عبد الغني أوبلحاج يعود إلى الساحة التشكيلية بمعرض جديد بعد غيبة طالت لمدة إثنتي عشرة سنة، استثمرها في البحث الفني والأكاديمي، وضمنها انشغالاته الجامعية بالسوربون بباريس، فهو مختص في الجماليات والفن الإسلامي، ويعتبر مديرا مؤسسا لمجلة فن التشكيل، ساهم في تكوين أجيال وأسماء بارزة في المجال التشكيلي، وفي إغناء الحقل الثقافي المغربي بدراساته النقدية والجمالية. من الخاصيات التي طبعت المعرض الحالي لعبد الغني أوبلحاج، احتلال اللون عرضيا لمساحة اللوحة وتقارب شدة درجته الضوئية، مع ترتيب للأشكال بطريقة مورفولوجية تقوي الثراء الصباغي في تناسقه وتناغمه وبتوزيع حركاتة الدافقة نحو العمق، ترسم أخضر نباتيا رحيقا ينتصر للحياة أو تموجا بنيا يكتشف أسرار الأرض وغيرها من التكوينات التي تعيد تشكيل عناصر المادة الطبيعية، بقدر ما تقترب من التصوير الصباغي تبتعد عنه، وبقدر ما تحمل في ثناياها الرسم والتصميم تبتعد أيضا عن التجريدية التعبيرية وعن الغنائية اللونية، مشكلة فرادتها بإحكام فني سمته التنوع والتأثير البصري، يقوي الإحساس بتدفقات مشاعر داخلية تختزنها اللوحات. في هذا السياق يقول محمد زهير: «تجربته في معرضه الراهن، هي لحظة إبداعية في حركة إنتاج مديدة، ترسم استمرار اختلافاتها الكيفية، بما يلفت في كل تجربة، ويؤكد أننا في محفل مبدع بينه وبين أدواته ميثاق رهافة، حتى لتشعر أنه لا يستعمل الألوان، وإنما يمتزج بها ويصغي إلى نبضها، فتمكنه من بلاغة تعبيريتها السرية.. وتشعر أنه لا يبني الأشكال تصنيعا طافيا، وإنما تتفجر من مخيلته إلى مسارب ذاته، ومن مسارب ذاته إلى مخيلته، فتتدفق بها حركة يده في انسيابية مبدعة، يفيض بها عالم اللوحة، فتتشكل كحب في العنفوان، مُدَوِّمَةً، أو متموجة، أو متفجرة، أو متدفقة كالشلال.. وشاعرية في كل الأحوال..إن العنفوان حالة بؤرية في تجربة هذا المعرض: عنفوان الحركة في أشكالها وأوضاعها المختلفة: تعريشات خميلية منبثقة من أرضية اللوحة أو حافة بكل جوانبها.. شلالات تخييلية كثيفة التدفق.. دوائر صَدَفِيَّة متناسلة متراكبة تتوالى أفقيا وعموديا.. كائنات شبحية مندفعة في فضاء حُلميّ على حافة الأسطورة.. إن التجريد الجمالي هو في ذاته بحث عن إيقاع بِكر لحركة العالم. ومن ثمة عن وقع مغاير تُجدِّد الذات به إيقاع علاقتها المألوفة بالحياة.. وهكذا يكون التجريد اكتشافا لممكن، هو في هذه التجربة بنكهة الأسطورة وإيحاء الحلم». ترتكز تجربة أوبلحاج على إرث فلسفي ثقافي يمدها بالكثير من العمق والشمولية، وهو مايذهب إليه إبراهيم الحيسن في مقاربته للوحات هذا الفنان، منطلقا من السؤال التالي: «ما الذي تراه العين في لوحات أوبلحاج؟ خصوبة اللون؟ سرائر المادة؟ بلاغة الأثر؟ وتيرة الإحساس بالزمن؟ كل هذه الأشياء مجتمعة؟.. ما هو جلي ومؤكد في هذه اللوحات أن قيم اللون الدلالية تسمو لتبرز مخلصة لعوامل التجريد الحديث، إنها ترسيمات احتمالية تثري المساحات والحيازات بحركات طيفية ومادية موشحة متتالية ذات نبض مرئي يعكس حصيلةً موضوعية من التجريب والدراسة الجمالية المتخصصة والبحث الاحترافي في كيمياء المادة واللون.. فالفنان أوبلحاج يصطنع لونه الخاص.. وضوءه الخاص وتراكيبه الدورانية واللولبية الخاصة أيضا، وذلك للتعبير عن وتيرة الزمن.. زمن الإبداع وتطويع المادة لفائدة الفكرة والبناء والتكوين.. من ثم، يضع الفنان طاقته التشكيلية الملأى بقواعد أساسية للإبصار والإمتاع ومنح اللوحة مادتها البصرية الحيوية. يشتغل الفنان أوبلحاج خارج مناطق التصوير المألوف، إذ يلجأ إلى تكسير حالات البياض بوضع اللون داخل اللون، ومساءلة المادة في حدود انسيابيتها وسيولتها وتدفقها.. مستندا في ذلك إلى رؤية جمالية خاصة مطعمة بمسحة شبه غرافيكية تمتح خصوصيتها من فكر مستنير ومن مرجعية إبداعية قريبة من التجريد..بعيدة عن التشخيص. على المستوى التيماتي، تجسد لوحات المعرض ولع الفنان وافتتانه بالطبيعة، خصوصا المكون النباتي والمائي بشفافيته وتعدد ألوانه (أو انعدامها) ورائحته وسمو حركاته..الماء - وتصغيره مويه- الذي يعتبر مادة نبيلة وأساس الكون، والغذاء والحياة، بات يشكل تيمة جمالية محورية في إبداع الفنان أوبلحاج..هو الحضور/الغياب.. الوجود/العدم.. الظهور/الاختفاء.. بل هو التطهير(أو الكاتارسيس بمعنى ما) في أسمى معانيه ودلائله..» يكتسي الضوء لدى أولحاج وهج الصفاء، ومنه يخلق عالمه المفترض ومكمن الجمال، يتأسس عليه بين المتخفي والمعلن والمستور، بين الطبيعة وما تحويه من أسرار وجود وعدم، وعن هذا المنحى يقول عبد الرحمان بن حمزة: «يسافر بنا الضوء في رحلة كشف التفاصيل الأكثر دقة للغوص في قلب المادة من أجل تجديد أشكالها الفريدة. مادة تنتهي بالتوقف عند تعرية ماهيتها العضوية. وموازاة مع ذلك، تنكشف أمام خيالنا أبعاد الروعة الذهنية لفن اللاحقيقة «الحقيقية» للأشياء. من خلال فن التفصيل الدقيق، الذي يصبح مرئيا بقياسات كبيرة تساوي في عمقها حساسية الفنان، تسبح أعمال عبد الغني أو بلحاج، الذي لم يتخل أبدا عن رؤاه الجمالية الأصلية، في عالم الإبداع. عبر دقته وأناقته التقنية التي تعود بنا إلى الصورة الفنية وتستمد إلهامها من الحركة، وتيمته المتجانسة، التي تفضل الحركة وتحافظ على نوع من روح التجريد، يعطي الفنان الدليل على تقدمه الكبير في مجال الخلق والابتكار الفني، من خلال أعماله الستة والثلاثين من الحجم المتوسط والكبير كما لو كانت شاشات حساسة للغاية».