إبراهيم أصلان كاتب مُقل لكن مؤثر. صدرت له في مطلع السبعينات مجموعة قصصية بعنوان “بحيرة المساء” كانت علامة بارزة في القصة القصيرة في مصر أعقبها بعد نحو عشر سنوات بروايته “مالك الحزين” التي تحولت إلي فيلم شهير بعنوان “الكيت كات”. وربما كان هذا الفيلم هو الذي جعل اسم إبراهيم أصلان يذيع بين الناس، بعد أن كان لا يعرفه سوى المهتمين بالأدب. أما آخر أعمال أصلان فقد صدر قبل أسابيع بعنوان “حجرتان وصالة”. في هذه “المتتالية منزلية” – كما أطلق عليها أصلان – يدخل صاحب “عصافير النيل” إلى العالم الداخلي لرجل مسن، ويحدثنا بحساسية مرهفة وسخرية لاذعة، مضحكة مبكية، عن تغير علاقات هذا الرجل بالناس والأشياء مع تقدمه في العمر. كتب أصلان هذه المتتالية بأسلوبه المقتصد المميز الذي يكثّف أكثر مما يشرح؛ وهو في حواره مع “دويتشه فيله” (للاستماع إلى المقابلة كاملة اضغط على الرابط في أسفل الصفحة) يكشف عن أثر الكاتب الروسي تشيخوف في اختياره لهذا الأسلوب، ويقول: “قرأت تشيخوف ككاتب مسرحي، وانبهرت به تماماً، وبدأت أستكمل قراءته والتعرف على عالمه بشكل فيه قدر من التكامل، فقرأت مختارات قصصية له كانت مترجمة بشكل جيد – أول قصة قرأتها له كان “موت موظف”، تلك القصة الشهيرة، وبمجرد ما قرأتها انتابني الإحساس بأني كاتب قصة قصيرة، وأن القصة القصيرة هي الإطار الذي من الممكن أن أودعه أحلامي وما يستوقفني من شئون هذا العالم الذي أعيش فيه.” “لا أريدك أن تقرأ، بل أن تسمع وترى وتشم” بعد تشيخوف قرأ أصلان هيمنغواي، وتأثر به أيضاً: “أحببته جدا ككاتب” يقول أصلان، ثم يضيف ل”دويتشه فيله”: “ولكن أنا ككاتب لي عوالمي الخاصة. ما دمت تعتمد على عينيك، فاللغة ليست الوسيط الأمثل لتقديم شيء مرئي، على عكس مشهد سينمائي أو لوحة. كل وسيط له امكاناته التعبيرية الخاصة، عندما يتعرف الكاتب على إمكانات الفنون البصرية في التعبير، مثل الفن التشكيلي أو السينما، فهو يغني الوسيط الذي يعمل به. ومن هنا أنا طول الوقت عندي سعي حثيث نقيض لفعل القراءة، لا أريد منك أن تقرأ، بل أريد لك أن ترى وتسمع وتشم وتتلمس. عندما تقدم بي العمر أعتقد أني استطعت أن أستقر على النبرة الملائمة لي وللعمل الذي أكتبه”. عندما يقول أصلان أن الرؤية بالنسبة له هي الأساس ككاتب، فقد يتخيل المرء أن من السهل تحويل نصوصه إلى مشاهد بصرية وإلى أعمال سينمائية. وقد تحولت رواية أصلان “مالك الحزين” إلى فيلم “الكيت كات” من إخراج داود عبد السيد، وهو فيلم اشتهر كثيراً واختير ضمن أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، كما تم حديثاً تحويل رواية “عصافير النيل” إلى فيلم من إخراج مجدي أحمد علي، وقد تم عرضه في مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله) هذا العام. بين الأدب والسينما أحب أصلان فيلم “الكيت كات” كما يقول في حديثه إلى “دويتشه فيله”، لأنه “حقق معادلة يسعى إليها معظم السينمائيين: صنع عمل فني به قيمة جمالية، وتحقيق نجاح جماهيري واسع. أحببت الفيلم رغم التغيرات التي لحقت بالرواية واستبعاد كل العناصر السياسية. وأعتقد أني كنت محظوظاً، المشاركون كانوا في أفضل حالاتهم. أما بخصوص رواية “عصافير النيل” فأنت تكتشف وأنت تقرأها أنها تتسم بتقنية سينمائية. المشاهد مرتبة حسب تصاعدها الدرامي وليس حسب تصاعدها الزمني. فمن الممكن أن تلتقي في مشهد شخصية ماتت في مشهد سابق. هذه السمة جعلت عديدين من كتاب السيناريو يعملون لتحويل الرواية إلى فيلم، ولكنهم لم ينجحوا. داود عبد السيد نفسه قرأها وكان معجباً بها جداً، لكنه أحس بهذه المشكلة. الرواية بها مناخ ريفي، وتحتاج إلى مخرج ذي جذور ريفية مثل مجدي أحمد علي، لهذا بُهر بها مجدي. لقد استطاع المخرج أن يصنع فيلماً جيداً جداً، ولكن بالطبع كاتب الرواية له ملاحظاته على الفيلم التي قد لا يرضى عنها.” عندما سألته عن هذه الملاحظات رفض أصلان الإفصاح عنها قائلاً: “لن أعلق، لأن الأفلام أنتجت وأصبحت ملكاً للمتفرج.” محفوظ يشهد له بموهبة “فريدة فذة” إبراهيم أصلان كاتب قصة قصيرة بالأساس، وهو عندما يكتب رواية يكتبها “بمزاج كاتب القصة”، مثلما يقول. وقد لا يعلم كثيرون أنه اتجه إلى الرواية بمحض الصدفة. حدث ذلك عندما علم عميد الرواية العربية نجيب محفوظ بظروف عمل أصلان في هيئة المواصلات السلكية واللاسلكية، فكتب له تزكية للحصول على منحة تفرغ للكتابة، قال فيها: “أصلان فنان نابه، مؤلفاته تقطع بموهبة فريدة وفذة ومستقبل فريد، ولمثله نشأ مشروع التفرغ، وعند أمثاله يثمر ويزهر”. فرح أصلان بالمنحة وأراد التفرغ لكتابة مجموعة قصصية جديدة، غير أنه اكتشفت أن شرط الحصول على منحة التفرغ هو كتابة رواية أو بحث، لا مجموعة قصصية، فقرر عندئذ كتابة رواية، وكانت الثمرة “مالك الحزين”. أصلان يعود دوماً إلى هذا الشكل الفني المحبب إلى قلبه، مثلما رأينا في “حكايات من فضل الله عثمان” أو “خلوة الغلبان”، أو في عمله الجديد “حجرتان وصالة”. مسئولية الدولة والإخوان عن الأحداث الطائفية في مقالته الجميلة “هذه المسائل الكبيرة” من كتابه “شيء من هذا القبيل” يقول إبراهيم أصلان: “إذا حدث وقرأت قصصاً لا تتعرض لأي من الأحداث أو القضايا الكبيرة التي نعيشها فلا تظن أن هذه القصص المعنية بصغائر الأمور كانت بمنأى عن هذه الأحداث الكبيرة أبدا. فالأحداث الكبيرة هي كبيرة فقط لأنها تصوغ وتلون المناخ أو المزاج العام الذي يعيش فيه الخلق من عباد الله، وهي تؤثر بالتالي أعمق التأثير في تفاصيل الحياة اليومية وفي طبيعة العلاقة العادية بين الإنسان ونفسه، وبالآخرين، وبالدنيا التي يعيش فيها. والسعي فنيا من أجل التعبير عن طبيعة هذه العلاقة الإنسانية، هو وظيفة الفنون جميعا.” ويستشهد أصلان بقصة “الخبز” للكاتب الألماني فولفغانغ بورشرت التي رأي فيها أصلان مثالا لقصة هي “تعبير رفيع عن ضراوة الحروب جميعا، دون كلمة مباشرة واحدة.” وكأن أصلان هنا يتحدث عن هدفه الفني ومسعاه في الأدب، فلن نجد في روايات وقصص صاحب “مالك الحزين” كلاماً عن الفساد أو الغلاء أو تدهور الأوضاع، مثلاً، لكننا نجد انعكاس هذا كله على شخصيات أعماله. وإذا كانت أعمال أصلان تبدو خالية من الهم السياسي المباشر، فإنه في حديثه لا يتجنب “القضايا الكبيرة”. عندما تحدثت معه عن الأحداث الطائفية الأخيرة التي اندلعت في نجع حمادي وغيرها، قال دون مواربة: “هناك بعض المؤسسات الرسمية مسؤولة عن هذا الأمر، مثل الإعلام والتربية والتعليم. أنت تعيش في ظل نظام جهول لا رؤية لديه، ولا يعمل من أجل الارتقاء بالمجتمع والنظر إلى المستقبل، نظام يستعين بإرضاء مشاعر العامة – هذه هي المأساة الحقيقية”. ويتابع الكاتب المصري الكبير قائلا: “الإخوان المسلمون لهم دور مؤسف، غير أني أتصور أن علاج هذه الحالة ميسور، إذا الإعلام استبعد كل الدعاة الذين يقبضون بالدولار، وخفتت مسألة الغزل والمزايدة الموجودة على الإخوان على حساب الناس الموجودة في الشارع، وهو ما حول مصر إلى شيء كئيب جداً ينذر بالخطر. لا ينفع أن يقبل البابا شنودة شيخ الأزهر، ثم يتوكل كل منهم على الله”. “الحكام يوظفون سيكولوجية الشعوب لصالحهم” أما بخصوص توريث الحكم في مصر، فيقول صاحب “خلوة الغلبان”: “هناك إصرار على أن يتم توريث البلد بالفعل، عبر بنود معينة في الدستور تقف حائلاً في طريق كل شخصية راغبة في أن ترشح نفسها. هناك إصرار. وسوف يُقال إن جمال مبارك من حقه أن يترشح مثل أي مواطن، ثم يتم تزوير الانتخابات، كما هو الشأن دائماً.” هذه العبارة تجعلني أسأله: ولماذا لا يعارض الناس ذلك، لماذا لا يثورون؟ فنحن إذا استثنينا ثورة 1919 نجد أن الشعب المصري لم يخرج خلال تاريخه الحديث في ثورة حقيقية. حتى 1952 لا يمكن اعتبارها ثورة شعبية. في 1977 حدثت انتفاضة ومظاهرات، ولكن لم تحدث ثورة. عديدون يعتبرون الوضع الآن أسوأ مما قبل 1952 وأيام 1919، ومع ذلك هناك حالة من قبول الأمر الواقع. يطرق أصلان متأملاً لدى سماعه هذه العبارات، ثم يقول: “آه، آه، مشكلة، مشكلة. هناك شيء اسمه سيكولوجية الشعوب، نعم، هناك شيء اسمه كذلك”. ثم يضيف بعد برهة: “والأنظمة والحكام في مصر يدركون هذا ويعملون على أساسه”.