هذه ترجمة لأجزاء من حوار طويل أجري مع المفكر والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو، نشر في المجلة السينمائية البريطانية (Sightand Sound)، وفيه يتحدث إيكو عن السينما، وعن تحويل روايته «اسم الوردة» إلى فيلم، من إخراج الفرنسي جان جاك أنو. في الوقت الحاضر، لا أذهب إلى السينما كثيراً كما كنت في السابق. التوق الشديد الذي اعتدت أن أشعر به لمشاهدة فيلمين على الأقل في اليوم قد تلاشى. هذا حدث على مهل، وعلى نحو تدريجي، خلال السنوات العشرين الماضية، أو ربما يكون ذلك لأنني، في هذه الأيام، قد أنتظر بضع سنوات قبل أن أستقبل كتاباً جديداً أو فيلماً جديداً. كان لدي صديق يقرأ كل صباح جريدة عمرها ستة شهور وكأنها صدرت حديثاً. هذا ما أفعله مع الأفلام والكتب. ربما فات صديقي بضعة أحداث مهمة، لكن مع الأفلام والكتب، أعتقد أن من المهم ألا نصدر أحكاماً عليها في ضوء المقالات النقدية أو الانطباعات أو على أساس الموضة والنمط السائد. كذلك فإن استجابتي صارت بطيئة، وتفاعلي مع الأشياء لم يعد سريعاً. أبداً لا أعرف مباشرةً بعد مشاهدة الفيلم ما إذا أعجبني الفيلم أم لا. أحياناً قد يستغرق هذا شهوراً. على سبيل المثال، بعد مشاهدة فيلم أنتونيوني «المغامرة» لم أستطع أن أحدّد ما إذا أحببت الفيلم أم لا. فقط عندما كنت أتحدث عنه مع شخص ما، وأسرد أحداثه، لاحظت كم كان الفيلم جميلاً. على أية حال، ربما هذا لأنني جئت من بيدمونت، أرض الإيطاليين الشماليين، البطيئين والعنيدين إلى حدٍ ما. كذلك أحتاج إلى وقت لكي أعبّر عن نفسي. لهذا السبب أجد مشقة في امتلاك رأي أو وجهة نظر بشأن سينما اليوم. اسم الوردة لا أستطيع أن أقول الكثير عن الفيلم الذي حققوه عن كتابي «اسم الوردة». لا أستطيع أن أجاري كل الاستعدادات التقنية، ولا أظن أن على المؤلف أن يصبح مستغرقاً أكثر مما ينبغي في الإعداد للسيناريو المأخوذ عن أحد أعماله، خصوصاً – كما في حالتي – عندما يتألف الكتاب الأصلي من 550 صفحة، والذي يتعيّن تصويره كفيلم إلى اختزاله. إن ذلك أشبه بجرّاح يحتاج ولده إلى اجراء عملية جراحية لكنه يكلّف زميله بإجرائها لأن يديه سوف ترتعشان. إني أفضّل أن أرى الفيلم وهو يشق طريقه ويخلق اتجاهه الخاص على مهل. على سبيل المثال، من بين المعالجات ال 14 من السيناريو، قرأت المعالجة 12 و13 فقط. لكن حتى في تلك الحالة كنت أبدي فقط بعض الملاحظات غير المباشرة. المواقع تحت وطأة الزمن بدأنا - أنا والمخرج - في قبول فكرة أن التصوير في الاستديو سيكون مريحاً أكثر وبتكلفة أقل. في الواقع، أعتقد أنه بالإمكان تمثيل المرحلة التاريخية على نحو أفضل عن طريق إعادة الإنتاج. إذن، بالإمكان إحراز المصداقية – بيسر أكثر – بوساطة التلفيق. لست متيقناً بشأن الذهاب إلى الموقع. لا أريد أن أتدخل في شؤونهم لأنني أعرف أن المخرج أمين جداً للنص، ليس فقط فيما يتعلق بالديكور والوجوه، لكن أيضاً فيما يتصل بسيكولوجيا الشخصيات. هو أراد ممثلين جنسياتهم تتوافق مع جنسيات الأفراد في الرواية. لا أعتقد أن باستطاعة المؤلف أن يوافق أو يعارض بسهولة عندما يقرأ سيناريو مأخوذاً عن رواية له. السيناريو مجرد سيناريو. أنا والمخرج تحدثنا كثيراً عن سيكولوجيا الشخصيات، لكن ليس هيّناً دائماً التعبير في الفيلم عن أمور موصوفة أو مرسومة على الصفحة.. أمور قد يفهمها القارئ آلياً. الكتاب والفيلم ينتسبان إلى عالمين مختلفين. ليست مهنتي لم أفكر أبداً في تحقيق فيلم سينمائي. لكن ينبغي أن أضيف، حتى قبل يومين من شروعي في كتابة «اسم الوردة»، لم أفكر أبداً في كتابة رواية. ربما حين أبلغ الثمانين من العمر سوف أخرج فيلماً.. مع إنني أعلم جيداً أن هذا سوف لن يحدث على الإطلاق. هذا لا يعني أنني لا أمتلك خبرة، فقد عملت في التليفزيون منذ 1954 إلى 1959. كنت موظفاً، لكنني كنت أتابع بانتباه المخرجين في الاستديو وفي المواقع الخارجية. ومع أن ذلك كان في الماضي البعيد إلا أنني فهمت أن هذه المهنة ليست مهنتي، فأنا نافد الصبر، قليل الاحتمال إلى حد بعيد، كما أكره الوقت الساكن حيث لا شيء لديك لتفعله. احتمال أن تكون في الموقع في الساعة الثانية بعد الظهر، وأن تضطر للانتظار حتى الثامنة مساءً لأنك تحتاج إلى غراب أسود لكنهم أرسلوا إليك غراباً رمادياً.. هذا سوف يدفعني حتماً إلى الجنون، ولسوف أغيّر الفيلم وأجعل الغراب أسداً لو مرّ هذا الأسد قربنا. وللسبب ذاته، أجد صيد الأسماك عاملاً مهدئاً للروح، لكن إذا تعيّن عليّ أن أجلس هناك ساعات فأظن أنني سوف أباشر بتفجير الأسماك بالديناميت. عندما أكتب، أخلق إيقاعي الخاص مع الورق والآلة الكاتبة، لكنني لا أظن أن إخراج الأفلام، أو حتى المسرحيات، شيء جذاب أو فاتن بالنسبة لي. من ناحية أخرى، أنا أؤمن فعلاً بأن كتابتي بصرية تماماً، حتى عندما أتعامل مع أفكار ومفاهيم مجرّدة. كل مقالاتي مليئة بالرسوم. ذكرياتي كلها بصرية على مستوى التداعي. في المدرسة كنت مولعاً برسم الديناصورات.. وحتى يومنا أرسم الكثير من الديناصورات. روايتي لم تبدأ، لم أباشر كتابتها، إلا بعد أن أمضيت سنة وأنا أحقق رسومات تتصل بها. حتى حين أقوم بالتدريس فإنني لا أستطيع أن أؤدي عملي من دون وجود سبورة، إذ يتعيّن علي أن أرسم شيئاً، حتى لو كان مجرد خط مستقيم. قد يجهل تلاميذي ما يمثّله ذلك الخط، لكنه أساسي وجوهري بالنسبة لي. حتى بالنسبة لفيلسوف، الحدس الخالص يسبق استعمال الأدوات المطلقة كلها. التوجيه البصري نحو العالم يسبق دائماً التركيب اللفظي.. لا يهم ما إذا المرئيات هي فعلاً هناك أم توجد فقط في المخيلة. رؤية الأشياء اللامرئية حتى غياب العنصر البصري أو السمعي يمكن أن يكون ضرباً من الحافز البصري أو السمعي. هذا له علاقة بالتوقّع وكيف نحن نحققه. ثمة أشياء نتوقع من الفيلم أو الرواية أو القصيدة أن تجعلها مرئية، وإذا لم يتم استحضارها لنا فإننا نفتقدها. لكننا جميعاً نعلم أن هناك مؤلفين يستطيعون جعلنا نرى أشياءً من دون عرضها أو إظهارها حقاً، ربما بطريقة أقوى من أولئك المؤلفين الذين يعرضونها. خذ المثال من مانزوني: الطريقة التي بها يعرض راهبة مونزا. هو يقول: «أنا لا أريد أن أتحدث عن الحب، ثمة الكثير منه في العالم». بطريقة ما، لأسباب أيديولوجية ودينية، هو لم يتحدث صراحةً. لكن في النهاية، ما يرويه عبارة عن قصة، والتي يمكن لشخص مثل ديديرو، أو مخرجٍ سينمائي معاصر، أن يبني عليها حدثاً حسّياً مثيراً جداً. قصص لا نهائية عن الجنس والانحراف يكثّفها أو يوجزها مانزوني في فقرة ترد عادةً هكذا: «الفتاة التعيسة ردّت قائلةً...» والقارئ، من هذه الفقرة، يفهم كل شيء، ويقدم صوره الخاصة. تلك هي قدرة مانزوني على سرد قصة ضخمة من دون أن يقول شيئاً من الناحية العملية. والآن خذ السينما، لنقل أفلام جون فورد.. في ذلك تكمن قوته أيضاً: إنه يروي قصة ضخمة من غير أن يجعلها بادية للعيان. بالطبع ليس هناك ما هو أكثر إثارة من رؤية جون واين وهو يقع على الأرض في فيلم «إطلاق نار في أوكي كورال» Gunfight at O.K. Corral وبعدئذ يقضي على خصومه الواحد بعد الآخر. لكن في أفلام جون فورد أنت لا ترى أشياءً كهذه.. كل ما تراه هو انتظار طويل في حانة، والكثير من المشاهد الدائرة بعيداً عن المركز. المبارزة هي متوترة ودرامية أكثر لكونها غير مرئية. هذه هي إمكانيات الصمت، وتجديد فورد كان في إدخال الصمت كطريقة للتعامل مع مشهد مثل مبارزة في الغرب الأميركي، والتي أصبحت كليشيهاً سينمائياً. إنه ليس قانوناً ذهبياً بالطبع: إذ لا يتعيّن عليك أن تلتزم الصمت بشأن القصة إن أردت أن تسردها بأفضل الطرق الممكنة. ثمة تطرّف في كلا الاتجاهين. معركة واترلو، كما رواها ستندال، هي عملياً مكبوحة تماماً، فيما عدا بعض الآراء غير المترابطة. لكن واترلو، كما رواها فيكتور هوجو في «البؤساء»، موجودة هناك كلها وبالتفصيل، كما لو أن الكاميرا تصورها من هليكوبتر. المعركتان موظفتان بشكل جميل: هوجو يتكلّم كثيراً، وستندال يتكلّم قليلاً. بعض الأشياء ربما من الأفضل الحديث عنها، وبعضها من الأفضل التزام الصمت بشأنها. لكن من الجليّ أن الصمت وسيلة جمالية، تماماً كما النقيض: الكلام. والوسيلة فعالة جداً. أجد مشقة في امتلاك رأي بشأن سينما اليوم ....................... لا أستطيع أن أقول الكثير عن الفيلم الذي حققوه عن كتابي «اسم الوردة» ....................... ليس هيّناً دائماً التعبير في الفيلم عن أمور موصوفة أو مرسومة على الصفحة ....................... حتى قبل يومين من شروعي في كتابة «اسم الوردة» لم أفكر أبداً في كتابة رواية