نتحدث كثيراً عن جهابذة التمثيل والإخراج، لكننا نادراً ما نهتم بأسماء لمعت في مجال النقد السينمائي من طينة جان ميشال فرودون، الناقد والصحافي الفرنسي الذي كان وراء تطوير صفحة السينما ب»لو موند» عندما تسلم مقاليدها في العام 1995. ولا تزال مجلة «دفاتر السينما» العريقة تحتفظ تقريباً بالتصور نفسه الذي نفخه في روحها حين اضطلع بمهام ادارة تحريرها بين 2003 و2009. الرجل هو أيضا مئات المقالات النقدية الرصينة، وكتب مرجعية عديدة عن مخرجين نذكر منهم وودي آلن وهو شياو شيين وجيا زانغيه وروبير بروسون وادوارد يانغ وأموس غيتاي. من دون أن ننسى مؤلفاته حول السينما الصينية وقضايا السياسة في السينما الفرنسية. الخيط الذي ينظم هذه التجارب كلها هو التزام السينما والسياسة كقضية واحدة، على غرار كل من عاشوا حوادث أيار 1968 بعمق وجدانهم. هذه مدرسة أنجبت - بالرغم من انزلاقاتها - أفضل مَن كتبوا ونظّروا في السينما على مرّ العصور. فلسفتها هي السينما، في الموازاة مع السياسة، وسيلتان من أجل فهم العالم وتأسيس موقف أخلاقي يحكم نظرتنا إليه، ويحدد كلّ اختياراتنا المتعلقة بالعيش فيه. الكلمة التي تعود كلّ مرة في حديث فرودون هي الشغف. هذا النقاد الفرنسي أعطى السينما الكثير ولا يزال يعطي من سنواته الاثنتين والستين بشغف وحماسة. في نهاية الشهر الفائت، حلّ ضيفاً على مهرجان تطوان (الدورة الثانية والعشرون)، حيث قدم مداخلة قيّمة في ندوة عنوانها «حين تحكي السينما مآسي المتوسط». اغتنمنا الفرصة من أجل مجالسته. o هلّا حدثتنا عن أولى ذكرياتك مع السينما؟ n أولى ذكرياتي تعود إلى فترة الطفولة، وتتعلق بأفلام شابلن وباستر كيتون القصيرة التي شاهدتها في السينماتيك الفرنسية. أما الفيلم الأول الطويل الذي شاهدته فكان "طائرة ورقية من أقاصي العالم" لروجيه بيغو (1958). قصة حلم فتى باريسي تحمله طائرته الورقية إلى الصين. هذا أمر طريف حين أفكر فيه اليوم، لأن الأفلام الصينية لطالما جذبتني، إلى جانب السينما كوسيلة للسفر، وهذا كله كان حاضراً في الفيلم الأول. o هل كنت ترتاد قاعات السينما كثيراً في الصغر؟ n نعم، فترة طفولتي تزامنت مع نهاية الخمسينات وبداية الستينات، حيث كان الجميع تقريباً يرتاد السينما لكونها وسيلة الترفيه الأولى. بالإضافة إلى هذا، كان والداي يشتغلان في مجال السينما، ما جعلني قريباً منها. كانت هناك قاعات عدة في الحيّ حيث كنا نقطن بباريس، فكنت أحيانا أذهب إليها بمفردي مذ أصبحتُ في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة. o هل ثمة مخرجون معينون صنعوا سينيفيليتك المبكرة؟ n سينيفيليتي بدأت مباشرة بعد أيار 1968، وارتبطت بالحوادث الشهيرة التي شهدتها تلك الفترة. قبل ذلك ليس في وسعنا الحديث عن سينيفيلية. كان الأمر يتعلق بالذهاب إلى السينما ومشاهدة أفلام الوسترن أو الكوميديا الموسيقية أو الأفلام البوليسية شأني شأن كل الأطفال. ابتداء من أيار 1968، انطلقت فكرة السينما المرتبطة بالسياسة. كانت الأمور في غاية الاختلاط آنذاك بين السينما وروح الالتزام. عندئذ اكتشفتُ مخرجين عديدين من طينة بازوليني وفورمان وفيلليني وغودار وروشا ويانتشو واوشيما وبرغمان وبونويل. فجأة انفتحت أمامي هذه القارة المختلفة جداً التي كانت دائماً تجسّد سينما تطرح أسئلة بطريقة أو بأخرى. أسئلة اسلوبية وفنية، وفي الوقت نفسه سياسية. تختلف درجة حضور هذين الجانبين بحسب كل تجربة على حدة، لكن بالنسبة إلينا، كان المعطيان يسيران معا، وفكرة تحطيم السينما العجوز كانت هي نفسها فكرة انتقاد العالم القديم البورجوازي أو الرأسمالي. o هناك أيضاً خطاب نقدي ازدهر بعد أيار 1968 في مجلة "دفاتر السينما" وغيرها ويصطلح عليه "الفترة الماوية". كيف عشت تلك الفترة؟ n الأمر سيان. كنت لا أزال آنذاك فتى يافعاً في الخامسة عشرة. اكتشفتُ "دفاتر السينما" بفضل مكتبة "ماسبيرو"، حيث كانت تعرض كلّ المنشورات المهمة بما فيها الآتية من العالم الثالث. لم أكن أملك مالا كافيا لشراء نسخة من "دفاتر السينما"، فكنت أذهب إلى هناك لقراءتها. وقد استحوذت على شغفي رأساً، لأنها كانت تعمل على تشغيل المقاربتين الفنية والسياسية في آن واحد، مع أنني قد لا أكون اليوم متفقاً تماماً على أسلوب هذا الاشتغال، لكن مبدأ عدم التفريق بين المسألتين كان لي مهماً آنذاك، وبقي ذلك معي بطريقة ما إلى يومنا هذا. o ماذا عن الفترة التي أمضيتها كناقد سينمائي في "لو بوان"؟ n لم أكن أرغب في أن أكون ناقداً سينمائياً. كنت أذهب كثيراً إلى السينما وأقرأ المقالات بشغف، لكني لم أكن أنوي البتة أن أتخذ من النقد مهنة، لأنها بكلّ بساطة كانت مهنة أبي (ضحك). لم أكن أرغب في تقليد أبي. لكن في النهاية، كان هو وراء التحاقي بالمؤسسة حيث كان يشتغل، لأن المكلّف الصفحة السينمائية أصيب بمرض عضال. كان هناك نقّاد آخرون يشتغلون إلى جانبه، فطلب اليّ أن ألتحق بهم للمساعدة. في البداية، كان الأمر بمثابة لعبة لي، ثم أحببتُ شيئاً فشيئاً ما كنت أعمله، وأحبوا من جانبهم ما كنت أنجزه. بدأتُ بكتابة فقرات صغيرة عن الأفلام السيئة المعروضة التي لم يكن الآخرون يرغبون في مشاهدتها. بمرور الوقت، بدأتُ أتكفل أفلاماً أكثر أهمية، وأكتب مقالات أطول، فتم ضمي الى كادر الصحيفة. ثم أصبحتُ في ما بعد مسؤولاً عن الصفحة السينمائية في "لو بوان". عشتُ هذا كلّه بمرح، لأنه كان يتسم بالخفة. سُمح لي باكتشاف أشخاص لم أكن يوماً أفكر في لقائهم، مثل المخرجين والممثلين وغيرهم. طريف للغاية اني كنت قد التقيتُ أندره تيشينه، الذي يتم تكريمه هنا في تطوان (يبدأ عرض فيلمه الأخير "عندما نبلغ سبعة عشر عاماً" اليوم في فرنسا)، آنذاك عند خروج فيلمه "موعد" (1985)، كان لقاء مؤثراً بيننا لأننا تفاهمنا منذ البداية وصرنا صديقين. إذاً، كانت هناك العلاقة مع الأفلام، فأضيفت اليها العلاقة مع الأشخاص، ثم أتت العلاقة مع الأسفار، حيث كنت أسافر كثيراً في تلك الفترة. من بين الأسفار التي قمتُ بها - كنت محظوظاً بها أو بالأحرى عملتُ جاهداً لتحقيقها - رحلة إلى الاتحاد السوفياتي في فترة البيريسترويكا، حيث شاهدنا كلّ السينما السوفياتية التي كانت ممنوعة في الخارج. ذهبتُ أيضاً إلى الصين في زمن انبثاق "الجيل الثالث" ونهضة السينما الصينية بعد الثورة الثقافية. كانت هاتان الفترتان مهمتين حيث انفتحت سينما بلدين كانتا مسحوقتين، مما أثمر لقاءات مهمة طبعها شعور طافح لدى السينمائيين هناك. حينها، بدأتُ أهتم باقتصاديات السينما. النقد جيد، لكن كان مهماً لي أن أستطيع عدم التفريق بين التفكير النقدي والتفكير حول آليات التمويل وسياسات الدول في مجال السينما. عندها تكشّفت لي السينما كمنظومة، وكيف يمكن أن نفهم كلّ شيء عن مجتمع ما انطلاقاً منها. من أجل هذا، يجب أن ننكبّ على الأعمال والناس والمال والقوانين والسلطة. إذا فعلنا هذا، وهو أمر في المتناول بواسطة مهنة السينما، يمكننا أن نفهم كيف يشتغل مجتمعٌ ما من الداخل. o بعدها، جاءت فترة عملك في "لو موند". كيف عشت هذا الانتقال، وخصوصاً ان لدى الصحيفة الشهيرة قاعدة كبرى من القراء، ممّا قد يكون أثّر في اسلوب كتابتك... n بالتأكيد، لكن لحسن الحظ لم أفكر في هذا الجانب. كنت سعيداً جداً، لأن "لو بوان" لم تكن يوماً جريدتي المفضّلة. كان لقائي معها محض مصادفة سعيدة وأنا ممتنّ لها. لكن هذا لا يمنع انها ليست جريدتي المفضّلة ولم أكن أطالعها قبل العمل فيها. أما "لو موند"، فكنت أقرأها منذ فترة طويلة، ومسؤولوها هم مَن اقترحوا عليّ أن ألتحق بهم، فقبلتُ فوراً، من دون أن أسأل "ماذا؟" أو "كم؟" أو أي شيء من هذا القبيل. قلت فقط: "حاضر. سآتي في الحال" (ضحك). بمجرد التحاقي ب"لو موند"، قلت لهم اني أرغب في كتابة مقالات في النقد وعن اقتصاديات السينما، وهذا أمر لم يكن يفعله نقّاد السينما آنذاك، بل الصحافيون المكلفون التلفزيون. قلت لهم أريد أن أسافر كي أنجز ريبورتاجات وليس فقط مقالات عن الأفلام المعروضة في الصالات. أي أن أقوم بكلّ ما يقوم به الصحافيون المتخصصون في السياسة والاقتصاد وانطلاقاً من كلّ أشكال العمل الصحافي: الريبورتاج الكبير، اللقاء الصحافي، البورتريه، التحليل. هذا كله يمكن أن ننجزه مع السينما. كان مسؤولو "لو موند" متفقين معي منذ البداية، ممّا أتاح لي فرصة تحقيق كلّ ما ذكرت. كانت لديهم صفحة كلّ أسبوع مخصصة للسينما. بعد مرور أربع سنوات لي هناك، أصبحت لدينا أربع صفحات كل أسبوع، إضافة إلى ملحق السينما، وصفحات أخرى يختلف عددها من أسبوع الى آخر. طوّرنا كثيراً صفحة السينما انطلاقاً من فكرة أن الأمر لا يتعلق بالاشتغال على السينما فقط، بل بالاشتغال من أجل رؤية للعالم بعيون السينما. أي أننا كنا نقوم بمهمة الصحافي وليس فقط علبة السينيفيلية الصغيرة. o المرحلة التالية في مسارك كانت العمل في مجلة "دفاتر السينما" لستّ سنوات. لا شك انها كانت حافلة. ما هي أبرز الدروس التي استخلصتها من تلك الفترة، وخصوصاً بالنظر إلى سيرورة هذه المجلة العريقة؟ n "دفاتر السينما" كانت، كما أسلفتُ، من بين قراءاتي الأولى، وقد استمررتُ في قراءتها بانتظام، واحتفظتُ برابط قوي معها. أثناء عملي في "لوموند"، عُرض عليّ مرات عدة أن أتقلد مسؤولية فيها. كان سيرج توبيانا قد اقترح عليّ أن أشتغل الى جانبه كرئيس تحرير، وطلب اليّ في ما بعد أن أساعده في اقناع "لو موند" بشراء "دفاتر السينما" التي كانت في أزمة. عندما تحقق الأمر ورحل توبيانا، قال لي مسؤولو "لو موند": "فلتتقلد أنت المهام"، فرفضتُ لأني كنت أحبذ أكثر أن أكون في يومية شاملة وليس متخصصة. كنت أحب "دفاتر السينما"، ولي فيها أصدقاء كثر، وأقرأ كلّ اعدادها، لكن عملي في "لو موند" كان الى جانب أناس يهتمون بالمجتمع والرياضة وغيرها من المسائل، وليس فقط مجال السينما. في فترة معينة، برزت مشكلات بين "لو موند" و"دفاتر السينما"، فقالوا لي: "هيّا، حان وقت الذهاب الآن" (ضحك). "فليكن إذاً". تسلمتُ المجلة بين 2003 و2009. بالنسبة لي، أن نكون مخلصين ل"دفاتر السينما" لا يعني البتة أن نكرر ما كان يفعله أسلافي. أهميتها انها تتجدد كلّ مرة. لهذا، كان علينا أن نجدد مرة أخرى، وفي الوقت نفسه، أن نراعي مشكلاً لم يُطرح من قبل هو أن الأمر يتعلق ب"دفاتر السينما"، وليس "دفاتر الصور" أو "دفاتر السمعي البصري" أو "القصص التاريخية" أو لا أعلم ماذا بعد! أقصد ب"دفاتر السينما"، كلّ ما يصنع السينما في العالم الذي نعيش فيه. شيء آخر عملنا على تحقيقه هو تطوير العلاقة مع الخارج ودور نشر الكتب، وطوّرنا كذلك موقع الانترنت وطبع أقراص ال"دي في دي" والشراكة مع المهرجانات والجامعات. وخلقنا اصداراً شهرياً باللغة الانكليزية على الانترنت، وفي اسبانيا أنشأوا بمساعدتنا "دفاتر السينما ? اسبانيا"، مجلة مستقلة بفريق تحرير خاص لكن بتنسيق وبروح مشتركة. جزء كبير مما كنت أسعى الى تحقيقه تعلق بتأكيد محورية النقد، لذا غيّرنا الماكيت حتى تصبح مقالات النقد في بداية المجلة عكس ما كانت من قبل، بالإضافة إلى خلق حيز للصحافة، وحيز للجانب النظري. أي قسم ل"دفتر النقد" يليه قسم صحافي أطلقنا عليه "جريدة الدفاتر"، ثم الحيز المتعلق بالجانب النظري. هذه هي نفسها تقريباً الصيغة التي احتفظت بها المجلة إلى يومنا هذا. كان هناك أيضاً في نهاية المجلة قسم تاريخي أطلقنا عليه "السينما المستعادة". o ما هو التغيير الأساسي الذي بصمته على المجلة عند وصولك، وما هي نظرتك الى مآلها مباشرة بعد رحيلك؟ n بعد رحيلي، لم أعلم بالضبط مآل الأمور. ولم يكن لديّ تحكم في ما جرى، حيث طرحت "لو موند" باعتبارها الجهة المالكة المجلة للبيع. لم يكن هذا قراري، ولم أكن مسروراً بما حدث. بعد هذا رحلتُ. أما في ما يخص المقارنة مع فترة ما قبل وصولي، فحاولتُ أن أبقى داخل التاريخ الطويل للمجلة. أعتقد أن الفترة الى حدود 2009 على الأقل حققت استمرارية أكثر مما يظن كثيرون، ولو أن المجلة قد تغيرت، لحسن الحظ، فليس هناك أي معنى أن ننتج في التسعينات أو بداية الألفية الجديدة المطبوعة نفسها التي كانت تصدر في 1965. الى جانب هذا، قمنا أيضا بطلب انضمام قدامى "الدفاتر" إلينا من أجل الكتابة. أشخاص مثل برغالا وكومولي كتبوا في هذه الفترة إلى جانب فريق تحرير جدّ شاب. فباستثنائي أنا، كانوا كلهم في الثلاثينات. كانت الفكرة هي: كيف نفعل من أجل ركوب التغيير من دون أن نغادر تاريخ المجلة الطويل؟ o لنتحدث عن النقاش حول المقاربة الشهيرة التي رافقت "دفاتر السينما" منذ بدايتها في علاقة الكاتب بالمخرج، ك"سياسة المؤلف" و"مقاربة النوع"، وفكرة تكليف مَن أحب الفيلم أكثر من غيره كتابة المقال، وهي فكرة سادت في عهد اريك رومير وساندها غودار. أيٌّ من هذه المقاربات تبنيتها في مرحلة ترؤسك تحرير "دفاتر السينما"؟ n لا نستطيع القول اننا تبنينا مقاربة معينة بوضوح. هناك إخلاص "الدفاتر" لبعض السينمائيين المؤلفين، ومن بينهم غودار ورومير نفساهما. لكن ثمة أيضاً مخرجون أصغر منهما سناً ليسوا بالضرورة فرنسيين. من جهة ثانية، كانت لدينا رغبة واضحة في الاكتشاف والسفر وإعادة التفكير في المسلّمات والمقاربات الجامدة. أعتقد أننا حاولنا أن ندمج المقاربتين معاً. كان ليكون ضرباً من العبث لو قلنا آنذاك فجأة أن غودار رديء، وفي الآن ذاته، كان ينبغي لنا أن نعي أفكار السينما التي يمثلها مخرجون كديفيد لينتش وغاس فان سانت وحتى لارس فون ترير وغيرهم من ممثلي سينما تلك الفترة، التي شهدت انتشاراً أكثر دولية مما سبق، لأن عالم السينما اتسع كثيراً، وهذا اتجاه بدأ منذ الثمانينات والتسعينات. قبل تلك الفترة، كانت الأمور "سهلة" نسبياً: هناك المخرجون الكبار الأميركيون، المخرجين الكبار الفرنسيون، المخرجون الكبار الإيطاليون، المخرجون الكبار من الاتحاد السوفياتي وألمانيا ثم بعض المخرجين اليابانيين كميزوغوشي مثلاً. * أنجزتم ريبورتاجات شهيرة عن مخرجين آسيويين كانوا شبه مجهولين في تلك الفترة... - نعم، أفردنا ملفات خاصة للسينما الصينية، والسينما الكورية أيضا التي كان معترفاً بها في التسعينات. أولينا اهتماماً لسينما أميركا الجنوبية وفي الأخص الأرجنتين، ثم السينما الرومانية عقب "السعفة الذهبية" التي مُنحت ل"أربعة أشهر، ثلاثة أسابيع ويومان" لكريستيان مانجيو. كانت لدينا فكرة راسخة أن خريطة السينما العالمية قد تغيرت. o بعد مغادرتك "دفاتر السينما"، كانت لديك تجربة الإشراف على مدوّنة سينمائية داخل موقع "سلايت" وهي تجربة لا تزال تخوضها إلى يومنا هذا. ما هي مميزات الوسيط الرقمي مقارنةً مع الورقي؟ n أنا عضو في هيئة تحرير "سلايت"، وهو موقع مثل جريدة بالضبط ولكن على النت. هناك رئيس تحرير ومحررون، نناقش الأمور ونوّزع المهام بيننا. أنا أنتمي بهذه الطريقة إلى مجموعة ويستهويني هذا كثيراً. هناك أيضاً مدوّنتي، وفيها أفعل كلّ ما يحلو لي. هكذا تتحقق لديّ "الوضعيتان" في الآن نفسه، وهذا مصدر متعة لي. أقول لفريق "سلايت": "أفكّر في كتابة مقال عن موضوع معين، هل ترغبون فيه؟". قد يوافقون أو يرفضون. في حال الرفض، أنشره في مدوّنتي. هكذا، أنجز على الأقل مقالين في الأسبوع، واحد ل"سلايت" وآخر لمدوّنتي. لم تتغير طريقة كتابتي كثيراً على ما أظن. ربما أصبحت أكثر حميمية، وتعطي الانطباع بأنها لغة متحدثة أكثر منها مكتوبة، وهذا من تأثيرات النت. لكن الممتع جداً لي، هو جودة الروابط مع القراء. أتلقى رسائل وردود فعل كثيرة ليس فقط من أجل الإطراء، ولكن أيضا من أجل مشاركة معلومات أو إضافات. كأن يقول أحدهم: "حسناً، كتبتَ هذا، ولكن هل شاهدتَ الفيلم الفلاني؟"، أو "هل قرأت الكتاب التالي؟"... على الانترنت، تصبح أشياء كهذه سهلة جداً، وهذا لم يكن متوافراً من قبل. هذه "وضعية" مناسبة جداً لي. أهم محاسنها أنني لم أعد مديراً. أنا ناقد وصحافي فقط وهذا ما أحبذه. o يبدو كأنك عدت إلى فترة "لو موند"... n نعم بالضبط. مع أنني كنت قد اضطلعتُ بمسؤولية صفحات السينما في "لو موند" انطلاقاً من 1995. أي أنني كنت أنسّق كلّ العمل المنجز من طرف خمسة أشخاص حول السينما. اليوم أنا لا أنسّق أي شيء (ضحك). أذهب إلى الاجتماعات ولكن لستُ أنا من ينظمها. أنا جد مسرور بهذا. في الوقت ذاته، ولأنني أصبحت أكبر سناً، أو بحكم التجربة، يتم استدعائي لأماكن عديدة حول العالم كما هي الحال الآن في تطوان. لديّ بهذه الطريقة إمكانات أكبر للسفر، والالتقاء بالناس، ومواصلة اكتشاف ما يحدث في عالم السينما. وبما أنني أيضا أدرّس فهذا يتيح لي الحديث عن السينما دائما ولكن بطريقة مختلفة. o هل ثمة جوانب سلبية للانترنت؟ n قد تكون هناك سلبيات طبعاً، ولكن بالنسبة لي، الجانب السلبي الوحيد هو أننا نتلقى أجراً أقل (ضحك). الأجور منخفضة أكثر مما هي عليه في الصحافة الورقية، وينبغي أن نقول هذه الأشياء من دون مواربة. ولكن بحكم انه لديّ إمكان لفعل أشياء أخرى إلى جانب عملي، فأنا في وضع مقبول. أما بالنسبة إلى شخص ليس لديه موارد سوى ما يتلقاه من الكتابة على الانترنت، فستكون مهمة كسب لقمة العيش صعبة من دون شك. o لنتحدث قليلاً عن السينما الفرنسية. ولد سجال في الأشهر الأخيرة حول ما سُمِّي "الفراغ السياسي في السينما الفرنسية". هل توافق على هذا الطرح؟ n هناك انتكاسة سياسية في فرنسا. لكن هذه الانتكاسة لا تقتصر على السينما، بل نلاحظها في قطاعات عدة، وتتجسد في اختفاء المحكي السياسي الكبير الذي في وسعه أن يحشد الناس بطريقة مختلفة عن جان ماري لوبن. هذا الأخير هو المحكي الوحيد المتوافر على الساحة الآن. هناك اليوم سياسة ولكن ليس هناك تمثيلية سياسية جديرة بالاهتمام. في السياق نفسه، نرى ان هناك سياسة في أفلام تبدو كأنها غير سياسية، لكنها تضع علاقات السلطة ومعنى أن تنتمي الى مجموعة ما على المحك. سأضرب مثلاً واحداً فقط: أفلام آرنو دبلشان هي لي سياسية جداً، ولكن ليس على شاكلة التساؤلات حول طريقة تأسيس مجتمع الغد وأشياء من هذا القبيل، بل عن ماهية العائلة ومعنى الانتماء إلى تراب ما ومجتمع ما، وكيف تتغير هذه المفاهيم، وما معنى أن تعتقد أنك منتم؟ وكيف يبني الفرد الانتماء؟ بالنسبة لي، هذه أسئلة سياسية حقيقية. الى جانب هذا، هناك سينما اجتماعية مختلفة جذرياً عن السياسية. ساد الاعتقاد لسنوات طويلة أن السينما الفرنسية لا تظهر بشكل كافٍ الفقراء وحياتهم اليومية، اليوم نحن لا نشاهد أي شيء غير هذا. o لكن السؤال هو: كيف نظهر هذا؟ n بالضبط. هناك اليوم سينما وصفية هي بالنسبة لي أقرب الى التلفزيون. أو بالأحرى تقوم بالمهام التي كان ينبغي للتلفزيون أن يضطلع بها لكنه لا يفعل. السينما تقوم اليوم بهذا الدور لكن النتيجة سينما فقيرة وسطحية. حتى نكمل المشهد العام، يجب أن نقول أن ثمة اليوم في فرنسا حركة وثائقية مهمة جداً. هناك أفلام وثائقية كثيرة تحقق قدراً كبيراً من الابتكار والخلق بالمقارنة مع الأفلام الروائية، وهي تسعى الى التفكير في حال المجتمع أو بالأحرى في بعض من جوانبه. o كان هذا محور سؤالي التالي. لديَّ اقتناع، لا أعلم إن كنت توافق عليه أم لا، أن الوثائقي اليوم في وسعه أن يعكس تعقيدات العالم بفعالية أكبر مما يفعله الفيلم الروائي... n بالفعل، هذا صحيح. لكن، هناك أيضا أفلام روائية لا تزال تقوم بهذا العمل. على سبيل المثل، المخرجة كلير دوني تصوّر العولمة من الداخل. أي كيف تغيّر العولمة مظهر الأشخاص وأجسادهم. عملها روائي، لكنه يأخذ في الحسبان التغييرات التي طرأت على العالم. أما أوليفييه أساياس فحين ينجز "ديمونلافر" عام 2002، فهو يترجم ماهية اكتساح الافتراضي لحيواتنا، مجسداً في الآن نفسه، علاقتنا بالمال والاشتهاء بواسطة فيلم روائي وشخصيات تكاد تكون خرجت للتو من القصص المتسلسلة. حين نتطرق إلى المواضيع روائياً، تصبح الأشياء غير مباشرة، وربما أكثر عمقاً، لكن معالمها صعبة التحديد. o كتبتَ كثيراً عن الافتراضي في السينما وهذا ما نتجه إليه شيئاً فشيئاً، وخصوصاً مع التطور الكبير الذي تشهده التكنولوجيا في السنوات الأخيرة. كيف ترى مستقبل السينما في علاقتها مع هذا الجانب؟ n لا أستطيع أن أرى مستقبل السينما. كلّ ما في وسعي أن أؤكده هو أن للسينما مستقبلاً ستعمل على ابتكاره. المفرح والمشوق هو قدرتها على التغيير. كان هناك دائماً أشخاص يعلنون موت السينما منذ ولادتها في العام1895 بعبارات مثل: "يا إلهي، لقد انتهت السينما" أو "ستموت السينما لا محالة وقد فات آوان إنقاذها". هذا كله والسينما لم تمت. على العكس، هي اليوم بخير. هناك مَن ينجز أفلاماً في العالم بأسره أكثر من أي وقت مضى. هناك مَن يشاهد أفلاماً أكثر من أي وقت مضى. ليس بالضرورة في القاعات دائماً، لكنهم يشاهدونها. o ... علماً ان هناك أيضاً بلداناً كالصين يذهب مواطنوها أكثر فأكثر الى القاعات... n الصين تفتتح، منذ ثماني سنوات، عشر شاشات يومياً. هذا أمر لا يُصدَّق. الصين اليوم سوق هائلة وهي في صدد تجاوز الولاياتالمتحدة. هناك أيضا الهند وأتمنى أن يلتحق العالم الإفريقي بالركب لأنه لم يبدأ في التحرك بعد. o في المغرب، هناك حركة معينة في إنشاء مجمعات سينمائية جديدة، في طنجة والرباط وغيرهما، ولكنها لا تزال خجولة للأسف... n هذا جانب مهم جداً. المغرب يبقى متقدماً في مجال سياسات السينما على باقي بلدان القارة الافريقية. هناك فعلاً مستقبل واعد للسينما، لكني لا أعرف ماهيته. كلّ ما أعلم هو أن اهدار الوقت في ترديد لازمة "لقد انتهى كلّ شيء، لسنا في زمن تروفو ورونوار" هو ضرب من السخافة. السينما اليوم تجدد نفسها، وهناك بلدان لم نكن نتحدث عنها البتة من قبل أصبحت على الخريطة السينمائية. هناك أشكال جديدة لصناعة الأفلام. لم تدمّر الرقمية أي شيء، بل وسّعت وعاء الإمكانات. من قبل، في زمن ال35 مم، كان هناك انفتاح، بمعنى أن سينما يوناس ميكاس مثلاً لم تكن هي نفسها سينما سيسل ب. دوميل، لكن اليوم، الانفتاح أكبر بكثير. هناك مَن ينجز أفلاماً بواسطة كاميرا صغيرة أو هواتف نقّالة، وآخرون في الجهة المقابلة يحققون الجزء السابع من "حرب النجوم" وهذا كله هو السينما. أنا متشوّق جداً، وأعتقد أن العيش في عالم السينما كما هو حالياً، أمر مثير للشغف. هذه فترة ابتكار حقيقية: حكايات جديدة تُروى بطرق مستجدة، بوسائل مختلفة، بعيون أناس تغيروا، في عالم تغير. العالم لم يتغير بالضرورة نحو الأفضل، هذا أكيد. لكن السينما من جانبها لا تتوقف عن إعادة ابتكار نفسها. سؤال الغوص الافتراضي (immersion) ليس سوى جزء صغير من المسألة. يمكننا السير في طريق الغوص الافتراضي وسنسير فيه. لكن، لا أعتقد البتة أن الدخول في عالم من 360 درجة سيكون هو مستقبل السينما، بالطريقة نفسها التي لم يتحقق فيها ما تنبأ به العديدون مع ظهور ألعاب الفيديو التفاعلية، حين قيل إن المُشاهد سيصبح قادراً على تغيير قصة الفيلم أثناء العرض بكبسة زر ليتحكم في قدر البطل. قد يتحقق هذا يوماً ما، لا أدري، لكن حتى إشعار آخر، نحن معشر البشر نحب أن نجلس في مقعد ليروي لنا أحدهم قصة. أعتقد أن هذا الشيء لن يختفي أبداً مع أن أساليب إنجاز الفيلم يمكن أن تتطور. قد نذهب في إتجاه الغوص الافتراضي، لكن ذكاء السينما الحقيقي هو كيف نكون في الآن ذاته داخل ما نرى، وخارجه. أولئك الذين تجمهروا أمام "وصول القطار الى محطة لاسيوتا" (من اوائل الأفلام التي عُرضت في تاريخ السينما) عاشوا مثل الغوص الافتراضي. كانوا يخافون أن يخرج القطار من الشاشة فيدهسهم، لكنهم كانوا يعلمون جيداً أنه لن يخرج. o كانت تستهويهم فكرة الظنّ انه سيخرج... n هذا هو الرهان. الجملة التي تعبّر عن هذا هي: "أنا أعلم جيداً ولكن بالرغم من ذلك...". أنا أعلم جيداً أن هذا ليس حقيقياً، لكن بالرغم من ذلك، شيء ما في داخلي يحب أن يعتقد العكس.