل الذاكرة بالعمل التشكيلي الذي يستعيد هذه الأسناد كحياة، وكنبض لذاته التي يعود إليها بلهفة،ويُطلّ عليها بعشق صوفي بعد تركيبها، يقرأها بعد إنهاء تهيئ اللوحة/ المتحف،ويعود إليها ليلمّع علاماتها في سياق فني جمالي في هذه اللوحة/ المتحف. وتحقيق هذه الومضات الاسترجاعية»الفلاش باك» بالكولاج، وتحقيقها باللجوء إلى التحويل الإيكونوغرافي»iconographiques»،يعني أنّ أنماط الكولاج هاته حدّدت عند عميروش كل معاني التشكيل،وسهّلت عليه الوصول إلى هذه النوستالجيا بعد (عمليات «المسح»،و»الخدش»، و»الإضافة»،و»الحذف»)، لتكون المعالجة التشكيلية وسيلة فنّية تصل في نهاية المطاف إلى غايتها ،وهي بناء المتحف في اللوحة،وتهيئ اللوحة لتصبح عالما من الإشارات البليغة،والمقامات الصامتة،والصور التي تعيد توازنها في الحياة،حين يتكرّر حضورها في أبعاد اللوحة. معرض «فلاش باك» يؤكّد أن بنيونس عميروش مغرم بالبحث، ومهووس بالتجريب وهو يقدّم اللوحة /المعرض ليرسم بها ملامح التحولات الاجتماعية،والسياسية،والاقتصادية في العالم،فيها يتحدّث بلغة العصر، وبها يواكب بكل متحف مظاهر الحضارة العالمية المعاصرة وهي تواجه طوفان العولمة،وهو ما جعل هذه التّحف في كل متحف غنية بالتفاصيل،وبالأحداث المرئية،والصامتة، والموحية بفقدان التواصل بين الإنسان والعالم. ويهدف التكوين التجريدي لفضاء اللوحة،وإغراقه بالإيحاءات،والرموز،والإشارات البصرية،إلى توضيح الفكرة،وتسهيل إدراكها،وقراءة شاعريتها الهامسة بهمس الذاكرة،وهو تكوين أراد به الفنّان عميروش بصم تجربته بالجديد،لأنه فنّان يحترم عمله التشكيلي، ويحبّ الامتلاء، ويكره الفراغات العبثية الفوضوية التي تدخل زمن المتحف بشكل اعتباطي، ويضع شهوة الألوان وحياتها مقابل موت العلامات،و مقابل تناسيها،أو عزلها عن حياة من يعيش ذكراها،وهو بكل هذا يهب لنفسه الحق في تغيير سياقاتها في عالم لا يتغيّر،لكنّ السياق هو الذي يغّير الدال ومدلوله في عالم التشكيل ليصبح هذا العالم محكوما بسياقاته،وغير محكوم بفراغ معناه من المعنى. في مدينة وجدة التي ولد فيها بنيونس عميروش عام 1960 بدأ في رسم البورتريهات في السلك الإعدادي،وشرع في المشاركة في أنشطة المؤسسة بتصاوير ذات مواضيع قائمة على التلقائية،والعفوية،ومن الولع الرومانسي برسم الورود والقلوب في دفاتر الذكريات،دخل بنيونس عميروش مجال التخصص في التشكيل ،دراسةً، وممارسةً،ميزتُه في هذا الولع الارتماء في أحضان التخصص،والعمل بمنهجية،والتفكير بحرية،والتجريب بتأمل،وبناء العوالم الفنية التشكيلية بشهوة غامرة،والتأني المتعقّل في التعامل مع دهشة الثقافة البصرية، وهذه كلّها هواجس صاحبته في تجربته التشكيلية منذ معارضه الأولى الفردية في وجدة سنوات 83 85 87 ،ومنذ بدأ في تقديم نتاجه في المعارض الجماعية داخل وخارج المغرب،و مشاركته في الصالون السادس للفن المعاصر حول الموسيقى «أنجو»،بفرنسا حيث حصل على جائزة التحكيم عام 1996 ، ومشاركته في الملتقى الفنّي الدولي حول الحرف المنظّم في مدينة «صفاقس» بتونس فبراير أبريل 2007 ،وهذا الولع بما هو بصري ،والاهتمام بالفوتوغرافيا،والمسرح،جعلته يكتب سينوغرافيا مسرحية(العوادة) عام 2003 عن نص مسرحي للكاتب الإيطالي لويجي بيراندللو، إخراج بوسلهام الضعيف،وجعلته ينتمي إلى زمرة الموجة الجديدة للفن التشكيلي المغربي برؤية تجديدية أساسها فهم الذات والعالم من أجل توكيد شرعية الانتماء إلى الزمن التشكيلي المغربي بثقافة أخرى، وبمنظور آخر يؤكّد صفة التنوع الذي يتميز به الإبداع الفني في المغرب.