أجرى هذا اللقاء الناقد والسيناريست والمخرج السينمائي الفرنسي لورينت تيراد في نيويورك صيف عام 1997، حين كان يومها مراسلاً صحفياً لمجلة الفيلم الفرنسي Studio، وقد كان اللقاء بواعز ٍ من الممثلة السينمائية جودي فوسترJudie Foster ------------------------------------------------------- "ينبغي أن يكون الممثل حُرّاً، أو هكذا ينبغي أن نفكرّ". مارتن سكورسيزي
أجرى هذا اللقاء الناقد والسيناريست والمخرج السينمائي الفرنسي لورينت تيراد في نيويورك صيف عام 1997، حين كان يومها مراسلاً صحفياً لمجلة الفيلم الفرنسي Studio، وقد كان اللقاء بواعز ٍ من الممثلة السينمائية جودي فوسترJudie Foster التي أختيرت وقتها لمنصب المحّرر الفخري لتلك المجلة وأرادت أن يكون مخرج فيلمها المفضّل "سائق التاكسي" واحداً من تلك الأسماء التي يتضمنها كتابه:(1) في مقدمة هذا اللقاء يصف لورينت تيراد إنطباعاته لدى رؤيته المخرج السينمائي الأمريكي مارتن سكورسيزي لأول مرة بقوله: ((إحدى أكثرالأشياء المدهشة والملفتة التي تواجهك حين تقابل مارتن سكورسيزي هي طريقته السريعة في الحديث، وإن ما تتوقعه منه هو أن يكون شخصاً رائعاً، وهو حقاً هكذا، إلا إن الأيقاع السريع الذي ينقل به المعلومات إليك يُشعرك بالهلع وبنوع من التهديد من شأنه أن يوقفك عن طرح الأسئلة. دخلتُ إلى مكتب إدارة إنتاج سكورسيزي الذي يقع في Park Avenue وكانت يداي معروقتان، لأنني من الذين يعتبرون سكورسيزي واحداً من أكثر مخرجي الأفلام إثارة للأنتباه للعقدين الماضيين، فهو منذ فيلمه "الشوارع القذرة" كان قد أدهش المشاهدين وألهم جيلاً كاملاً من المخرجين السينمائيين، أولئك الذين حاولوا كثيرا ً إستخدام الكاميرا على طريقته، إلا أنهم فشلوا في محاكاة قدرته وإتقانه في إستخدامها. البعض من المخرجين رواة حكايات رائعين، والبعض الآخر تقنيّون مدهشون، أما مارتن سكورسيزي فهو ضليع في الأثنين معاً، ومعرفته الموسوعية بتأريخ السينما لم تؤثر سلباً على أي من هاتين القدرتين مطلقاً. الواقع إن إنفاق ساعات عديدة، ساعة بساعة، مع شخص على شاكلة سكورسيزي بوجه خاص، كانت بمثابة أوقات رائعة، ممتعة ومفيدة، ولم أخرج من ذلك اللقاء خائب الأمل. كان سكورسيزي يتململ على كرسيه بعصبية في بداية اللقاء، ربما لأنه كان منشغلاً بفيلمه "كاندن" أنذاك، حيث كان حينها في مرحلة المونتاج. لقد أستطعت أن أرى من خلال بريق عينيه أثناء ماكنت أتحدث إليه أن عقله وروحه ومخيلته كانوا منهمكين في ربط اللقطات بعضها مع البعض الآخر. لكنه، حالما بدأت أطرح عليه أسئلة تفصيلية، تنبّه إليّ وبدأ يركز إنتباهه تماماً، بل إن أجوبته صارت تنهال عليّ بعد قليل بشكل سريع جداً، ومن حسن الحظ أنني كنت قد جلبت معي جهاز تسجيل لأستطيع اللحاق به!)). ***
(الدرس السينمائي الأول للمخرجين الشباب)
كانت لديّ بعض الخبرة في مجال التدريس في جامعة كولومبيا في الفترة التي كنت أعمل فيها على فيلمين، هما "لون المال" عام 1986 وفيلم "الأغواء الأخير للمسيح" عام 1988 . لم أكن أعرض للطلبة آنذاك أفلاماً أو ألقي عليهم محاضرات في فن السينما، كل الذي فعلته هو أنني جئت فقط لمساعدة المتخرجين منهم، لأقدّم لهم المشورة والملاحظات على الأفلام التي أخرجوها . الواقع إن أكثر الأشياء إلتباساً وصعوبة وجدتها في تلك الأفلام يتعلق بهدفها وفحواها، وماذا أراد المخرج أن يوصله إلى المتفرج، وهذه المشكلة يمكن أن تظهر نفسها للعيان بطرق مختلفة عديدة، إلا إن المعضلة الأساسية تكمن في عملية التعامل مع الكاميرا، أعني كيفية توجيهها، لقطة إثر لقطة، وكيف أن كل لقطة ُتبنى لتخلق مغزى محدد ولتكشف عن شيء ما، أراد مخرج الفيلم من المتفرج أن يفهمه. يمكن لذلك المغزى، بالطبع، أن يكون فيزيائياً بشكل محض، مثلاً: رجل يدخل إلى غرفة ويجلس على كرسي. أو من الممكن أن يكون ذلك المغزى فلسفياً أو سيكولوجياً أو متعلقاً بموضوع أو فكرة، رغم أنني أفترض أن الموضوع أو الفكرة يتضمنان أصلاً مغزىً فلسفياً وسيكولوجياً. إلا إنه ينبغي عليك البدء في الأساسيات، وهي: إلى أين توجه كاميرتك لتعّبر عما دونته على الورق في السيناريو؟ والمسألة هنا ليست فقط توجيه كاميرتك لتصوير لقطة واحدة فقط ، بل لتصوير اللقطة التي تليها والأخرى التي بعدها وهكذا. ومن بعد ذلك، كيف يمكنك توليف تلك اللقطات بعضها مع البعض الآخر لتخلق جميعها ما تريد قوله للمتفرج. يمكنني القول دون تردد إن من أكبر المشاكل التي يواجهها المخرج الشاب هي حين لن يكون لديه شيء ليقوله!. وهكذا ترى بشكل ثابت وعلى الدوام، أن معظم أفلام هؤلاء الشباب تكون إما غير واضحة أو أحياناً مبهمة جداً، أو إنها أفلاماً تقليدية عادية جداً، أعّدت إلى حّد ما للسوق التجاري لاغير. لذا أعتقد أن الشيء الأول الذي تحتاجه لتسأل به نفسك إن أردت أن تعمل فيلماً هو: هل لديّ شيء ما ذو أهمية، أريد قوله!؟ وهذا الشيء ليس بالضرورة أن يكون شيئاً محدداً يمكن التعبير عنه بكلمات، لأنك في بعض الأحيان تريد القيام بإيصال العواطف والأحاسيس فقط، وهذا كافٍ. وصدقني أن هذا الأمر ليس سهلاً، بل صعب وصعب للغاية.. (تكلّم عّما تعرفه) إنني أنتمي إلى تقاليد كانت سائدة في بداية الستينات، تلك التي كانت تتناغم أكثر مع الرؤى الأخراجية الذاتية، ومع ثيمات وموضوعات بحث ذاتية تشعرك أنك أكثر ثقة في نفسك بالتعامل معها للتعبيرعن ذاتك، وعن العالم الذي تنتمي إليه. إن هذا النوع من السينما كان قد أزدهر في السبعينات، لكنه بدأ يتناقص منذ الثمانينات تدريجياً وبشكل ثابت مقارنة بالأتجاه الرئيسي السائد للسينما أنذاك. لا بل أجد في وقتنا الحالي أن هناك بعض المخرجين المستقلين إنتاجياً، قد بدأوا يظهرون ميلاً نحو الميلودراما وأفلام ال noir (2) ، وهذا مؤشر خطير يوضح تماماً أنهم أصبحوا يتوجهون بطريقة شرهة نحو أكثر الموضوعات السينمائية تجارية. حين أرى اليوم الأفلام ذات الميزانية القليلة غالباً ما أشعر أن مخرجي هذه الأفلام يحاولون إختبار صلاحيتهم للدخول أو القبول في الأستديوهات. ربما تسأل: لماذا تعمل أفلاماً ينبغي أن تكون ذاتية بأي طريقة كانت؟ حسناً، المسألة كلها تنحصر بوجهة النظر الشخصية، وأنا أميل إلى الشعور إلى أنه كلما كانت الرؤية فردية أكثر، وكلما كان الفيلم ذاتياً أكثر، كلما إستحق أن يكون عملاً فنياً أفضل. كمتفرج، أرى أنه كلما كانت الأفلام أكثر ذاتية، بإمكانها أن تحيا مدة أطول من غيرها، وبأمكانك مشاهدتها مرات ومرات، لكن يمكن أن تصاب بالضجر حين تذهب لمشاهدة فيلم تجاري للمرة الثانية. إذاً، ما الذي يجعل من الفيلم ذاتياً؟ هل ينبغي عليك أن تكتب سيناريو بنفسك لتجعل من الفيلم فيلمك، كما كان يطالب منظروا الأفلام الشخصية؟ أنا شخصياً لا أعتقد أن ذلك ضرورياً. هنا ينبغي التمييز بين نوعين من المخرجين،الأول (Directors)، وهؤلاء يتميزون بمهارتهم عن غيرهم بترجمة السيناريو من كلمات إلى صور. أما النوع الثاني ( Filmmakers )، فبمقدورهم أخذ فكرة أي شخص كان وتضمينه رؤيتهم الذاتية. هؤلاء سيقومون بعملية التصوير وتوجيه الممثلين بطريقة ستغير أو تحّول ذلك الفيلم ليصبح أخيراً جزءاً من هيكل عمل أفلامهم الأخرى، بنفس الثيمات وأساليب معالجة الفكرة وتصوير الشخصيات، بمعنى أنهم يستطيعون أن يظهروا رؤاهم الشخصية من خلال تلك الفكرة المعطاة لهم. وهذا هو السبب الجوهري وراء التفاوت التام والواضح مثلاً بين فيلم "His Girl Friday" للمخرج هاورد هوكس، وفيلم "Dream Wife" ل سدني شيلدون.( (3 فعلى الرغم من أن كلاهما يعتبر فيلم ستديو، وكلاهما كوميدي، والدور الرئيسي في كلا الفيلمين يلعبه نفس الممثل الذي هو كاري كَرانت، إلا إن الأقبال عليهما مختلف جداً، ففي الوقت الذي يمكن للمتفرج مشاهدة الأول مرات ومرات عديدة، لا يمكنه إحتمال مشاهدة الثاني قط، على الرغم من أنه فيلم مقبول، لكن مع ذلك، ليس بمقدور المتفرج الصمود لثانية واحدة للمشاهَدة. وهذا هو نفس السبب الذي يجعل الأختلاف أيضاً بين أفلام جون جوو التي هي أفلام ذاتية على الدوام، وبين أفلام أخرى، ولنقل سلسلة أفلام "الرجل الوطواط" مثلاً، تلك التي تتضمن حرفية جيدة، إلا إن بمقدور أي ٍ كان أن يقوم بإخراجها. (ينبغي أن تعرف عن أي شيء تتحدث) أعتقد أن مهمة مخرج الفيلم هي أن يحكي قصة يريد أن يرويها لنا، وهذا يعني أن عليه معرفة الموضوع الذي يتحدث عنه. ينبغي عليه، في الأقل، أن يعرف نوعية المشاعر والأحاسيس التي يسعى لتوصيلها إلى المتفرج. هذا لايعني أنه لايستطيع أن يستكشف ويسبر غور الأشياء، بل بأمكانه أن يقوم بذلك، لكن، فقط ضمن السياق الذي تظهر فيه القصة. دعنا نحيل هذا الموضوع إلى أحد أفلامي وهو "سن البراءة". ففي هذا الفيلم تناولتُ المشاعر التي كنت أعرفها وأدركها عن قرب، إلا أنني وضعتها في محيط آخر، أعني فضاء الفكرة، العالم الذي كنت أسعى إلى سبر أغواره، وهكذا قمت بتحليل تلك المشاعر بطريقة أنثروبولوجية كي أرى كيف يمكن لأكسسوارات ذلك المجتمع على سبيل المثال أن تؤثر على تلك المشاعر (الأكسسوارات التي استخدمت في الفيلم كانت عبارة عن زهور مُعّدة وآنية خزفية صينية، إلى جانب لغة الجسد الشكلية، تلك التي تعكس سلوك حاملها)، أعني كيفية تأثير كل ذلك على تلك المشاعر، التي هي حسب ظني مشاعر كونية في سياق التجربة الأنسانية، وأعني بها الشوق والأماني أو جميع الرغبات غير المتحققة. فهكذا تناولت كل ذلك ووضعته في قدر ضغط ذلك المجتمع المعين. لكنك لو عملت فيلماً بنفس الشخصيات ونفس القصة، وجعلتَ الحدث يجري في قرية ولنقل في صقلية أو فرنسا مثلاً، فإنك تكون قد عملت فيلماً آخراً مختلفاً جداً. لذا بأمكانك أن تستكشف حقاً وبأمكانك أيضاً أن تجّرب, لكن لا تنسى أبداً أن كلفة أنتاج الأفلام في أي مكان تتراوح بين مليون ومائة مليون دولار. يمكنك أن تجرب بمليون دولار ولكن لا أعتقد أن بأمكانك ذلك بأربعين مليون، لأنهم لن يمّولوك ثانية. ثمة مخرجون يزعمون أنهم لايعرفون مطلقاً إلى أين هم ذاهبون حين يعملون فيلماً، وأنهم يعملونها بحسب الأتجاه الذي تذهب هي إليه. إذا وافقنا على هذا الرأي فمؤكد أن فيلليني هو أفضل نموذج على ذلك، لكنني لاأعتقد ذلك تماماً، لأن فيلليني لديه دائماً فكرة ما، هي بمثابة بوصلة تشير إلى الطريق الذي هو متجه إليه، مهما تكن تلك الفكرة مجردة. ثمة مخرجون أيضاً لديهم سيناريو، إلا أنهم لايعرفون بالضبط زوايا التصوير أو اللقطات التفصيلية للمشاهد المحددة، لحين اللحظة التي يدخلون فيها إلى البروفات على ذلك المشهد أو أحياناً في نفس يوم التصوير. أعرف أناساً يستطيعون العمل بهذه الطريقة، أما أنا نفسي فلا أستطيع مطلقاً العمل بها. إنني بحاجة إلى أن تكون بحوزتي جميع اللقطات التي كنت قررتها سلفاً، جاهزة وقت التصوير، حتى وإن كانت جميعها نظرية. في الأقل أنا بحاجة لأن أعرف مساء كل يوم، ماهي أول لقطة سنقوم بتصويرها في الغد. وحتى لو أنني قررت في بعض الحالات أن أضيف مشاهد لم تكن في الخطة من قبل ولنقل أنها، ليست مشاهد جوهرية بالنسبة لثيمة الفيلم، إلا أنه مع ذلك سيكون شيئاً مضحكاً أن أذهب إلى موقع التصوير خالي الوفاض، أو ليس لديّ في الأقل تصّور أولي عنها لرؤية ماذا أستطيع أن أفعل هناك. الواقع ليس هذا هو ما أردت الدفاع عنه، إنما أردت أن أؤكد على مسألة واحدة مهمة جداً وهي أن عليك معرفة إلى أين أنت ذاهب، وينبغي أن يكون كل ذلك مدّون على الورق. السكربت هو أهم شيء في العمل، لكن ينبغي عليك أن لاتكن عبداً له، لأنه إذا كان هو أهم شيء فهذا يعني أنك لن تفعل أكثر من تنفيذه فوتوغرافياً. السيناريو ليس كل شيء. الترجمة، التأويل، التفسير، هو كل شيء، أعني الترجمة البصرية لما كان مدوناً على الورق. إذا كنت مخرجاً ميالاً للحدس ولديك ميزانية جيدة فخذ وقتك وحقق مايخطر بمخيلتك آنياً. أما أنا شخصياً فلا أستطيع عمل ذلك. أظن أن كل ذلك يعتمد على المرء نفسه. لقد جربت هذه الطريقة مرة واحدة فقط في فيلم "نيويورك نيويورك" الفيلم الذي لم أكن أعرف إلى أين كنت أنا ذاهب حين صورته، وجربت أن أعتمد على قدراتي الطبيعية، إلا أنني لم أكن مقتنعاً تماماً بالنتيجة النهائية للفيلم. (خيارات صعبة)
أعتقد أن الدرس الرئيسي الذي تعلمته حول الأخراج السينمائي هو تلك العلاقة المتوازنة والمتوترة بين معرفة بالضبط ما تريده، وبين أن تكون قادراً على تغيير ذلك وفقاً لمتطلبات الظروف. لذا فالمسألة كلها تنحصر في أنه ينبغي عليك أن تكون قادراً على معرفة الشيء الأساسي والجوهري إلى جانب معرفتك بالشيء الذي ليس بمقدورك تغييره، أعني به الشيء الذي لا ينبغي عليك تغييره على الأطلاق، كذلك أن تكون قادراً على معرفة الشيء الذي ينبغي أن تتعامل وأياه بمرونة أكثر. يحدث في بعض الأحيان أن تذهب إلى موقع التصوير وتجد أن الموقع يختلف تماماً عما تصورته في مخيلتك، والذي على أساسه كنت صمّمت نوعية اللقطات التي ستصورها هناك. حسناً، ماذا ستفعل في هذه الحالة؟ هل ستحاول البحث عن موقع آخر للتصوير، أم أنك ستقوم بتتغير نوعية اللقطات؟ ربما إحدى الحلول العملية لمعضلة كهذه مثلاً، هو أن عليك أن تبتكر لقطات مستنبطة من الموقع نفسه. أنا شخصياً قد عملت، في الواقع، بكلتا الطريقتين . ففي بعض الأحيان أذهب إلى موقع التصوير أولاً، ومن هناك أشرع بتصميم اللقطات. إنما في أحايين كثيرة كنت أقرر اللقطات سلفاً ومن بعد أحاول جعلها تعمل ضمن حدود موقع التصوير. شخصياً ومن خلال تجربتي الخاصة أجد نفسي أكثر ميلاً للخيار الثاني. إن رسم خطة تفصيلية لقائمة اللقطات النظرية قبل التصوير يتضمن تثبيت أماكن الكاميرا وحسم أيّ من الممثلين سيظهر في داخل إطار اللقطة ومن سيكون خارجها. هل سيصور الممثلين في إطار لقطات منفصلة أم أنهم سيظهروا في إطار لقطات موّحدة؟ أو، هل ستكون اللقطات فردية، وإذا كانت هكذا عندئذ كيف ستكون حجومها؟ هذه الأشياء جميعها ينبغي أن تتضمنها قائمة اللقطات النظرية . هل هناك حركات كاميرا؟ وعلى أي خط من الخطوط ؟ أين ؟ لماذا؟ نظرياً،هذه مبادىء وقواعد نموذجية يمكن تطبيقها في أي موقع تصوير. ثمة مسألة أخرى تتعلق بالجدران والسقوف، تلك التي يجب أن تعالجها أثناء عملية التصوير، وهذه الحالة لا تشمل التصوير داخل الأستديو بالطبع، لكنك داخل الأستديو ينبغي أن يكون لديك عادة المال الكافي لبناء ثلاثة جدران، ورغم ذلك لايمكنك مثلاً في هذه الحالة تصوير لقطة بزاوية 180 درجة (المقصود لقطة بانورامية نصف دائرية) لكن، إذا أحسست أنك بحاجة لتصوير تلك اللقطة في نفس الديكور، فيبغي عليك الحصول عليها، أي أن عليك، في هذه الحالة، أن تنفق مالاً أكثر لبناء الجدار الرابع، وفي هذه الحالة محتمل جداً أنك ستفقد مشاهد محددة من الفيلم، لأنه لا يمكنك تصويرها بسبب شحة الميزانية. ينبغي عليك أن تعرف ما هو الشيء المهم، وما هو الشيء الذي لا يمكنك تغييره، في ذات الوقت عليك أن تتقاتل بضراوة من أجل تحقيق ما تريد. لكن، يتوجب عليك أن لاتكون عنيداً، وأن لاتقول (لا) لأي شيء ُيحدث تغييراً على ماهو مدوّن في الخطة، لأنك لو فعلت ذلك، فستفقد علاقتك بمن هم وراء الكاميرا وحولها بل وموقع التصوير ككل، وستقف حائلاً دون عطائهم، وهذا ماسيظهر في ما بعد معكوساً بشكل جلي في النسخة النهائية للفيلم!. يصدف في بعض الأحيان أن حدثاً ما، أو تغيير ما، يجري في اللحظة الأخيرة أثناء عملية التصوير يمكن أن يخلق شيئاً غير متوقعاً وساحراً. وفي بعض الأحيان يمكن أن تكون عنيداً جداً وتصّر على محاولة تجسيد شيء ما تريده أن يظهر في فيلمك، إلا النتيجة ستكون حتماً غير مرضية لأن الشيء الذي أردت أن تخلقه في فيلمك سيظهر متوتراً، صارماً، مقحماً وشكلياً، لذا عليك أن تحترس وتكون مدركاً لذلك . (لغة الأبتكار أو إعادة الخلق) هل ثمة قواعد لغوية في عملية إخراج الفيلم كما هي الحال في الأدب؟ حسناً ، أحسب أن الجواب هو بالتأكيد (نعم). وهذه القواعد كانت قد أعطيت لنا مرتين، على حد قول جان لوي غودار: "... كان لدينا أستاذان مهمان في تأريخ السينما، د. دبليو . غريفث في عهد السينما الصامتة، وأورسن ويلز في عهدها الناطق.". إذاً، ثمة قواعد أساسية تحكم هذا الميدان، لكن مع ذلك، مازال الناس يكافحون حتى يومنا هذا من أجل البحث عن طرق جديدة لرواية القصص عبر الفيلم، على الرغم من أنهم مازالوا يستخدمون نفس الأدوات في بناء اللقطات التقليدية (اللقطة العامة الأساسية، اللقطة المتوسطة، اللقطة الكبيرة أو كلوز آب) لكن ليس بالضرورة لنفس القصد أو الهدف، ناهيك عن أن تجاور هذه اللقطات بعضها مع بعض أثناء عملية المونتاج من شأنه أن يخلق مشاعر جديدة أو بشكل أدّق، خلق أسلوب جديد لأيصال مشاعر محددة إلى المتفرج. أول الأمثلة التي تخطر في الذهن هي أفلام أوليفر ستون كفيلم "قتلة بالفطرة" أو فيلم "نيكسون". في فيلم "نيكسون" مثلاً، ثمة مقطع يظهر فيه الرئيس نيكسون وهو يهذي: ثمة لقطة تظهر فيه زوجته وهي تتحدث إليه، وبعدها قطِع مونتاجي للقطة بالأبيض والأسود، ومن بعد عودة أخرى إلى الزوجة ونحن ما نزال نسمعها وهي تتكلم معه ، إلا أنها لا تتكلم أي شيء على الشاشة. هذا شيء رائع حقاً! لقد عثر أوليفر ستون على طريقة لخلق إحساس وحالة سيكولوجية بشكل كامل خلال عملية المونتاج. لديك لقطة (كلوز آب) لشخص لا ينطق بأي شيء، ومع ذلك فاللقطة ماتزال تخلق لديك إحساس ما. ديفيد لينتش مخرج آخر لديه تجاربة الخاصة مع لغة الفيلم وهي الأخرى مهمة ورائعة جداً. إن لغة الفيلم مرنة ومتجددة على الدوام، فبإمكان أي شخص أن يجرب أي أسلوب جديد لتجاور اللقطات مونتاجياً بعضها مع بعض مثلاً، ليحكي من خلال ذلك قصة . أعتقد أن فيلم "الرفاق الطيبون" هو واحد من أفلامي التجريبية، لكنني مرة أخرى أقول، أنني لست متأكداً حقاً من تسميته تجريبياً، فهو كشكل، كان في الأصل، مبنياً على مقاطع من فيلمي "المواطن كين" و "مسيرة الزمن" و... الدقائق الأخيرة من فيلم تروفو "جولس و جم". في هذا الأخير تجد أن كل إطار صورة ( Frame) فيه مفعم تماماً بالمعلومات والحقائق الجميلة، وهناك تعليق صوتي يقول شيئاً، فيما الصورة تريك شيئاً آخر. إنها تفصيلات زاخرة بالمعنى، وهذا النوع من غنى التفصيلات هو ما إستخدمته في "رفاق طيبون". لم يكن ثمة شيء جديد بالطبع، إلا أن الجديد فيه كما أحسسته أنذاك، هو بهجة وحيوية تجاور التعليق مع الصور، ذلك الذي خلق إحساساً بإسلوب الحياة التي يعيشها قاطع طريق شاب. الفيلم الثاني الذي كان تجريبياً أكثر هو "ملك الكوميديا" إلا أن التجريبية هنا تتعلق بالشكل على الأغلب، لأنه لم تكن هناك حركات كاميرا في الفيلم على الأطلاق، وهذا الشيء كان بالنسبة لي شيىء غير أعتيادي تماماً . (رؤية الحياة عبر عدسات 25 مليمتر) مثل كل المخرجين، ثمة آلات معينة أحب أن أستعملها وأخرى لست مولعاً في إستعمالها، فأنا مثلاً لايهمني أن أستخدم عدسات زوم zoom، تلك التي يمقتها كثير من المخرجين. إلا أن هناك شيئان يتعلقان بهذه العدسات لا أحبهما: الأول هو الأستخدام المفرط لها لغرض إثارة الصدمة، وهو الشيء الذي كان فعله في بادىء الأمر المخرج ماريو برافا ) 4) في الستينات والذي ظل يغلب على معظم أفلامه حتى في سنواته الأخيرة، إلا أنه يبقى أسلوب خاص به بالطبع. الشيء الثاني، إن المعضلة الحقيقية في عدسات الزوم هو أفتقارها لعنصر الحّدة أو الدقة، بمعنى أن الصورة لاتظهر نقية وصافية مثلما هو الحال مع العدسات الرئيسية. أتذكر حين عملت مع المصور مايكل بالاس Michael Ballhaus (5) كنا نستخدم غالباً عدسات زوم، إلا أننا كنا نستعملها بالمصاحبة مع حركة الكاميرا، لغرض تغيير حجم إطار الصورة، وهكذا كنا نمّوه للزوم على أنه حركة كاميرا للأقتراب من الموضوع المُصّور أكثر أو الأبتعاد عنه. كقاعدة، أنا أفضّل العدسات الواسعة أو المنفرجة الزاوية Wide-angle (6)، فمثلاً أحب العدسة حجم 25 مليمتر وتلك الأكثر إنفراجاً، والتي غالباً ماكان يستخدمها أورسن ويلز و جون فورد، وحتى أنتوني مان(7) في بعض أفلامه، تلك الأفلام التي أمضيتُ سنوات فتوتي في مشاهدتها، والتي أُستخدمتْ فيها العدسات المنفرجة الزوايا لخلق نوع من الرؤية التعبيرية، التي أحسب أنني أحبها جداً، والتي هي السبب أيضاً وراء حبي للسينما البولونية المعاصرة، حيث المخرجون كثيراً ما يستخدموا تلك العدسات، ليس لغرض تشويه الصورة، بل بسبب الهشاشة أو التجّعد الذي تحدثانه في الصورة، وأيضاً لغرض درامي بالطبع. إن الطريقة التي تلتقي أوتتجمع فيها الخطوط في الصورة التي تخلقها العدسات المنفرجة الزوايا تمتلك تأثيراً درامياً أكثر من غيرها. حين عملت فيلم "نيويورك نيويورك" صورّت معظمه بعدسة حجم 32 مليمتر لأنني أردت تحقيق رؤية مسطحة أو مستوية للصورة كما هو الحال في أفلام الأربعينات. الأفلام الموسيقية كانت تختلف قليلاً، إلا إنها رغم ذلك كانت مّيالة لأستخدام اللقطات ذي الرؤية المسطحة، فهي كانت تستخدم عدسات منفرجة الزوايا كالعدسة 25 ملمتر أو 18 مليمتر، وقد صور المخرجون أنذاك لقطات من زوايا واطئة لغرض الحصول على صورة لسقف المكان الغرض منه خلق تأثير درامي. وهكذا، على أية حال، إستعملتُ عدسات 32 مليمتر لغرض الحصول على سمات تلك الأفلام التي صورت في الأربعينات، حيث الشخصيات كانت في الغالب قد صوّرت أساساً من مستوى الركبة نحو الأعلى. هذا هو بالضبط ماجربته في فيلم "نيويورك نيويورك". أما العدسات طويلة البعد البؤري ، على وجه الخصوص، فأنا لا أحب أستخدامها حقاً لأنني أحس أنها تجعل الصورة تبدو مبهمة وغير واضحة، ومع ذلك، أحب الطريقة التي يستخدم بها الآخرون هذه العدسات، مثال على ذلك ديفيد فينتشر David Fincher في فيلمه "السبعة" أو أكيرا كوروساوا الذي كان يستخدمها دائماً بشكل جميل ورائع. هذا لا يعني في الآخِر،أنني لا أستخدم العدسات الطويلة البعد البؤري مطلقاً. كلا، حين أريد إستخدامها، فأنني أفعل ذلك فقط لأغراض خاصة جداً. ومثال على ذلك، هناك مشهد في فيلم "الثور الهائج" كنت صورته بعدسات طويلة البعد البؤري فقط. وكنا يومها كما أظن، قد إستخدمنا وهج نار وضعناه أمام العدسة لغرض تمويج الصورة وتشويهها، وهكذا ترانا بعض الأحيان نستخدم أشياء كهذه نضعها ما بين العدسة والموضوع المصّور بهذه الطريقة وتكون النتائج طيبة عادة. غالباً ما أجد الكثير من الناس الذين لايعرفون حقاً كيف يصّورون، يضعون شخصين على مسافة من الكاميرا ويجعلونهما يتحركان بإتجاهها، أو يصورونهما في بعض الأحيان بعدسات طويلة البعد البؤري. يمكنني أن أصوّرهما بهذه الطريقة بالطبع، لكن الصورة ستكون بالنسبة لي في الأقل، تبدو دائماً دون وجهة أو هدف. (ينبغي على الممثل أن يكون حراً، أو هكذا يجب أن نفكر) ليس هناك سّراً ما في قضية عمل المخرج السينمائي مع الممثل، فكل شيء يتوقف على طبيعة ذلك المخرج وطريقة تعامله. فبعض المخرجين يحصلون على إداء رائع من الممثلين، على الرغم من تعاملهم الفظ والقاسي معهم، بل وحتى المقرف والسيء جداً في بعض الأحيان. أما إنطباعاتي أنا بهذا الشأن فأرى أنه شيء جيد أن تعمل مع ممثلين تحبهم كبشر، أو في الأقل تحب جوانب معينة فيهم. هذه هي الطريقة التي عمل بها غريفيث (8) كما أظن، فقد أحّب ممثليه حقاً. أما القصص التي سمعناها عن الفريد هيتشكوك وبغضه للممثلين، فأنا شخصياً لا أصدق كل ما قيل عنه، لا بل أظن أنه من المضحك حقاً قول ذلك. حسناً، ليس مهماً نوع السلوك الذي تبعه هيتشكوك مع ممثليه، إنما المهم كيف إستطاع أن ينتزع منهم إداءً رائعاً. فريتز لانغ (9) مثال آخر، فقد كان صارماً وقاسياً جداً مع الممثلين، إلا أنه حصل منهم على إداء رائع وخّلاق. أنا شخصياً، ينبغي عليّ أن أحب الممثلين الذين أعمل معهم، وأسعى إلى أن أمنحهم القدر الممكن من الحرية، من أجل أن يبعثوا الحياة في المَشاهد التي يجسّدونها أمام الكاميرا. "الحرية" بالطبع، تعبير رخو ونسبّي في موقع تصوير الفلم، بسبب وجود العديد من القيود التي تحكم آليات العمل. لكن مع ذلك، عليك أن تترك لديهم إنطباعاً أنهم أحرار ضمن المخطط التركيبي للمشهد الذي يجري تصويره. الممثل بحاجة لأن يحس بمثل هذه الحرية، لأنها ستفتح ينابيع مخيلته ليُحدث شيء ما خارقاً، وأيضاً ليفكر ويقترح أشياءاً تحلق بالعمل عالياً. أنا لا أحب أن أؤطر الممثل بنوع محدد من الإضاءة أو بنوع معين من العدسات، رغم أنني أفعل ذلك في بعض الأحيان بالطبع، وقد كنت محظوظاً في ذلك، والسبب أنني عملت مع ممثلين كانوا يحسّون بالحرية، لهذا السبب كانوا يصيبون أهدافهم بالشكل الصحيح. يمكنني القول أن معظم اللقطات في أفلامي هي لقطات متقنة ومحدّدة جداً. إلا أنني أحاول على الدوام تصميم تلك اللقطات وتنظيمها مع مدير التصوير، لكي أترك للممثلين في الآخِر فسحة من الحركة. في فيلم "رفاق طيبون" مثلاً، ثمة حرية لا تقبل الجدل، لأن معظم اللقطات كانت متوسطة الحجم، وهذا يعني أن هناك مجال للحركة. اللقطات متوسطة الحجم هو العالم الذي تحيا فيه تلك الشخصيات، وهو بالتأكيد ليس عالم لقطات الكلوز آب. هناك أناس يعيشون حول تلك الشخصيات طوال الوقت، فكل ماتفعله سيؤثر حتماً على العالم الذي يعيش حولها، لهذا عليك أن تصّور تلك الشخصيات في لقطات متوسطة الحجم. الشيء الجوهري في الأمر هو أن لا تقيّد الممثل. لكن، من جانب آخر، أنا لا أستطيع أن أدع الممثلين يعطونني أشياء لا أريدها. أما بشأن عنصر الأرتجال، فالمجال مفتوح أمامه على الدوام. في فيلم "كازينو" مثلاً، كان ثمة الكثير من الأرتجال لدى الممثلين، وقد كان شيء جميل ورائع حقاً. إذا شعر الممثل بأرتياح حقاً وهو يؤدي تلك الشخصية في ذلك العالم الأفتراضي، فسأدعه يرتجل ضمن حدود المشهد المعطى، وسأصوره بطريقة بسيطة، أمينة وجميلة، أعني أنني سأصورة بلقطات متوسطة الحجم ولقطات كلوز آب. حين تفعل ذلك، سيضطلع الممثل بخلق وإبتكار ذلك العالم بشكل جميل ومذهل. إنني أضعهم في إطار الصورة Frame، أما الموقع الذي يحيط بهم فهو جزء من حياتهم، إلا إنهم هم أنفسهم من سيبعث تلك الحياة في ذلك الموقع. حين يحدث ذلك، و حين يسير كل شيء في الأتجاه الذي تريد، فسيكون ذلك شيئاً مجزياً ومبهجاً بشكل لايصدق. كنت غالباً ما أجد نفسي في ذلك الفيلم جالساً خلف الكاميرا ليس كمخرج، بل كمتفرج . نعم، كنت أحس كما لو أنني أشاهد فيلماً يقوم بأخراجه شخص آخر. حين تحس بمثل هذا الأحساس، فهذا يعني أنك في وضع ممتاز.
(لمن تصنع أفلامك؟) هناك البعض من المخرجين يعملون أفلاماً موجهّة بشكل محدد، بالمعنى الضيق للكلمة، إلى المتفرج. أما البعض الآخر من المخرجين وأخص بالذكر ستيف سبيلبيرغ و هيتشكوك مثلاً، فهما يصنعان أفلاماً للمتفرج ولأنفسهم في نفس الوقت. هيتشكوك مثلاً كان مميزاً في هذا الشأن، إذ إنه كان يعرف جيداً كيف يلعب ويناور مع متفرجيه، لهذا يمكن القول أن هيتشكوك قد عمل فقط أفلام تشويق وإثارة، وهذا شيء صحيح، إلا إن خلف أفلامه تلك ثمة سيكولوجيا، وهي سيكلوجيا من النوع الذاتي جداً، تلك التي جعلت منه مخرجاً عظيماً. تلك الأفلام الذاتية كانت ُتموّه حقاً على أنها أفلام إثارة وتشويق. أما في ما يتعلق بي، فأنا أعمل أفلاماً لنفسي. حسناً، أنا أعرف جيداً أن ثمة جمهوراً لكل فيلم بالطبع، وسيرى ذلك الجمهور الفيلم الذي أعمله حتماً. أما حجمه وعدده ، فهذا ما لا أعرفه حقاً. البعض سيرى هذا الفيلم، والبعض الآخر سيعجب به، بل وبعض من المتفرجين محتمل أنهم سيرونه مرات ومرات، لا أعني الجميع بالتأكيد. لذا أرى، في هذه الحال، أن أفضل طريقة للعمل بالنسبة لي، هو أن أعمل الفيلم كما لو أنني متفرج. لكن، وبما أنني أعمل في بعض الأحيان أفلاماً لصالح الأستديوهات، فإن أفلامي تلك تخضع لأختبار مزاج المتفرج لغرض معرفة إستجاباته. وأنا شخصياً أجد ذلك مهّماً وشيقاً، على الأقل في الجانب الذي يتعلق بمعرفتنا لحيثيات ما نقوم به نحن. ستعرف في ما إذا وصلت بعض الأشياء المحددة أو أنها لم تصل إلى المتفرج، أو، هل أن بعض الأشياء المحددة تلك كانت مشوشة وهي بحاجة إلى توضيح. وأيضاً، هل هناك مشاكل بشأن طول مدة الفيلم أو، هل هناك حشو و إسهاب، وأشياء من هذا النوع . وبالقدر الذي يقول لنا فيه المتفرج: "أنا لا أحب الناس الذين تظهرونهم لي في الفيلم، لذا فأنني لن أذهب لمشاهدته" سنقول له نحن بالمقابل: "حسناً يا عزيزي، ولكن هذه هي الحياة!" . أنت تعرف أن أي فيلم يخرج إلى النور، تسبقه دعاية وأعلان بالطبع، وأن الناس الذين سيذهبون لرؤيته يعرفوا ماكان يتوقعونه. أما في صالة إختبار مزاج المتفرج، فسيأتي، بالطبع، الكثير من الناس، منهم اللامبالي ومنهم غير الجاد، نعم. لذا ينبغي أن تعرف أي الملاحظات، تلك التي عليك أن تصغي لها، وأي منها عليك إهمالها. هذا الأمر، بالطبع، يسبب لنا مشاكل مع الأستديو، لأن المشرفين على تلك الأستديوهات يريدون أن يستجيب كل شيء لذائقة الجمهور، وهذه معضلة. "خليج الخوف" هو الفيلم الوحيد الذي كان موجهاً بشكل محدد للجمهور. إلا إنه كان فيلم إثارة، لأنك حين تعمل فيلم من هذا النوع ، فإن ذلك يتطلب منك إتباع بعض القواعد المّحددة، تلك التي تراعي ردود فعل المتفرجين التي ستنعكس بطرق معينة، كالقلق والخوف والأثارة والهياج والضحك...إلخ.. مع ذلك، لا أخفيك سراً إذا قلت لك، إن كل ماقدمته للمتفرج أنذاك، لم يكن سوى الهيكل العظمي للفيلم، أما الباقي فقد كان لي.
(الخطأ المهلك) هناك العديد من الأخطاء المتنوعة أظن أن على المخرج أن يتحاشاها مهما كلف الأمر. أول تلك الأخطاء التي تخطر في الذهن هي الأفراط والأسراف في توضيح وتفسير مغزى وهدف الفيلم، بغض النظر عن كونه فيلماً عاطفياً أو فكرياً. حسناً، إذا كان عاطفياً، فمن الممكن أن تزوغ منه في بعض الأحيان، لأن بإمكان العواطف أو الأحاسيس أن تصبحا حادتين أو كثيفتين بما فيه الكفاية لتصيرا شيئاً آخر، لكن المعضلة الحقيقية تكمن في الخطاب، سواء كان ذلك الخطاب سياسياً أو مجرد فكرة مضمرة في الفيلم،. ففي بعض الأحيان، مثلاً، أرى أفلاماً تظهر فيها الشخصية في النهاية، بطريقة أو أخرى، لتوضح وتفسر لنا عبر خطبة أو ديالوغ، عنوان الفيلم بل وحتى مغزاه في بعض الأحيان، وهذه كارثة. أنا أحس أن هذا الشيء هو أسوأ ما يمكن عمله في ميداننا، فهو خطأ مهلك، ومن جهتي، فقد حاولت قدر المستطاع أن أتفادى معضلة كهذه في كل أفلامي بدون شك. ***
-------------------------------------------------------- هوامش: (1) هذا اللقاء مجتزأ من كتاب: MOVIEMAKERS' MASTER CLASS: PRIVATE LESSONS FROM THE WORLD'S FOREMOST DIRECTORS
الكتاب صادر باللغة الأنكليزية عن دار النشر FABER AND FABER 2002 ، وهو عبارة عن مجموعة من اللقاءات الصحفية كان أجراها الناقد والسيناريست والمخرج السينمائي الفرنسي لورينت تيراد في أوقات وأماكن مختلفة مع عشرين مخرجاً سينمائياً عالمياً ينتمون إلى أجيال ومدارس مختلفة، وغطى الكتاب فترة نصف قرن تقريباً، مبتدئاً منذ أواسط ستينات القرن الماضي وحتى وقتنا الحالي. * ولد لورينت تيرارد في باريس عام 1967، وكان قد درس الأخراج السينمائي في جامعة نيويورك أواسط الثمانينات، وهو نفس المعهد الذي درس فيه وتخرج منه سكورسيزي أواسط الستينات. بعد عام من عمله كقارىء وفاحص نصوص سينمائية في ستديو الأخوة وارنر في لوس أنجلوس، أصبح لورينت صحفياً يعمل لصالح المجلة السينمائية الفرنسية Studio . هناك وعلى مدى أكثر من سبع سنوات، كان يشاهد مئات الأفلام سنوياً ويكتب عنها، وقد توفرت له أنذاك فرصة ذهبية لإجراء لقاءات مع جل المخرجين العالميين الكبار، أمثال مارتن سكورسيزي وجان لوك غودار وجون وو وستيفن سبيلبيرغ وودي ألين وآخرين، وكان قد أجرى معهم لقاءات ونقاشات مطوّلة حول معظم الجوانب العملية للأخراج السينمائي في سلسلة بعنوان "دروس خاصة في السينما"، هذا الذي بين أيدينا. وفي السنوات الأربعة اللاحقة إستطاع لورينت أن يوظف تلك الدروس في حياته العملية، أولاً، كسيناريست في الأفلام السينمائية والتلفزيونية الفرنسية، ومن بعد، كمخرج لفيلمين قصيرين، الأول بعنوان "مصادر جديرة بالثقة" والثاني "غداً هو يوم آخر". الأول حاز على جائزة بانافيشن في مهرجان أفيكَنون نيويورك فيلم عام 1999، والثاني أختير لمهرجان تيلورايت فيلم عام 2000. أول فيلم روائي طويل له هو "قصة حياتي" عام 2004 ، وهو عبارة عن كوميديا رومانتيكية قام هو بنفسه في كتابة السيناريو للفيلم. لورينت تيرارد هو الآن عضو مراقب في لجنة تحكيم الأفلام في مهرجان كان السينمائي.
(2) Noir: نوير، هوأحد الأساليب الفلمية الذي كان شائعاً أنذاك في السينما الأمريكية في أعوام الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، فترة سينما الأسود والأبيض، التي إستمرت حتى الستينات، ولعل أبرز وأفضل مثال على هذا النمط من الأفلام هو فيلم "لمسة شيطان" 1958 لأورسن ويلز. ظهر هذا النمط من الأفلام في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل لها، فالشك والجريمة والعنف وكره النساء وعدم الثقة والكآبة والبارانويا...إلخ، هي السمات الغالبة على تلك الأفلام، والتي هي مواصفات مجازية لشرور المجتمع فترة الحرب العالمية الثانية أنذاك. (3) هاورد هاوكس: ( 1896 1977 ) مخرج سينمائي أمريكي. فيلم His Girl Friday أخرجه عام 1940 أبيض وأسود. سيدني شيلدون: ( 1940 )مخرج سينمائي أمريكي. فيلم Dream Wife 1953 (4) ماريو بافا (1914 1980 ) مخرج ومصور سينمائي إيطالي كان يمتلك منزلة كبيرة في ستينات القرن الماضي بسبب الرهافة والأبداع الأستثنائيين التي أظهرهما في عمل أفلام رخيصة تميزت بالرعب والعنف. (5) مايكل بالهوس: (1935 ) مصّور سينمائي ألماني وهو أحد أهم وجوه السينما الألمانية الجديدة. (6) عدسات Wide-angle : هي عدسات بعدها البؤري أقصر من البعد البؤري للعدسات الأعتيادية، ميزاتها أنها تعطي عمقاً أكثر لمجال الرؤية، كما أنها تعطي رؤية أوسع وأغنى للقطة، التي هي على الضد من اللقطة ذي الرؤية المسطحة flatter shot تلك التي تكون خالية من العمق والأبعاد. (7) أنتوني مان: ( 1906 1967 ) ممثل ومخرج سينمائي أمريكي، و "سقوط الأمبراطور الروماني" 1964 هو أحد أشهر أفلامه. توفي مان بالسكتة القلبية أثناء العمل على فيلم "Dandy in Aspic" في برلين وأكمل الفيلم بعده نجم الفيلم لورنس هارفي. ( 8 ) ديفيد وارك غريفيث ( 1875 1948 ) المخرج السينمائي الأمريكي الأول الذي يعتبره رجالات السينما، أنه المخرج الأكثر تأثيراً على مجمل تأريخ السينما في العالم، ولعل فيلمه الملحمي الصامت الشهير "مولد أمة" الذي أخرجه عام 1915 هو الأكثر أهمية، من الناحية الفنية، لتطور السينما في العالم. كانت مدة هذا الفيلم ثلاث ساعات ونصف الساعة، وهي مدة غير عادية، وربما كانت السبب في كساد الفيلم وفشله أنذاك. الجدير بالذكر أن شريطاً صوتياً قد أضيف لهذا الفيلم لاحقاً، بعد أن نطقت السينما. أما فيلمه الآخر فهو "التعصب". واقع الأمر إن هذين الفيلمين أصبحا بمثابة مراجع أساسية لجميع مراكز البحوث والمعاهد والجامعات السينمائية في كل أنحاء العالم. أما المصير المأساوي الذي آلت إليه حياة هذا الفنان العظيم فهو يحاكي مصير الكثيرين من المبدعين أمثاله، خصوصاً في تلك السنوات العصيبة، فقد أصابه الأفلاس نتيجة للتكلفة الباهضة لذلك الفلمين ، ما إضطره إلى عمل أفلام يمكن القول عنها أنها أقل من عادية وقد لاقت الفشل على الصعيدين التجاري والفني، وهكذا لفه النسيان والفقر والأهمال في خريف سنواته الأخيرة. ( 9) فريتز لانغ: ( 1890 1976 ) مخرج وسيناريست أمريكي من أصل ألماني، هو واحد من أفضل التعبيريين الألمان الذي عمل في هوليوود. عرف عنه شدته في التعامل مع الممثلين، حتى قيل أنه في أحد المشاهد النهائية لفيلمه الشهير M دفع الممثل بيتر لوري من أعلى السلم نحو الأرض لغرض إضفاء مصداقية وتاثير درامي على المشهد. أفضل أفلامه فيلم "ميتروبوليس" عام 1926الذي تميز بأسلوبه التعبيري، وفيلم M وهو أحد أهم افلام نوير المبكرة. أخرج لانغ ما يقرب الخمسة عشر فيلماً في ألمانيا، وهرب إلى الولاياتالمتحدة في عهد النازي لكي لا يتعاون مع الجهاز الحكومي أنذاك، وإنضم إلى منظومة هوليوود حيث أخرج ما يقارب العشرين فيلماً، جلها تتحرى عالم الجريمة والرعب. ومن الأفلام المميزة التي أخرجها في أمريكا فيلم "الغضب" عام 1936، وفيلم "إنك تعيش لمرة واحدة فقط " عام 1937، ثم فيلم " Big Heat " عام 1953، أما آخر فيلم له فهو "Beyond a Reasonable Doubt" عام 1956. توفي لانغ عام 1976 ودفن في مقبرة فوريست لون الهوليوودية في لوس أنجلوس. فيلموغرافيا (مارتن سكورسيزي: 1942...) أفلامه الرئيسية: 1968 من ذا يطرق بابي؟ 1972 عربة بيرثا 1973 الشوارع القذرة 1975 لم تعد آليس تعيش هنا بعد الآن 1976 سائق التاكسي 1977 نيويورك نيويورك 1980 الثور الهائج 1983 ملك الكوميديا 1985 بعد ساعات 1986 لون المال 1988 الأغواء الأخير للمسيح 1989 قصص نيويوركية 1990 رفاق طيبون 1991 خليج الخوف 1993 سن البراءة 1995 كازينو 1997 كاندن 1999 إيقاظ الموتى 2002 عصابات نيويورك 2004 الطيار 2006 الراحلون
***
علي كامل كاتب ومخرج سينمائي عراقي لندن هذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته الفوانيس السينمائية