في هذا الحوار المطول نبش في جانب من تاريخ أحمد سيجلماسي السينمائي منذ مرحلة الطفولة ، وإثارة لبعض القضايا المرتبطة بالنقد والصحافة السينمائيين وبواقع السينما بالمغرب والحركية الملحوظة على مستويي إنتاج الأفلام وتنظيم التظاهرات السينمائية ، وتعرف على انطباعاته فيما يخص سينما الألفية الثالثة بالمغرب وأمور أخرى . المدرسة وحب السينما وفنون أخرى o الأستاذ أحمد سيجلماسي ، حدثنا بداية عن علاقتك بالسينما وأنت طفل بفاس ! n عندما أعود بذاكرتي إلى مرحلة الطفولة ، خاصة عندما كنت تلميذا بمدرسة باب ريافة الإبتدائية (قرب جنان السبيل) في أواخر الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي ، تمر أمام عيني لقطات ومشاهد من أفلام شارلي شابلن ولوريل وهاردي وباستر كيطون وغيرها كنا نشاهدها داخل قسم عادي بعد إحضار الأفلام وآلة العرض (16 ملم) وإغلاق النوافذ والستائر السوداء اللون . هذه الصور السينمائية الصامتة والمتحركة ، كنا كتلاميذ صغار من القسم الثالث وما بعده نتفاعل معها بعفوية في جو من الضحك والمرح الطفوليين ، وكانت حصص هذه العروض السينمائية الأسبوعية بمثابة متنفس لنا داخل مؤسسة تعليمية يطبعها طابع الصرامة والجدية وتتقاسمها في الغالب عقليتان لدى أسرة التدريس : عقلية جل معلمي اللغة العربية الذين كانوا يكرهوننا على الحفظ (القرآن الكريم والمحفوظات وقواعد النحو إلخ ..) ويعاقبوننا جسديا ومعنويا في حالات الإخلال بواجباتنا المدرسية ، وعقلية بعض معلمي الفرنسية الذين كانوا يوظفون السينما والمسرح والموسيقى والرسم وغيرها من الفنون في تمكيننا من اللغة الفرنسية نطقا وكتابة وإلقاء ، وكانوا يشرفون على تنظيم مسابقات مختلفة في بعض المناسبات وخصوصا في نهاية الموسم الدراسي . لازلت أذكر كذلك أول وقوف لي على خشبة مسرح سينما أمبير في موسم 1959/1960 رفقة معلمنا موسيو سيريوا ، اليهودي الديانة ، وثلة من تلاميذ القسم الثالث وهو يديرنا كمايسترو أثناء أدائنا لنشيد بالفرنسية أمام لجنة تحكيم في إطار مسابقة بين المدارس . لقد زرع فينا هذا المعلم وغيره حب السينما والفنون الأخرى ، ولازلت لحد الآن أحفظ عن ظهر قلب الكثير من الأناشيد التي كان يدربنا على إلقائها وحفظها في بداية كل حصة دراسية معه . زد على ذلك أن مدير المدرسة موسيو غران جان كان متفتحا هو الآخر ويتعاطف مع التلاميذ ويشجعهم على اكتشاف مواهبهم الرياضية والفنية وغيرها . لقد انفتحت على الفنون وقراءة القصص منذ السنوات الأولى في مدرستنا العمومية « باب ريافة « ، ومما عزز ارتباطي بالقراءة ومشاهدة الأفلام في هذا السن المبكر هو تواجد العديد من المراكز الثقافية العربية والأجنبية بالقرب من المدرسة ، وهذه المراكز كانت تقدم لنا خدمات كثيرة بالمجان . ففي طريق العودة من المدرسة إلى منزلنا بحي « قصبة النوار» (قرب باب بوجلود) مرورا بساحة البطحاء ، كنت أزور رفقة بعض أصدقاء الدراسة المركز الثقافي المصري أو البريطاني أو الأمريكي ، المتمركزون آنذاك في حي البطحاء وما جاوره ، وكنا نستفيد يوميا أو أسبوعيا من قراءة كتبهم ومنشوراتهم ونشاهد أفلامهم (من أشهرها عند المصريين سلسلة الأطفال « زوزو « وقصص إبراهيم الأبراشي وأفلام إسماعيل ياسين وغيرها ، وعند البريطانيين مجلة « هنا لندن « في نسختها العربية ...) . وبعد التعود على مشاهدة الأفلام في المدرسة والمراكز الثقافية المصرية والبريطانية والأمريكية والفرنسية انفتحت رفقة أصدقاء الحي على القاعات السينمائية الشعبية (بوجلود ، الهلال ، الأندلس ، الملكية ) في مطلع الستينات عندما تجاوزت العاشرة من العمر ، وأصبحت مدمنا على مشاهدة الأفلام الأمريكية (رعاة البقر ، أفلام البيبلوم ، أفلام الحركة والمغامرات عموما... ) والأفلام المصرية (البدوية ك « رابحة « و « عنترة بن شداد « ، والدينية / التاريخية ك « ظهور الإسلام « و « الناصر صلاح الدين « ... ، والاستعراضية كأفلام فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وغيرهما ...) والأفلام الهندية (من بطولة ديليب كومار وشامي كابور وغيرهما ..) وبعض الأفلام الأروبية الفرنسية والإيطالية بشكل خاص . وعندما انتقلت إلى الإعدادي بملحقة ثانوية مولاي إدريس (مدرسة شارع السلاوي حاليا) بالمدينة الجديدة من 1963 إلى 1965 انفتحت على قاعات سينمائية أخرى كأمبير وأسطور وبيجو وقوس قزح وأبولو ولوكس ولوباريس (سينما الهواء الطلق بزنقة كوني ) . كنت كلما شاهدت فيلما جديدا أحكي قصته بالتفاصيل لأصقائي في الحي على شكل حلقة ليلية بدرب الساحة (قصبة النوار) ، وفي هذه الفترة كنت كذلك مولعا ب « الحلاقي « (فضاءات باب الماكينة ، باب الساكمة، باب فتوح ، بوجلود ... ) وبرواة السير (كالأزلية والعنترية) وقصص « ألف ليلة وليلة « وعلى رأسهم « براق العيار سابق الطيار « ، كما كنا نسميه ونحن يافعين . أفلام كثيرة نقشت في ذاكرتي o ماهي الأفلام العالمية والمغربية التي نقشت في ذاكرتك ؟ n الأفلام العالمية التي نقشت في ذاكرتي كثيرة جدا يصعب إحصاؤها، فقد شاهدت أفلاما مختلفة ومتنوعة من كل الأصناف والأجناس والجنسيات . وقد اختلف إعجابي بها باختلاف المراحل العمرية . ففي مرحلة الطفولة (مرحلة الإبتدائي) أعجبت ولازلت لحد الآن بأفلام فيلسوف السينما العالمية شارلي شابلن ، وفي مرحلة الإعدادي كنت ميالا أكثر لأفلام البيبلوم (أي الأفلام التي تستلهم قصصها من الأساطير اليونانية القديمة وأبطالها المشهورين كهرقل وعوليس وغيرهما أو من التاريخ الروماني القديم وحروبه ومعاركه أو من سير بعض الشخصيات الدينية كعيسى وموسى عليهما السلام ...) والأفلام الهندية وخصوصا التي دبلجها الراحل إبراهيم السايح إلى العربية الدارجة ومن أشهرها فيلم « منكلا البدوية « و « أمنا الهند « من إخراج محبوب خان ، وكذلك أفلام النجمين الهنديين شامي كابور وديليب كومار وغيرهما كثير ، والأفلام الاستعراضية العربية من بطولة عبد الحليم حافظ (بشكل خاص) وفريد الأطرش وفيروز وصباح وماهر العطار ومحرم فؤاد وسميرة توفيق ... عندما انتقلت إلى التعليم الثانوي وقع تحول في اختياراتي للأفلام بتأثير من بعض أساتذة اللغة الفرنسية ، الذين كانوا يوجهوننا كتلاميذ لمشاهدة بعض الأفلام ذات القيمة الفنية والفكرية (أفلام الموجة الجديدة الفرنسية نموذجا أو الأفلام السياسية ك « ساكو وفانزيتي « و « الإعتراف « و « القضية ماتيي « ...) . وتعزز هذا التحول عندما انخرطت لأول مرة سنة 1969 في نادي سينمائي كان معروفا بفاس وخارجها آنذاك هو « نادي الشاشة « ، وبفضل عروض هذا النادي ومناقشاته للأفلام تعرفت على سينمات وأفلام لم أكن أعرفها من قبل لسبب بسيط هو أن معظمها لم يكن بالإمكان مشاهدتها في القاعات التجارية . ومنذ لحظة الاحتكاك الأولى بحركة الأندية السينمائية أصبحت أهتم بالسينما لا كفرجة فحسب بل كثقافة وإبداع فني كذلك . وفي هذا الإطار شاهدت روائع سينمائية من توقيع مخرجين كبار من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والسويد وأروبا الشرقية والإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكة وأمريكا اللاتينية وبعض الدول العربية من ضمنها المغرب الذي اكتشفنا بعض مخرجيه الكبار فيما بعد كأحمد البوعناني (طرفاية أو مسيرة شاعر ، ستة وإثنا عشر ، الذاكرة 14 ، السراب ...) وحميد بناني (وشمة) وأحمد المعنوني (أليام أليام ، الحال ) والجيلالي فرحاتي (جرحة في الحائط ، عرائس من قصب ...) ومحمد الركاب (حلاق درب الفقراء ) ... قبل وبعد الإنخراط في النوادي السينمائية o لنركز على فترة السبعينات ، حدثنا عن تنامي الوعي بالفن السينمائي من خلال الأندية السينمائية ؟ n قبل الإنخراط في النوادي السينمائية بفاس انطلاقا من موسم 1969/1970 (نادي الشاشة) وما تلاه من مواسم أخرى (نادي 72 ، نادي الفن السابع ، نادي إيزنشتاين ) وصولا إلى مساهمتي في تأسيس « نادي الركاب للسينما والثقافة « في مطلع التسعينات من القرن الماضي ، كان اهتمامي بالسينما وأفلامها يرتكز بالأساس على الفرجة وتتبع أخبار الممثلين والممثلات وجمع صورهم وقراءة المجلات السينمائية والفنية العربية (الكواكب ، الموعد ...) والفرنسية (مجلة السينما ، سينما العالم ...) . وكنت حينها أحفظ عن ظهر قلب (ولازلت لحد الآن) جل أسماء نجوم السينما العربية (المصرية واللبنانية أساسا) والهنديةوالأمريكية والأروبية بحكم طبيعة الأفلام التي كانت تعرض بنجاح بالقاعات السينمائية في عصرها الذهبي منذ الخمسينات إلى منتصف الثمانينات . وبعد انخراطي في الأندية السينمائية والمواضبة على الاستفادة من عروضها المختلفة وحضور مناقشات الأفلام وبعض الأنشطة الثقافية المرتبطة بها (كالندوات واللقاءات المفتوحة مع المبدعين وأسابيع السينما الفلسطينية والبولونية والسويسرية وغيرها ) بدأت ثقافتي السينمائية تتشكل شيئا فشيئا إلى أن أصبحت قادرا على تذوق الفن السينمائي الرفيع والتمييز بين الأفلام و اللا أفلام . كما تحول اهتمامي من التركيز على الممثلين فقط إلى التقرب من عوالم المخرجين الإبداعية ومحاولة الوقوف على ما يميز بعضهم عن البعض الآخر على مستوى الكتابة السينمائية . ومما زاد في تعميق معرفتي بمختلف المدارس والإتجاهات السينمائية العالمية وبخصوصيات المبدعين الكبار كتروفو وغودار ودي سيكا ويوسف شاهين وساتيا جيت راي وصلاح أبو سيف وبولانسكي وفاجدا وبيرغمان وهيتشكوك وغيرهم كثير قراءاتي للكتب والمجلات السينمائية الرصينة (ك « دفاتر السينما «، الفرنسية ، و» الحياة السينمائية « ، السورية ، و» لام ألف « (لا) ، المغربية ، وغيرها) خصوصا بعد أن أصبحت طالبا جامعيا في العلوم الإقتصادية بكلية الحقوق بالدارالبيضاء أو في الفلسفة وعلم الإجتماع وعلم النفس بكلية الآداب (ظهر المهراز) بفاس ، بالموازاة مع عملي كأستاذ للرياضيات بالإعدادي من 1973 إلى 1982 . لقد شكلت الأندية السينمائية ، بالنسبة لي ولغيري من عشاق السينما وثقافتها ، مدرسة حقيقية تعلمنا فيها أبجديات اللغة السينمائية وتقنيات التنشيط الثقافي السينمائي وأساليب التدبير الجمعوي ، واستمتعنا عبر برامجها المتنوعة بروائع السينما العالمية ، واستأنسنا من خلال أنشطتها ونشراتها المختلفة بتقنياتها السينما ومهنها ومصطلحاتها وغير ذلك . الأندية السينمائية والإرهاصات الأولية للنقد السينمائي o هل يمكن إعتبار حركة الأندية السينمائية ، التي غطت أنشطتها جل المدن المغربية وبعض المراكز القروية ، بمثابة المرجعية الأساسية للنقد السينمائي ببلادنا ؟ n مما لاشك فيه أن الإرهاصات الأولية للنقد السينمائي المغربي تشكلت داخل الأندية السينمائية منذ الستينات مع الفيدرالية الوطنية ثم بعد ذلك مع الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب (جواسم) التي تأسست سنة 1973 . فهذا النقد ظل شفويا لعدة سنوات داخل الأندية السينمائية وبدأ يتبلور تدريجيا على شكل نصوص مكتوبة بالفرنسية أو العربية نشرت في الجرائد الوطنية ونشرات الأندية الموسمية وبعض المجلات القليلة ك « الشاشة المغربية « (في النصف الأول من عقد الستينات) و» لام ألف « (200 عدد من 1966 إلى 1988) و» سينما 3 « (أربعة أعداد سنة 1970) و» دراسات سينمائية « (13 عددا من 1985 إلى 1991) ... ويمكن القول إجمالا أن جل نقاد السينما المغاربة تربوا في أحضان حركة الأندية السينمائية .. منهم من استمر في تغليب النقد الشفوي في التظاهرات السينمائية ، ومنهم من دخل مغامرة النشر الورقي أولا على صفحات الجرائد والمجلات داخل الوطن وخارجه ثم الإلكتروني لاحقا ، ومنهم من أعد أو نشط أو أنتج برامج سينمائية للإذاعة والتلفزيون ، ومنهم من أصدر كتبا سينمائية ... o كيف إذن إنخرطت في مجال النقد السينمائي ؟ n كغيري من النقاد المغاربة مارست النقد الشفوي في البداية ، وفي منتصف الثمانينات انطلقت تجربتي في النشر الورقي مع جرائد « الاتحاد الإشتراكي « و « العلم « ومجلة « دراسات سينمائية « وغيرها على شكل مواكبات صحفية لأنشطة بعض الأندية السينمائية أو بعض التظاهرات هنا وهناك أو على شكل ترجمات من الفرنسية إلى العربية لمقالات ذات منحى تأريخي لها علاقة بالسينمات الهندية والمصرية والمغاربية وغيرها ، وكنت من حين لآخر أنشر بعض القراءات المركزة في أفلام وتجارب سينمائية مغربية أو بعض الأوراق التعريفية بالمخرجين والممثلين المغاربة وغيرهم بمناسبات تكريمهم . كما واكبت نقديا العديد من البرامج التلفزيونية والإذاعية (خصوصا السينمائية والفنية منها) وعبرت من خلال بعض المقالات عن وجهات نظري في واقع الممارسة السينمائية ببلادنا . ولازلت لحد الآن ، لكن بكثافة أكثر مقارنة مع الماضي ، أواكب مستجدات الساحة السينمائية الوطنية ، ورقيا وإلكترونيا ، بحكم ارتباطي بكثير من التظاهرات السينمائية كمسؤول إعلامي ، وأحاول من حين لآخر التوثيق والتأريخ لبعض جوانب تاريخنا السينمائي . o لنتحدث بصراحة ، هل لدينا فعلا في المغرب نقد سينمائي محترف وأكاديمي ؟ n من الصعب الحديث عن نقد سينمائي محترف بالمغرب وذلك لأن جل الممارسين له بمستوياته المختلفة (الإنطباعي ، الصحفي ، التأويلي، الأكاديمي ...) هم هواة أوعشاق للسينما وثقافتها ، لأنهم لا يعيشون من مردوديته إن كانت له فعلا مردودية . فما دامت الممارسة السينمائية ببلادنا لم تتأسس بعد كممارسة احترافية بالمعنى الحقيقي للكلمة أي كصناعة تراهن على السوق ويتحكم فيها منتجون خواص حقيقيون ، فسيظل وضع الناقد السينمائي كوضع الممثل أو المخرج أو التقني أو غيرهم من الفاعلين في حقل السينما ، لا يتحرك الواحد منهم إلا عندما يتوفر دعم الدولة باعتبارها المحرك الأول والأساسي لعجلة الإنتاج وتنظيم المهرجانات وإصدار المنشورات وغير ذلك . ورغم غياب الناقد السينمائي المحترف ، الذي يعيش من مهنته كناقد سينمائي (أو فني) ومن الخدمات الثقافية التي يقدمها لفائدة منبر إعلامي ورقي أو إلكتروني أو إذاعي أو تلفزيوني أو غيره ، فلا تخلو الساحة السينمائية المغربية من نقاد وباحثين حقيقيين لهم حضور منتظم واطلاع واسع على تاريخ السينما وما يرتبط بها من معرفة وتتميز كتاباتهم وتدخلاتهم بالرصانة والعمق . إلا أن النقاد الذين عرفوا بانتظاميتهم في الكتابة والنشر على امتداد ثلاثة عقود على الأقل ، كما عرفوا بغزارة كتاباتهم بالفرنسية أصلا وأحيانا بالعربية (الصديقين أحمد عريب ومحمد باكريم نموذجان) وارتباطهم بالعديد من المنابر الإعلامية (جرائد ومجلات) بمقابل مادي على امتداد تاريخهم النقدي ، يحسبون على رؤوس أصابع اليد الواحدة . أما الغالبية العظمى ممن مارسوا الكتابة النقدية السينمائية في فترة من فترات حياتهم الثقافية والجمعوية فقد ظلت كتاباتهم موسمية ومتقطعة ، وجلهم إن لم نقل كلهم لم يتقاضوا تعويضا ماليا عن نشرها ، والكثيرون منهم توقفوا عن الكتابة لسبب من الأسباب . مجال النقد شأنه شأن مجالات التشخيص والإخراج وتنفيذ الإنتاج وباقي التخصصات التقنية السينمائية الأخرى ، فيه المتخصصون والموهوبون والمتمكنون وفيه الدخلاء والمتطفلون ومن لا مهنة لهم أصلا . o النقد السينمائي يتطلب منابر خاصة ، مارأيك في الصحافة الورقية الخاصة بالنقد السينمائي ؟ n الصحف والمجلات الورقية المتخصصة في النقد والثقافة السينمائيين بالمغرب شبه منعدمة ، فباستثناء « المجلة المغربية للأبحاث السينمائية « ، التي أصدرت منها « الجمعية المغربية لنقاد السينما « لحد الآن ثلاثة أعداد بدعم من وزارة الإتصال ، الأول في دجنبر 2013 والثاني في أبريل 2014 والثالث في نونبر 2014 ، وباستثناء مجلة « سينفيليا « (صدر منها ابتداء من أواخر سنة 2014 عددان ورقيان) ، وباستثناء المجلة السنوية « وشمة « التي تصدرها جمعية أصدقاء السينما بتطوان ، لا توجد مجلات سينمائية أخرى أو جرائد أو نشرات متخصصة في الفن السابع . فحتى الصفحات السينمائية التي اشتهرت بها العديد من جرائدنا الوطنية في السبعينات والثمانينات وما بعدها توقفت ولم تصمد منها إلا صفحات قليلة لعل أشهرها الصفحة الأسبوعية لجريدة « العلم « التي يشرف عليها حاليا الصديق الشاب الصحفي والمخرج السينمائي التهامي بورخيص وصفحة جريدة « الرأي « (بالفرنسية) التي يحررها أسبوعيا الناقد والمؤرخ السينمائي المغربي أحمد عريب وصفحة جريدة « البيان « (بالفرنسية) التي يشرف عليها الناقد والصحافي محمد باكريم . وواقع اليوم لا يختلف كثيرا عن واقع الأمس ، وذلك لأن المغرب لم يشهد في تاريخه السينمائي صدور إلا عدد محدود جدا من المجلات السينمائية من بينها : « الشاشة المغربية « (في منتصف الستينات) و « سينما 3 « (أربع أعداد فقط سنة 1970) و» دراسات سينمائية « (13 عددا من 1985 إلى 1991) و « سين . ما « و « سينماك « وغيرها ، بالإضافة إلى مجلات أخرى تحضر فيها السينما إلى جانب فنون أخرى من بينها « فيزيون « و» سيني مسرح « و « سينما وتلفزيون « وغيرها ... كل هذه المجلات أو الصفحات السينمائية كان وراءها جمعويون وعشاق للسينما ومتطوعون من حركة الأندية السينمائية وغيرهم ، ولم تكن وراءها مؤسسات إعلامية قوية ومحترفة ، ولهذا لم تعمر طويلا كل هذه التجارب . زد على ذلك أن المجتمع المغربي ليس مجتمعا قارئا ، فكيف يمكن ضمان استمرارية هذه المنشورات وغيرها ؟ o يغلب على النقد أنه سينمائي وليس سينمائي تلفزيوني ؟ لماذا ؟ n في السابق كان الممارسون للنقد السينمائي يقللون من شأن التلفزيون وإنتاجاته بحكم أن إبداعات السينما أكثر عمقا وقوة ولها قدرة على الصمود زمنيا ، وأن الأفلام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية وغيرها غالبا ما يتم نسيانها بعد عرضها على الشاشة الصغيرة . ورغم هذه النظرة الدونية لإنتاجات التلفزيون فقد شهد التاريخ النقدي المغربي اهتماما بالسينما والتلفزيون معا من طرف ثلة من النقاد المغاربة . فأنا شخصيا نشرت العديد من المقالات النقدية حول برامج التلفزيون وحررت ركنا أسبوعيا بعنوان « مآخد « ، عندما كنت متعاونا خارجيا مع صفحتي جريدة « العلم « : « عين على التلفزة « و « العلم السينمائي « من 1989 إلى حدود أواخر التسعينات من القرن الماضي ، قبل أن أرتبط بجريدة « الأحداث المغربية « بعد انطلاقتها سنة 1998 والتي كنت أزودها بمواد ركن أسبوعي يحمل عنوان « مفارقات سينمائية « ومواد أخرى سينمائية وتلفزيونية . ففي صفحة « عين على التلفزة « نشرت العديد من المقالات النقدية حول برامج مشهورة ، أثار بعضها ردود فعل عنيفة أحيانا من طرف المشرفين على تلك البرامج (برنامج « ذاكرة المدن « نموذجا) ، كما واكبت إعلاميا مختلف البرامج التلفزيونية (في القناتين الأولى والثانية) التي كانت تهتم بالسينما كبرنامج « الشاشة الكبرى « ، الذي كان يشرف عليه الناقد السينمائي الراحل محمد الدهان (1953 - 2013) من 1987 إلى 1990 بالقناة الأولى ، و برامج « ترافلينغ « (فاطمة التواتي) و « زوايا « (إدريس اشويكة) و» صورة « (فوزية زين الدين) و» عالم السينما « و « كاميرا الأولى « و « شاشات « (عبد الإله الجوهري) وغيرها . حاليا تقلصت المسافات بين السينما والتلفزيون ، بحكم الثورة التي شهدتها تكنولوجيا الإعلام والتواصل ، وأصبح بالإمكان إنتاج أعمال قابلة للإستغلال سينمائيا وتلفزيونيا في نفس الوقت . ونتيجة لهذه التحولات التكنولوجية الهائلة تقوى التعاون بين السينما والتلفزيون وأصبح المخرجون يشتغلون في المجالين معا مع مراعاة خصوصيات كل منهما ، كما أصبح النقد يجمع بين ما هو سينمائي وتلفزيوني . o ألا تفكر ، أستاذ سيجلماسي ، في إصدار كتب في مجال النقد السينمائي ؟ n أنا الآن بصدد الإعداد لإصدار مجموعة من الكتب الصغيرة الحجم (كتب جيب) تباعا ضمن سلسلة « المغرب السينمائي « أحاول من خلالها تصريف ما راكمته من معطيات وأفكار على امتداد أكثر من ثلاثة عقود من المواكبة شبه اليومية للشأن السينمائي ببلادنا . وهذه السلسلة التي ستنطلق سنة 2015 ، بحول لله ، بكتابين توثيقيين الأول بعنوان « محمد مزيان : سينمائي وحيد ومتمرد « (بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيله يوم 20 يناير 2005) والثاني بعنوان « ممثلات وممثلون : بيوفيلموغرافيات مغربية « ، تدخل في إطار مشروع للتأريخ الشمولي للظاهرة السينمائية بالمغرب (الفيلموغرافيا ، القاعات السينمائية ، المنشورات ، الفاعلين السينمائيين ، حركة الأندية السينمائية ،... إلخ ... ) . هذا مع العلم أنه صدر لي سنة 1999 كتيب بعنوان « المغرب السينمائي : معطيات وتساؤلات « ، ضمن سلسة كتب الجيب « شراع « (العدد 65) التي كان يصدرها ويشرف عليها الإعلامي الكبير خالد مشبال ، بالإضافة إلى مشاركتي في الكتب الجماعية التالية : « إدريس الروخ : ولد البلاد « (2014) و « سينما سعد الشرايبي : بنياتها ودلالاتها « (2013) و « سينما أحمد المعنوني : الإنتساب الواقعي والبعد الجمالي « (2011) و « نور الدين كشطي : حلم وعشق ... ورحيل مفجع « (2011) و» سينما مومن السميحي : قلق التجريب وفاعلية التأسيس النظري « (2010) و « أسئلة النقد السينمائي المغربي « (2009) و» المكونات الجمالية والفكرية لسينما محمد عبد الرحمان التازي « (2009) و « سينما داود أولاد السيد: المرتكزات والخصوصية « (2007) و» التاريخ والسينما « (1993) . o كلمة أخيرة للنقاد السينمائيين المغاربة .. n بما أن هناك جمعية مغربية لنقاد السينما يترأسها الأخ خليل الدمون منذ سنوات ، أتمنى أن تدرج هذه الجمعية في مشاريعها المستقبلية ، بالإضافة إلى مختلف أنشطتها وإصداراتها (المجلة والكتب ) ، إحداث موقع إلكتروني متطور لتجميع ذاكرة النقد السينمائي المشتتة في مختلف المنابر الإعلامية (الورقية والمسموعة والمرئية والإلكترونية وغيرها) بدءا بأعضائها ،وذلك لتمكين الباحثين في المثن النقدي المغربي من الإطلاع على مختلف نصوص النقاد القديمة والجديدة وتقييمها في مختلف مراحلها التاريخية . كما أتمنى أن يعمل باقي النقاد غير المنضوين تحت لواء هذه الجمعية المذكورة على تجميع كتاباتهم وإصدارها في كتب أو على الأقل تدوينها وتوثيقها في مدونات إلكترونية حفظا لها من الضياع ، كما فعل الناقد والباحث الصديق محمد الدهان (1953 - 2013) قبل رحيله بسنوات معدودات انطباع عام حول الحركية السينمائية الحالية o أنتم من الأسماء البارزة في مواكبة الحركية السينمائية التي يشهدها المغرب من شماله إلى جنوبه ، ماهو إنطباعكم العام حول هذه الدينامية ؟ وهل يمكن الحديث عن جوانب إيجابية وأخرى سلبية فيها ؟ o يبدو للمتتبع لمشهدنا السينمائي أن السنوات الأخيرة شهدت انتعاشة ملحوظة في إنتاج الأفلام الطويلة والقصيرة ، وفي تنظيم التظاهرات السينمائية المختلفة ، بحيث أصبح النشاط السينمائي طاغيا إلى حد ما على باقي الأنشطة الفنية المسرحية والغنائية وغيرها .. فعلى سبيل المثال اقترب العدد الإجمالي للمهرجانات والتظاهرات السينمائية المنظمة سنة 2014 ببلادنا ، من أصغرها إلى أكبرها وهو مهرجان مراكش الدولي للفيلم ، من رقم المائة . كما أنتج المغرب في العشرية الأخيرة (2003 ? 2013) ما يفوق نصف الأفلام الطويلة التي راكمها في تاريخه السينمائي الفعلي منذ 1956 إلى 2013 أي 167 فيلما من مجموع 308، لأنه أصبح ينتج سنويا ما بين 10 و 20 فيلما سينمائيا طويلا وما بين 40 و100 فيلم قصير . هناك تطور تصاعدي مستمر في وتيرة إنتاجنا السينمائي نلاحظه من عشرية لأخرى ، وسببه يرجع بالأساس إلى سياسة الدولة منذ سنة 1980 في دعم الإنتاج السينمائي الوطني وما شهده الغلاف المالي المخصص لدعم السينما من زيادات . وبفضل هذه السياسة أصبح المغرب ، من حيث إنتاج الأفلام ، في المراتب الأولى إفريقيا وعربيا إلى جانب مصر وجنوب إفريقيا . لكن ، هذه السياسة لم تمكن المغرب لحد الآن من خلق صناعة سينمائية قائمة الذات كالصناعة المصرية مثلا ، إذ يكفي أن توقف الدولة دعمها لإنتاج الأفلام ، لسبب من الأسباب ، حتى ينهار كل شيء . ومن مفارقات العشرية الأخيرة أنه في اللحظة التي انتعش فيها إنتاج الأفلام شهد عدد رواد القاعات السينمائية تراجعا كبيرا بسبب تقلص عدد هذه القاعات وعوامل أخرى . فالعدد الحالي للقاعات ، إلى حدود 30 شتنبر 2014 ، حسب إحصائيات المركز السينمائي المغربي (المؤسسة العمومية الوصية على قطاع السينما بالمغرب) ، ينحصر في 31 قاعة فقط ب « 57 شاشة » متمركزة كلها في عشرة مدن فقط هي : الدارالبيضاء (10 قاعات - 25 شاشة) ، ومراكش (4 قاعات - 12 شاشة) ، وطنجة (4 قاعات - 5 شاشات) ، والرباط (4 قاعات - 4 شاشات) ، ومكناس (3 قاعات - 3 شاشات) ، وفاس (قاعة واحدة - 3 شاشات) ، وتطوان (قاعتان - شاشتان) ، وسلا وأكادير ووجدة (قاعة واحدة لكل مدينة - شاشة واحدة لكل مدينة) . وبهذا نلاحظ أن باقي المدن المغربية انقرضت منها القاعات السينمائية وبالتالي انخفض عدد رواد القاعات من تسعة ملايين ونصف سنة 2003 ، التي كان عدد القاعات فيها 150 ، إلى أقل من المليونيين سنة 2013 . فيما يتعلق بالتظاهرات السينمائية ، ازداد عددها في السنوات الأخيرة في مختلف مناطق المغرب ، وأصبحت بمثابة بديل (بشكل من الأشكال) للقاعات السينمائية المنقرضة ، الشيء الذي جعل المغرب يحتل مرتبة الصدارة ، عربيا وإفريقيا ، على هذا الصعيد ، ودفع بوزارة الإتصال سنة 2013 إلى إحداث لجنة خاصة لدعم تنظيم المهرجانات والتظاهرت السينمائية بغلاف مالي سنوي يقارب 30 مليون درهم ، استفادت منه 54 تظاهرة ومهرجان سنة 2014 مقابل 53 سنة 2013 . الفيلم المغربي ليست له مردودية محترمة ومشجعة عبر شباك التذاكر والقنوات التلفزيونية وأقراص (الدي في دي) لا في الداخل ولا في الخارج، لأن سوقه الداخلية محدودة للغاية رغم الإقبال الظاهر على بعض عناوينه (« الطريق إلى كابول « من إخراج إبراهيم الشكيري نموذجا) ، ولأن الدولة (المنتج الرئيسي له عبر صندوق الدعم أو التسبيق على المداخيل) لم تفكر بعد وبجدية في تسويقه والترويج له خارج البلد . سياستنا السينمائية الحالية سياسة عرجاء ، فكرنا في دعم الإنتاج ولم نفكر في طرق وفضاءات ترويجه داخليا وخارجيا . ما ينقص صراحة هو سياسة سينمائية شمولية تنظر للقطاع السينمائي من جوانبه المختلفة ، من عناوينها تشجيع القطاع الخاص على الإستثمار في بناء المركبات السينمائية وإنتاج الأفلام المختلفة عبر تشريعات قانونية محفزة توفر ضمانات كافية لرؤوس الأموال وإعفاءات ضريبية وغير ذلك ، وإدخال التربية الفنية عموما والثقافة السينمائية خصوصا إلى المؤسسات التعليمية ، من الروض إلى الجامعة، بغية إعداد أجيال الغد المرتقب أن تشكل مستقبلا قاعدة عريضة لرواد القاعات السينمائية والمسارح ودور الثقافة وغيرها ، وتشجيع الجمعيات السينمائية ، ودعم المنشورات السينمائية المختلفة ، وإحداث برامج إذاعية وتلفزيونية متعددة لترويج الثقافة والمعرفة السينمائيتين والتعريف على نطاق واسع بروائع السينما العالمية وبالمنتوجات الوطنية والعربية وغيرها ، وإحداث معاهد للتكوين السينمائي الرصين (افتتح في الموسم الجامعي 2013/2014 المعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما بالرباط ، التابع لوزارة الإتصال ) ، وتفعيل الخزانة السينمائية الموجودة منذ سنة 1997 بالرباط مع إحداث فروع لها بمختلف جهات المملكة ، وتقنين قطاع السينما بشكل جيد يحفظ حقوق كل العاملين فيه على اختلاف تخصصاتهم ، وغير ذلك من الأمور التي جاء ذكرها كتوصيات قديمة / جديدة في « الكتاب الأبيض « حول السينما المغربية . o لنعد إلى المهرجانات والتظاهرات المنظمة بكثافة طيلة السنة في الكثير من المدن المغربية ، وخاصة منها التي تفتقر إلى قاعات سينمائية، ما هو تقييمك لها ؟ وماذا تقترح لتطويرها بحكم ارتباطك (ثقافيا وإعلاميا) بالعديد منها ؟ n أولا ، ألاحظ غيابا شبه مطلق لأي تنسيق بين منظمي المهرجانات والتظاهرات السينمائية ، لا على مستوى تواريخ وفترات التنظيم ، ولا على مستوى التسميات التي تحملها والتيمات التي تشتغل عليها ، ولا على مستوى البرامج والشعارات المرفوعة والشخصيات المختارة للتكريم ومواضيع الندوات والموائد المستديرة والورشات التكوينية ومؤطريها وغير ذلك . ثانيا ، أرى تشابها كبيرا بين مجموعة من التظاهرات في مكونات برامجها ونوعية الأفلام التي تعرضها وطبيعة المستفيدين من أنشطتها، والأدهى من ذلك أن بعض المشرفين عليها لا يمتلكون تصورا واضحا لما يطمحون إلى تحقيقه من أهداف فنية وثقافية وغيرها عبر تنظيم هذه التظاهرات السينمائية التي لا تحمل أحيانا من السينما إلا الإسم . ثالثا ، كثير من هذه التظاهرات لا مردودية ثقافية أو فنية لها ، وإنما هي مناسبات للقاء بين الأصدقاء وأفراد العائلة والاستمتاع بلحظات استجمام بعيدا عن إكراهات العمل وروتينية الحياة اليومية . رابعا ، الإرتجال والفوضى والجهل وغياب الاحترافية في التنظيم ، سمات تشترك فيها مجموعة من التظاهرات بسبب غياب الإنسان المناسب في المكان المناسب . فهل يعقل أن يشرف على تظاهرة سينمائية أشخاص لا علاقة لهم لا بالسينما ولا بثقافتها ؟ خامسا ، التواصل بوسائل العصر التكنولوجية الجديدة ، والإهتمام الجدي بالتوثيق الورقي والرقمي والسمعي البصري للأنشطة عبر إنتاج مطبوعات وأفلام مضبوطة شكلا ومحتوى ، يعتبران من نقائص الكثير من التظاهرات . فهل يعقل ألا تتوفر هذه التظاهرات على مواقع إلكترونية محينة باستمرار ؟ وهل يعقل ألا تصدر ولو كتابا سينمائيا أو عددا واحدا من مجلة في السنة ؟ سادسا ، هناك تظاهرات تجاوز عمرها العشر سنوات بكثير ولايزال منظموها (أو بالأحرى منظمها الأوحد) يرتكبون نفس الأخطاء القاتلة في اختيار الأفلام وتنفيذ البرامج المهلهلة المسطرة على عجل ، ورغم فشلهم الواضح والذريع في التنظيم والتنشيط لم يكتفوا بتظاهرة واحدة بل أصبحوا ينظمون تظاهرات أخرى وكأن تنظيم التظاهرات الرديئة أصبح سجلا تجاريا مربحا . سابعا وأخيرا ، عدم التدقيق في شروط قبول الأفلام المشاركة في المسابقات ، مع الخلط غالبا بين أفلام المحترفين وأفلام الهواة ، خلق جيشا من المتوهمين والمتوهمات أنهم أصبحوا بين ليلة وضحاها « مخرجين سينمائيين « أو « كتاب سيناريو « أو « ممثلين « أو ... ، دون موهبة وتكوين رصين ، وأحيانا دون مشاهدة أفلام المخرجين العالميين الكبار والإطلاع على مختلف أدبيات السينما وثقافتها ، المتوفرة بغزارة ورقيا ورقميا ، الشيء الذي أفرز ظاهرة رواج نفس الأفلام (والأشخاص أيضا) هنا وهناك ، رغم رداءة وسذاجة بعضها ، وحصول بعضها الآخر على العديد من الجوائز من مهرجانات وتظاهرات مختلفة .وبناء على الملاحظات السابقة ، ورغبة في تطوير محتوى وأداء العديد من تظاهراتنا السينمائية المتفاوتة القيمة، أقترح ما يلي : أولا ، ضرورة إعادة النظر في معايير وسياسة دعم تنظيم المهرجانات والتظاهرات السينمائية ببلادنا وقانونها المنظم ، فلا يعقل أن يستحوذ مهرجان مراكش الدولي للفيلم وحده على أربعين في المائة من الحجم الإجمالي للدعم سنتي 2013 و 2014 تباعا ، ويوزع الفتات على باقي التظاهرات (أقل من سبعة في المائة من حجم هذا الدعم وزعت على أربعين تظاهرة سنة 2013) ، فهذا المهرجان الكبير الذي يتصدر قائمة المهرجانات ببلادنا ، والمصنف في فئة (أ) هو والمهرجان الوطني للفيلم بطنجة ، ليس في حاجة إلى هذا الدعم نظرا لموارده المتنوعة والمتعددة . إن ميزانيته السنوية تفوق الحجم الإجمالي للميزانية المخصصة لدعم تنظيم أكثر من خمسين مهرجانا وتظاهرة في السنة . وما قلناه على مهرجان مراكش ينطبق أيضا على مهرجاني طنجة الوطني والمتوسطي ، لأنهما من تنظيم الدولة عبر مؤسسة المركز السينمائي المغربي العمومية ، فتكاليف تنظيمهما ينبغي أن تصرف من ميزانية وزارة الإتصال ومن مداخيل المركز السينمائي المغربي . ولكي يتم تطوير أداء باقي المهرجانات ، من فئتي (ب) و (ج) ، والتظاهرات السينمائية المتوسطة والصغيرة المنظمة في مختلف مناطق المملكة وجعلها فضاءات مناسبة لعرض ومناقشة الأفلام المغربية والأجنبية والتباري أيضا ، ينبغي توفير الدعم المالي والإعلامي واللوجيستيكي الكافي لها ، مع تبسيط مساطير صرفه وتسريعها وتشديد المراقبة على أوجه توظيفه المختلفة . ثانيا ، مطالبة المؤسسات والجمعيات الراغبة في تنظيم تظاهرات تحمل إسم « مهرجان « بتقديم مشروع متكامل يتضمن ، بالإضافة إلى ما هو متعارف عليه في دفتر التحملات أو قرار الدعم ، تبني قاعة سينمائية توجد في حالة إغلاق والعمل على إحيائها وتشغيلها بعد إصلاحها وترميمها ورقمنتها بتوافق مع مالكيها وبتعاون مع السلطات المحلية والمجالس المنتخبة ولجنة دعم رقمنة وإصلاح وإحداث القاعات السينمائية (المعدلة أو المحدثة سنة 2013) وغيرها (قاعتي « هوليود « بسلا و « الريف « بمارتيل نموذجان) ، وذلك حفاظا على إرثنا العمراني الفني وذاكرتنا السينمائية الفرجوية من التلاشي والضياع ، أو تخصيص جزء من الدعم لتوفير فضاءات جديدة أو تجهيز ورقمنة قاعات متوفرة بدور الشباب التابعة لوزارة الشبيبة والرياضة وبدور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة وبالمركبات الثقافية التابعة لبعض المجالس البلدية المنتخبة وغيرها . ثالثا ، الرفع من مبالغ دعم التظاهرات الصغرى والمتوسطة بشروط من بينها الإنفتاح بشكل منتظم على التلاميذ والطلبة من خلال عروض أسبوعية أو شهرية طيلة السنة تتوج بتنظيم ملتقى أو أيام سينمائية ذات خصوصية معينة ، مع إصدار سنوي لمجلة أو كتاب في الثقافة السينمائية وإحداث موقع إلكتروني يضمن تواصلا مستمرا بين التظاهرة والجهة المنظمة لها وبين المستفيدين من أنشطتها . رابعا ، إحداث هيأة وطنية للتنسيق بين مختلف المهرجانات والتظاهرات السينمائية لتجاوز الفوضى والتزامن الحاصل في تواريخ التنظيم ، ولاحترام خصوصية كل تظاهرة أو مهرجان وخلق تناغم وانسجام بين مكونات النسيج الجمعوي السينمائي الوطني . فما يلاحظ على تظاهراتنا السينمائية هو حضورها بكثافة في الشهور من مارس إلى يونيو ومن شتنبر إلى نونبر ، وتراجع هذا الحضور في الصيف (يوليوز وغشت) والشتاء (دجنبر ويناير وفبراير) . وفي هذا الإطار يمكن للجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب (جواسم) ، باعتبارها إطارا جمعويا وطنيا ، أن تضطلع بمهمة التنسيق ، على الأقل بالنسبة للتظاهرات والمهرجانات التي تنظمها أندية وجمعيات منضوية تحت لوائها بكل من سيدي قاسم وسيدي سليمان وإفران وأزرو وكرسيف ومكناس وفاس ومرتيل وطنجة وبرشيد وزرهون ووجدة والدارالبيضاءوالعيون وميدلت والريش وبني ملال والمحمدية والفقيه بن صالح وابن أحمد ... وذلك عبر إصدار مجلة ورقية وأخرى رقمية تحمل إسم « النادي السينمائي « تكون مهمتها إخبارية تنسيقية وثقافية تكوينية من خلال أبواب تعرف بالمهن والإصدارات السينمائية وبأهم الأفلام ومخرجيها داخل الوطن وخارجه وبمختلف التجارب والإتجاهات السينمائية عبر العالم وغير ذلك من الأمور المرتبطة بالسينما والفن السابع . o هناك حاليا جيل جديد من المخرجين الشباب المغاربة ، ماهوانطباعك حول سينما الألفية الثالثة مع ظهور أسماء من قبيل نبيل عيوش ونورالدين لخماري ومحمد عهد بنسودة وحكيم بلعباس وغيرهم .... ؟ o ظهور جيل المخرجين الشباب منذ منتصف عقد التسعينيات بالضبط ضخ دماء جديدة في شرايين الإبداع السينمائي المغربي ، فهؤلاء الشباب الذين ساهموا في الرفع من الكم الفيلموغرافي المنتوج سنويا ببلادنا بفضل سياسة الدعم ، منهم من لم يضف جديدا على المستوى الإبداعي ، وعددهم كبير مع كامل الأسف ، ومنهم من طور أساليب الكتابة السينمائية وانفتح على مواضيع جديدة وأثار بذلك اهتمام النقاد والمهرجانات داخل المغرب وخارجه . وإذا استثنينا شريحة « المخرجين « الذين لا هم لهم سوى الكسب المادي على حساب الآخرين ، يمكن القول أن الكم الفيلموغرافي المغربي المتحقق في السنوات الأخيرة قد بدأ يفرز أسماء إبداعية لها خصوصيتها ، ولها بصمتها التي تميزها عن غيرها . وفي هذا الصدد يمكنني الإشارة إلى الأسماء الشابة الواعدة التي أثبتت حضورها إبداعيا من خلال أفلامها الأولى كنبيل عيوش وحكيم بلعباس ومحمد مفتكر وفوزي بن السعيدي ونور الدين لخماري وهشام العسري وعز العرب العلوي لمحارزي وغيرهم ... لقد برهن هؤلاء المخرجون الشباب على تمكنهم بشكل جيد من اللغة السينمائية ، وعلى جرأتهم في إثارة وتناول بعض القضايا والمواضيع التي ظل مسكوتا عنها إلى عهد قريب . يحضرني هنا إسم نبيل عيوش الذي يبهرنا من عمل لآخر بالمستوى التقني العالي لأفلامه وبتجديد مواضيعها ، فمن فيلم « علي زاوا « وظاهرة الأطفال المشردين في شوارع الدارالبيضاء وعوالمهم وأحلامهم ومعاناتهم ، إلى فيلم « يا خيل لله « حول استقطاب شباب معوزين وغسل أدمغتهم من طرف جماعات دينية متطرفة ، مرورا بفيلم « أرضي « الوثائقي الذي عبر عن شجاعة هذا المخرج في إثارة مسألة الصراع الفلسطيني ? الإسرائيلي . إلى جانب نبيل عيوش يحضر حكيم بلعباس المهووس بتصوير المهمشين والناس البسطاء ، وتوثيق جوانب بدأت تتلاشى من حياتنا وعاداتنا وتقاليدنا وفضاءاتنا بأسلوب يتداخل فيه البعدان الروائي والتسجيلي، ويحضر فيه الإرتجال الفني الخلاق والتلقائية والصدق الإنسانيان ، فالمتتبع لأعمال هذا المخرج (همسات ، خيط الروح ، علاش ألبحر ؟ ، أشلاء، حرفة بوك حيت غلبوك ، شي غادي وشي جاي ، محاولة فاشلة لتعريف الحب ...) يقف على نوع آخر من السينما ، له مرتكزاته وعوالمه وطرق إبداعه الخاصة به . لا يقتصر الأمر هنا على هذين المبدعين فقط ، لأن سينمانا يحق لها أن تفتخر بأعمال وتجارب مخرجين شباب آخرين لا يقلون إبداعية عن نبيل وحكيم ، من بينهم فوزي بن السعيدي (الحافة ، خط الشتا ، ألف شهر ، يا له من عالم جميل ، بيع الموت ... ) وهشام العسري (هم الكلاب ، البحر من ورائكم) ونرجس النجار (العيون الجافة) وعز العرب العلوي (إيزوران، أندرومان ) ونور الدين لخماري (مذكرات قصيرة ، العرض الأخير ، مخالب الليل ، النظرة ، كازا نيكرا ، الزيرو ) ومحمد مفتكر (ظل الموت ، رقصة الجنين ، نشيد الجنازة ، براق ، جوق العميين ...) وياسمين قصاري (عندما يبكي الرجال ، الراكد ...) وغيرهم ... o السينما المغربية رغم هذه الحركية فهي مازالت تقاوم لفرض وجودها في عالم رقمي شرس ، ماهي في رأيكم الآليات القمينة بعودة الجمهورإلى القاعات ؟ n عودة الجمهور إلى قاعات السينما تقتضي تربية المواطن منذ مراحل الطفولة المبكرة على التعاطي الإيجابي مع الصورة وتعويده تدريجيا على الإستهلاك الواعي لمختلف الصور الثابتة والمتحركة وتمكينه عبر المدرسة والثانوية والجامعة والنوادي السينمائية وغيرها من أدوات تحليل وتفكيك مكونات الصورة ليصبح قادرا على استخلاص مضامينها والتمتع بجمالها وإبداء الرأي فيها (شكلا ومضمونا) والإبداع في مجالات إنتاجها المختلفة . o طبعت الفترة التي قضاها نورالدين الصايل على رأس مؤسسة المركز السينمائي المغربي بغزارة نسبية في إنتاج الأفلام ، ما رأيك في هذه الغزارة؟ وكيف تنظرإلى مستقبل المركزالسينمائي المغربي بعد الصايل ؟ n هذه الغزارة الفيلموغرافية النسبية سببها الزيادة في الغلاف المالي المخصص من قبل الدولة للإنتاج السينمائي الوطني ، وهي غزارة لم تفرز مع كامل الأسف كيفا مشرفا على المستوى الإبداعي إذا ما استثنينا بعض العناوين القليلة جدا . المرحلة التاريخية التي أشرف فيها الناقد نور الدين الصايل على إدارة الشأن السينمائي بالبلاد ، من شتنبر 2003 إلى أكتوبر 2014 ، لها إيجابياتها وسلبياتها كما كان الأمر مع الإدارات السابقة . وسيحين الوقت لاحقا لتقييم هذه المرحلة بشكل موضوعي . فيما يتعلق بمستقبل المركز السينمائي المغربي بعد الصايل ، أقول بأنه آن الأوان لإعادة النظر تنظيميا في هذه المؤسسة العمومية الوصية على قطاع السينما ببلادنا وإحداث فروع لها في مختلف جهات المملكة وتمكينها قانونيا من لعب دور أكثر فعالية في نشر الثقافة السينمائية بواسطة الأفلام عبر خلق شبكة من قاعات الفن والتجريب (على شاكلة قاعة الفن السابع الرباطية) ،وتوفير الأفلام المغربية على مختلف الوسائط (الدي في دي نموذجا) في الأسواق ،وإخراج الخزانة السينمائية من سباتها العميق عبر إعداد برامج ثقافية سينمائية وتنفيذها بشراكة مع الجمعيات والمهرجانات السينمائية الوطنية وبعض المؤسسات الثقافية الأجنبية وغيرها (أسابيع للفيلم المغربي ، أسابيع سينمات أجنبية ، استرجاعات لأفلام المخرجين الكبار ... إلخ ...) ،إحداث موقع إلكتروني جد متطور يتضمن أهم المعطيات عن المغرب السينمائي ويعرف بالأفلام المغربية ومبدعيها وبكل العاملين في حقول السينما ، طبع مجلة سينمائية شاملة (في نسختين ورقية وإلكترونية) بمساهمة نقاد وصحافيين وباحثين متخصصين في السينما، خلق مؤسسة وطنية للترويج للمنتوج السينمائي المغربي داخليا وخارجيا .... المهرجانات السينمائية ومسألة التكريم o كيف تنظر إلى مسألة تكريم السينمائيين في المهرجانات والتظاهرات السينمائية ؟ n فقرة التكريم تكاد تكون من الفقرات الثابتة في جل المهرجانات والتظاهرات السينمائية وغيرها ، سواء في حفلي الإفتتاح أو الإختتام أو ما بينهما ، لكن الملاحظ أن معايير اختيار المكرمين وطرق الاحتفاء بهم تختلف من تظاهرة لأخرى . ففي الوقت الذي نجد فيه بعض المنظمين يجتهدون في اختيار المكرمين وفقا لتصورات واضحة ومنسجمة مع طبيعة مهرجاناتهم واختياراتها الفنية والثقافية ويضعون برنامجا خاصا بالمكرمين يتضمن عروضا لنماذج من أفلامهم ولقاء مفتوحا معهم حول تجاربهم الإبداعية ويصدرون منشورات توثق لمسارهم الفني وتساءل بعض جوانبه ، نجد تظاهرات أخرى لا يتوفر منظموها على أي تصور واضح لمسألة التكريم . وهكذا قد يتم اختيار مخرج أو ممثل لتكريمه في مهرجان متخصص في الفيلم القصير ، مثلا ، دون أن تكون له أية مشاركة محترمة في هذا الجنس السينمائي ، كما أن بعض المنظمين يسعون في الغالب إلى جلب أسماء معروفة بشعبيتها في المسرح و التلفزيون لتكريمها في مهرجانات السينما بغية جلب جمهور أكثر لحفلات الإفتتاح / الإختتام وإضفاء نوع من المشروعية « إعلاميا « على تظاهراتهم الباهتة ثقافيا وفنيا . ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الفنانين « أشبعوا « تكريمات هنا وهناك ، في حين ظل آخرون بعيدون عن منصات التكريم رغم أحقيتهم وريادتهم وتاريخهم السينمائي الطويل والعريض . المشكل ليس في المكرمين (بفتح الراء وتشديدها) وإنما في الأشخاص أو الجهات التي تختارهم لاعتبارات غير موضوعية في الغالب . التكريم فعل حضاري يتم من خلاله تكريس ثقافة الاعتراف ، لكن يجب أن تكون معايير اختيار المستحقين له نزيهة ودقيقة وشفافة ، ويجب ألا نكتفي أثناءه بإلقاء شهادات شفوية في حق المكرمين بل من المفيد أن يخلف وراءه أثرا ملموسا على شكل كتاب أو مطبوع أو عمل سمعي بصري توثيقي يذكر الأجيال الحالية والقادمة بعطاءات المستفيدين منه وبمكانتهم في عالم السينما وتاريخها . كما لا ينبغي أن نحصر التكريم في دائرة الممثلين والمخرجين فقط بل لابد من توسيع هذه الدائرة لتشمل باقي التخصصات من تصوير ومونطاج وصوت وسيناريو ونقد وصحافة متخصصة ... إلخ .. لأن العمل السينمائي هو عمل جماعي بالأساس .