« سوف نرى هذه البدعة التي تصدر صوت طقطقة وتدار باليد والتي سوف تحدث ثورة في حياة الكتاب، إنها هجوم مباشر على الطرق القديمة للفن الأدبي، وسوف يكون علينا أن نكيف أنفسنا مع الشاشة ذات الظلال ومع الآلة الباردة. وسوف يكون من الضروري وجود شكل جديد للكتابة» ليو تولستوي 1 لا أحد ينكر على السينما مكانتها المتميزة الآن، فقد أثبتت قدرتها المرنة على استيعاب جميع الخطابات من مختلف الحقول الثقافية، وجعلها عاملا مهما في بناءها الدرامي، وأضحت اليوم بوتقة تنصهر وتمتزج فيها كل أشكال التعبير الإنساني، وقد شرعت في الخوض في حقول تجريبية كثيرة من خلال انفتاحها على تلك الفنون والآداب والعلوم المجاورة، متوسلة بتقنيات فنية تشكل أغلبها في أطر ثقافية مقاربة للفن السينمائي (الرواية والمسرح والرسم والموسيقى...)، إن إستراتيجيات هذا الارتباط والتداخل اتضحت في إطار ما عرف بعلم السرد، الذي يسعى إلى الكشف عن البنية الحكائية لكل الخطابات السردية، ومنها الفيلم السينمائي، هذا بغض النظر عن البنية الرمزية وما تنطوي عليه من دلالة. إن التساؤل حول ماهية العلاقة بين الرواية والسينما تشوبه العديد من الإشكالات، وينخر عضده تخريجات غريبة يعلن عنها واقع الكتابات التي هامت في جدل الأدبي والسينمائي، ويقع الإجماع على أن الاختلاف بين النص المقروء والفيلم السينمائي هو سبب هذا الوضع الإشكالي، فالسينما تمر عبر أدوات تتقاطع وما يعتمده الروائي في الكتابة، لهذا حينما ينتقل العمل الروائي إلى السينما، يكون سيد النص غائباً، حيث تتم إعادة كتابة نصه من جديد وقولبته بما يوافق رؤية كاتب السيناريو والمخرج. قبيل منتصف القرن التاسع عشر قال الروائي الفرنسي الكبير ستندال «الرواية مرآة تمشي في الطرقات»2، وقبيل أن ينتهي ذلك القرن كانت الرواية -المرآة- قد تمردت على ستندال، وعلى الطرقات، وبدأت تعكس مناحي الإنسان ودواخله، أما الطرقات فكان من نصيبها فن جديد ناشئ في ذلك الحين هو فن السينما، أو الصور المتحركة كما سمي ذلك الوقت، ولكن الزمن مضى، ثم أدرك التمرد السينما، فهجرت الطرقات والمقاهي، وفرت إلى الاستوديوهات حاملة معها فكرة تحريك الصورة التي تطورت عبر مراحل متعددة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم. الأكيد أن معتمد الأدب ظل لقرون طويلة العماد الأساس ولبنة قوية لمتخيل العديد من المراحل السابقة، مكتسباً بذلك سلطة رمزية نخبوية، ترفض الاعتراف بأشكال أدبية جديدة تنأى بنفسها عن قواعده، إلى أن بزغ فجر الصورة ليزيح عنه هالة القداسة، ويضيء مساحات من العتمة كان الأدب يتحاشى الخوض فيها، كونها لا ترقى إلى مرتبة تجعل الأدب يلتفت إليها بالمعالجة والدراسة، لكن زحف عالم الصورة (السمعي البصري) على مناطق هيمنة الكتابي، شكل محاولة جادة لزحزحة عرش (بلاغة/صناعة) النثري، مما سيرغم الأدب على النزول من برجه العاجي، وإخضاع نفسه إلى تقنية الصورة والتصوير، معلناً بذلك عن مرحلة جديدة يتمازج فيها الكتابي والأيقوني، ويعتمد فيه السرد واللقطة كتقنيات للتعبير عن تلاقح الخطابات والأنواع. في خضم هذا ونتيجة لتوسع امبريالية عالم الصورة، ستتحول النخب الثقافية الكلاسيكية إلى مكون من مكونات الآداب الملحقة، النازعة إلى ملأ فراغات وتشييد صروح جديدة وفق حاجات راهنة تتفاعل معها المجتمعات الشعبية الاستهلاكية، التي استهوتها الأنواع الجديدة التي تحتفي بما هو (شعبي/مصور/مسموع/مرئي...)، هكذا استطاعت الآداب الملحقة زحزحة الآداب المعتمدة، حتى وهي محكومة بقواعدها، فكان أن انفتحت أبواب الأدب الروائي على السينما، في شكل تداخل مشروط، يخفي نسبياً التعارض القديم، لتتعزز ممارسة ثقافية جديدة بأساليب تراعي جوانب (التخيلي/الإيهامي)، هذا جعل رواد الأدب المعتمد، يلجون عوالم الصورة بأرصدتهم، ساعدهم في ذلك تواطؤ مخرجين اقتبسوا للسينما نصوص أدبية، فكان نزول أدباء معتمدين إلى عالم السينما، وبات اقتباس السينما للأعمال الأدبية أمر طبيعي، وإن كان العديد من كبار الأدباء من ظل يأبى الدخول في هذه العملية التحويلية، مقاومين إغرائها الماكر، ورافضين تعميدها والاعتراف بها كأدب يوازي الأدب المعتمد، لكن التصاق السينما بالأدب ونجاحها في ترجمة البلاغة الكتابية التخيلية إلى وهج الإيهام ومكر الصورة والصوت، فتح الباب على أقصاه مرحبا بالكتاب، وخصوصاً الروائيون الذين يستأثرون بنصيب الأسد في هذا الاحتكاك (دوس باسيوس/شتاينيك/فولكنر/هيمنجواي/نجيب محفوظ...)، الذين تحولوا إلى طرق سردية، بموجهات سينمائية، ليصبح الفن الروائي والسينمائي يحلقان على نفس المستوى من تمثل الخطابات الحكائية. إن الخطوات الأولى والبدايات الممهدة لظهور السينما قبل أن يشتد عودها، تشكلت نتيجة عمليات تحويل الروايات والمسرحيات في شكل كان يطرح المخاوف والتساؤلات حول موقع المؤلف من عملية التحويل، خصوصاً أن التجارب الأولى للاقتباس شهدت إغفالات وانتهاكات للأعمال الأدبية، تسببت في اضطرابات نتجت عنها ردود فعل متباينة من لدن الجمهور، والآن تبدو عملية التحويل وقد تجاوزت هذا الوضع إلى أخر، حيث أصبح المنتجون يطمحون لفترة تصالح وأصبحوا مخلصين للعمل الأصلي قدر إمكانهم، وبرز وعي جديد للتعامل مع السينما الأدبية. إن الفيلم بخلاف الرواية لا يملك اللغة المحكومة بقوانين منسقة وقواعد وعلم نحو وصرف وبناء الجمل، الفيلم - كما يرى بازوليني - فعال في تعبيره عن الرؤية أكثر من كونه وسطاً لتوصيل أفكار مركبة، أما الأدب فهو مرتبط ببنى وتراكيب من القواعد اللغوية منذ مئات السنين ووسط متجانس وملائم أكثر لتلك الأفكار، والواقع أن الصورة الذهنية في الأدب يترجمها خيال القارئ إلى صورة بصرية، وتترجمها السينما إلى صورة مرئية، والصورة المرئية في السينما أيضاً يجب أن تخاطب الذهن وتستثير الحواس وتترجم إلى صور ذهنية يستوعبها العقل بعد الرؤية، فالرواية تعتمد على نظام من الإشارات اللفظية، بينما الفيلم يعتمد على البصري والسمعي واللفظي، اللغة الأدبية حافلة بالمجازات والرموز والتشبيهات، أما الصورة الأدبية - كما تقول فرجينيا وولف - تستدعي العديد من الإيحاءات، ليست الإيحاءات البصرية إلا واحدة منها، حيث ترى «أن نتائج تحويل التعبير اللغوي إلى صور مرئية تكون خطيرة بالنسبة لهما معاً، والخلاف بينهما على قدر من الاتساع لا يمكن تجاوزه، فاللغة لها قوانينها الخاصة بحيث لا يمكن فصل الشخصيات الأدبية عن اللغة التي تشكلها».3 يقدم الفيلم السينمائي إمكانات كثيرة يجب استغلالها، ولكن الشكل الغريب لهذا الفن يحتوي على عوائق كثيرة، تقف في سبيل تحقيق كل إمكاناته بنجاح، وبالرغم من أن الفيلم يحتوي على وسائل عديدة للتعبير، فهو يفتقر إلى بعض أو أغلب الوسائل الجوهرية، فبالرغم من أن لديه إمكانات تقديم شخصيات عديدة، فهو يفتقر إلى الوسيلة الأساسية لرسم الشخصية ووصف الأفكار، وبالرغم من قدرته على عرض أحداث فإنه يجد صعوبة في توضيحها، لأن الجمل الوصفية أو التفسيرية لا تساعده، وبالرغم من أن لديه القدرة على اختبار المشاهد فهناك صعوبة في ربط هذه المشاهد، وبالرغم من قدرته على أن يروي قصة ممتدة ومتنوعة فهو مقيد بمساحة، وتعلل كل هذه الأشياء السبب الذي يجعل الكاتب يقوم بدراسة طبيعية للفيلم بحرص، وذلك لكي يتعلم كيفية التغلب على قيوده).4 إن اللغة الأدبية تقوم على الحروف والكلمات، أما السينما فسمعية ومرئية تعتمد على الكاميرا والإضاءة والمونتاج والصوت والموسيقى والألوان والملابس، بالتالي فإن الوصف اللفظي للشخصيات والأمكنة والأفكار لا يمكن نقلها إلى وسط آخر لا يعتمد على اللفظ، أما الرمز فيوجد في الفيلم كفكرة أكثر منه كصورة، السينما تقدم صوراً متتابعة تفرض نفسها على المتفرج بماديتها وليس باحتكامها إلى التجريد، إن تعاقب الصورة يخلق الحس الخاص بها والذي هو مستقل تماماً عن التراكيب المنطقية حتى عندما تحاول الأفلام أن تقدم قصة منطقية، فإن الصور تتجلى في سرعة هائلة إلى حد أن المتفرج بالكاد يجاري ما يفسر منطق الصور. إن عملية تحويل شكل فني إلى شكل فني آخر تؤدي بالضرورة إلى خلق عمل جديد تماماً، فعملية التحويل تولد شعوراً جمالياً يختلف تماماً عن ذلك الشعور الذي تولده قراءة الرواية، نظراً لاختلاف اللغة واختلاف الإمكانيات التعبيرية لكلا الوسطين، الاختلاف يكمن في أن محبّذي التوجه الأدبي يدافعون بشدة عن الرواية ويعتبرونها الأساس الذي لا بديل عنه، وأن الفيلم عاجز عن نقل إبداعها إلى صور، في الجانب الآخر هناك أولئك الذين يعتبرون السينما هاضمة لكل الخطابات الأخرى، وهي التي استطاعت أن تعبر عن أشياء تفوق تفاصيل الرواية دقةً وتوصيفاً كحركة الضوء، وفي مرّات مماثلة حاولت أن تجد صورة للصوت، فكيف لا يمكن أن تجد صوراً لمعنى الأدب. ويظهر أن الفيلم يحمل معه اختلافات تفرضها وسيلة التعبير نفسها فالتحرير أو (الكتابة) بالكاميرا يختلف عن التحرير أو (الكتابة) بالقلم، والتعبير الميكانيكي الذي تفرضه الكاميرا يختلف عن التعبير الأدبي، ولكن يظل هناك مسعى أكيد ورؤية واردة ومحاولة طموحة لتقترب الرواية من السينما، بأن تكون السينما أمينة على ما تقدمه لها الرواية من نصوص، وإن كانت هذه النوايا لم تتحقق بدرجة واضحة حتى الآن، مما حدا بأمبرتو إيكو يوما أن يطالب برفع اسمه من على الفيلم الذي حمل عنوان روايته (اسم الوردة)، وجعل نجيب محفوظ يتحفظ على العديد من الأفلام المقتبسة من رواياته، كما الروائي باتريك زوسكيند رافضاً فكرة تحويل روايته الشهيرة (العطر) حتى العام 2006. ومما لاشك فيه أن تحويل الأعمال الأدبية المعتمدة إلى أعمال سينمائية ملحقة، ما كان له أن يتم دون تغييرات فنية، لأن استيعاب الأفكار الأدبية ليس بالأمر الهين، فالسينما لم تنتزع شكلها الهجين إلا بمجهود أصحابها الذين استطاعوا تطويع مادة أدبية لها ثقلها الاعتباري والتاريخي، فكانت العديد من الأفلام الناجحة والمقتبسة من روايات، مثال رواية «ذهب مع الريح»، لكن في المقابل فقد كان النقد قاسياً على روايات وقصص لعظماء الكتاب على مر العصور نذكر على سبيل المثال: «أنا كرينينا» ل تولستوي، ورواية «الأخوان كارامازوف» لدستوفسكي» و»مدام بوفاري» لفلوبير. إن الاقتباس في الغالب يستند على ثلاثة جوانب، جانب يحضر فيه الفيلم أقل قيمةً من الرواية التي اقتبس منها، وهذا عمل بدون فائدة ومحكوم عليه بالفشل وإن حاول العكس، يضيع الرواية و الفيلم على حد سواء، جانب ثانٍ يكون الفيلم قريب من الرواية أو مساوٍ لها، من حيث القيمة الفنية، وهذا عمل في كفاية مطلوبة، ثم أخيراً الجانب الذي يتجاوز فيه الفيلم الرواية فنياً، ويحرك فيها شيئاً جامداً، وهذا هو الجانب الوحيد من الاقتباس الذي يتماشى والثقل الفني للرواية والسينما، فهو يأخذ من الرواية حكاية أو صورة أو فكرة، ثم يخضعها جراحياً لمبضع التصوير ويفتح أمامها العديد من إمكانات الاقتباس ضداً على رغبة الروائي، وهو الشكل الذي يترك مساحة كافية للمخرج كي يبدع ويغير، وإن كانت هذه الأريحية أحيانا توجع نرجسية الروائي وكبرياءه. ويبدو أن المشهد المغرب لم يخلوا من انعكاس هذه العلاقة بين السينما والرواية، أكاديميا، نزل العديد من الأدباء لخوض التجربة (مبارك ربيع/عبد الجبار السحيمي/إدريس الخوري/الطاهر بنجلون/سعيد علوش ...)، ونقديا، نزل العديد من الكتب (موقع الأدب المغربي من السينما المغربية) الصادر سنة 1989 من إنجاز خالد الخضري، وكتاب (الاقتباس: من المحكي الفيلمي إلى المحكي الروائي) للناقد حمادي كيروم، وإخراجا، عرفت السينما المغربية العديد من الاقتباسات المهمة نذكر منها: فيلم «شمس الربيع» للطيف لحلو، وهو عن قصة للروائي المغربي عبد الكريم غلاب، وفيلم «الزفت» للطيب الصديقي المأخوذ عن مسرحية «سيدي ياسين في الطريق» للطيب الصديقي نفسه، وفيلم «حلاق درب الفقراء» لمحمد الركاب المقتبس عن مسرحية تحمل نفس العنوان للكاتب يوسف فاضل، وفيلم «جارات أبي موسى» لمحمد عبد الرحمان التازي وهو مأخوذ عن رواية تحمل نفس العنوان للروائي المغربي أحمد التوفيق، وفيلم «درب مولاي الشريف» للحسن بنجلون المأخوذ عن رواية «الغرفة السوداء» للكاتب جواد مديديش، فيلم جناح الهوى لعبد الحق العراقي المأخوذ عن رواية لمحمد نيد علي بعنوان قطع مختارة، ثم فيلم يا خيل الله لنبيل عيوش المأخوذة عن رواية لماحي بنبين بعنوان نجوم سيدي مومن، وفيلم بولنوار للمخرج حميد الزوغي عن رواية بنفس العنوان للكاتب عثمان أشقرا... 1 مقتبس عن سبيجيل «الرواية وعين الكاميرا»، ص126. 2 علي شلش، النقد السينمائي. الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1971، ص 3. 3 روى آدمز ، لغة الصورة في السينما المعاصرة، ت. سعيد عبد المحسن الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992. ص 252. 4 يوجين فال، كتابة السيناريو. ت. مصطفى محرم، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة،1997، ص80.