مراجعة بنك المغرب لتوقعه الخاص بالنمو في سنة 2016 ، و تصريحه بأنه سيتجه نحو الانخفاض إلى 1 في المائة ( وذلك على إثر تقويم الفرضية المتعلقة بكمية إنتاج الحبوب المنخفضة هذا الموسم ، و استنادا إلى المعطيات المناخية المرتبطة بتقييم الوضع الاقتصادي الفلاحي جملة ) نتج عنه مؤخرا تشنج - وصل صداه إلى الإعلام - مع مجلس الحكومة المخضرمة ، و تلاه رد ومؤاخذات و سجال و مضاربات في بيانات الأرقام ، كان متوقعا أن يحدث آجلا أو عاجلا ، خاصة وأن تقارير السياسة المالية للبنك المركزي تذهب دوما عكس آماني أعضاء و خبراء الحزب الحاكم ... هذا يطرح علينا سؤالا ضمنيا ألا وهو : هل ثمة فعلا انسجام وتوافق في تطبيق السياسة المالية بين مجلس بنك المغرب و قطاعات الحكومة ؟؟ – مما صار مؤكدا الآن، أن السياسة الاقتصادية للدولة المغربية، في نصف العقد الأخير، صارت تخضع لتوجهين، الأول هو السياسة النقدية الذي يتكلف بتحديد خطوطها العريضة- كما هو مسطر في قانونه الداخلي – البنك المركزي في استقلال تام عن السلطة التنفيذية وذلك بتسييل ومراقبة كمية النقود المتداولة في شرايين الاقتصاد، عن طريق تقنيتين : 1- تحديد ، كل مرة، نِسب الفائدة على الأموال الموجهة لتمويل البنوك. 2 -دفع بعض المؤسسات الإدخارية إن اقتضت الظرفية، على تحويل إحتياطياتها الإلزامية لديه كسندات مجمدة، وكل هذا المقصود منه، طبعا، توليد أثر ثانوي على النمو العام، وضمان ومتابعة مستوى الأسعار وإعادتها إلى مستوياتها العادية، لتفادي آفة التضخم. والتوجه الثاني، مرتبط بالسياسة الحكومية وأسلوبها في تطبيق الميزانية السنوية التي من أهدافها: – تحفيز النمو باستخدام رافعة الضرائب، مثلا، مع إعادة برمجة مواردها الجبائية (وهذا يُعرّف بتفعيل الحوافز غير المباشرة) ثم القيام بتنشيط جالدورة الإقتصادية، بتصريف أغلفة النفقات العمومية، وضخّ الإستثمار المالي بما يكفي في قطاعات الدولة الإستراتيحية (وهذا ما يُنعت بالتدخل المباشر). ما كان سيبدو لي إذن منطقيا ومفترضا من هذين التوجهين السياديين، هو أن يعملا معا في تناغم وانسجام؛ أي أن تصير منصة اشتغال كليهما محطة لتمرير الإقتراحات والتعاضد؛ إلا أن مجريات ما وقع في هذه السنوات القليلة، على المستوى الماكرو-إقتصادي (وبالضبط مند إنتهاء الفترة التي عرف فيها البلد وفرة تاريخية في السيولة المالية، بعد نجاح أكبر عملية خوصصة في منطقتنا) يؤكد عكس هذا تماما، ويوحي لي بأن وتيرة السياسة الإقتصادية ببلدنا تسير بسرعتين. كيف؟ هاتان السرعتان غير المنسجمتين لهذين التوجهين، تتجلّيان بشكل مُفارِق حين نفاجأ مثلا مؤخرا ، بقرارات بنك المغرب النقدية، تأتي متسارعة تباعا في ظرف قياسي، وبشكل غير مسبوق (آخرها القرارات المثيرة بتخفيض سعر الفائدة التوجيهي على مراحل، والذي سيليه أخيرا، قرار ترجيح سلة العملات الأجنبية المعتمدة في تحدبد قيمة العملة الوطنية)، كل هذا كتكتيك طارئ في عملية استعجالية لمحاربة الإنكماش الإقتصادي الداخلي، ومحاولة إذكاء المنافسة، لكن الجهة التنفيذية المنتخبة تسير بمهل على الخط العكسي من كل هذه المبادرات الفعلية؛ بمعنى أن الجهات المسؤولة عن برامج الموازنة المالية العامة في الحكومة المنتخبة، قد انتهت من مهمة كبح تدخلاتها في إنعاش القطاعات، وتقاعست عن الإستثمار العمومي أكثر فأكثر، وسحبت دعمها عن كثير من المواد الأساسية، ووفرت ما يكفي من مليارات الدراهم في صناديق الخزينة العامة بذريعة (كما يُملى عليها من طرف مقرضيها الدوليين) أنها مضطرة لمواجهة العجز الكبير في الميزانية. ما ذا يعني هذا؟ يعني أنه في الوقت الذي يتخلص البنك المركزي، بالمرة، من الصّرامة المالية المعهودة عنه في تعاملاته السيادية مع المؤسسات المصرفية الداخلية والخارجية، ويُسرّع نشاطه و يتقدم خطوة إلى الأمام لتحريك الدينامية الإقتصادية ، تتراجع ، بالمقابل ، السلطة التنفيذية المتجسدة في جسم الحكومة، وترتد عدة خطوات إلى الوراء، بتقتيرها لنفقاتها الإستثمارية مع نهج سياسة تقشفية عويصة ، لها مفعول أكيد على الركود الإقتصادي الداخلي العام . و للإضافة فقط ، لكي تتضح جوانب أخرى من خط منحنى هذين الإتجاهين، غير المتحالفين استراتيجيا.. أُقِرُّ أن فاعل السياسي الحكومي المنتخب حاليا، يدرك ، منذ مدة، إنه من الضروري إذا أراد البقاء في القيادة لولاية إنتخابية أخرى، أن عليه عدم التفريط في تحقيق مهمتين: _ الرفع من وتيرة النمو وإنعاش الشغل؛ لأنهما الركيزتان الأساسيتان، لربح فضيلة اتخاذ القرار السياسي مستقبلا، وكسب الشعبية المحلية مع بلورة استراتيجية عامة وشاملة يبقى أثرها على المدى الطويل. وهذا يتحقق بعيدا، عن تقلبات السياسة الإقتصادية الظرفية، وأحيانا بعيدا حتى عن تأرجحات السياسة النقدية التي يتولى تنفيذها بنك المغرب، إن لم يكن بالمرة، بعدم التخطيط والتنسيق معه! وللإشارة هذا الأخير كمؤسسة سيادية مستقلة للدولة وذراعها النقدي، لا تكترث لأجواء الدورات الإنتخابية، ومزايداتها، ولا تنظر دائما بعين الصواب إلى المبادارات المزاحمة لها في إدارة الشؤون النقدية، خاصة إذا أصدرت، أي حكومة، كيفما كان لونها السياسي، قرارات لا تنسجم مع توجهها الرسمي الداخلي المعهود. حتى لوقت قريب، كنت أستشرف داخل سيرورة مجرى السياسة الإقتصادية لهذين التوجهين الماليين البارزين (الحكومي المُوازنتي والبنكي المركزي النقدي) أنه سيقع، ربما تخمينا، نزاع خفي بين الحكومة المخضرمة وأهل الظل من المحافظين الموالين لبنك المغرب، بخصوص مَن له الأولوية والشرعية، في إخراج آليات التحكم في الميكانيزمات المالية العامة وحتى تسطير أهدافها الهيكلية. كانت بوادر ذلك التصادم المحتشم، الذي لم يقع حينها، خمنتها، وأنا أطلع على تقرير خاص بإحدى خرجات والي البنك الإعلامية، وهو يحذر مُتوعدا، من مغبّة سحب الدعم عن العملة الوطنية، وتركها لتقلبات السوق المالية الدولية، ومُعترضا بشدة على من يفكر في هذا الاتجاه. وكان يستهدف بالقصد طبعا، ما تسرّب من كواليس الحكومة الملتحية في بداية تنصيبها، وعما سُمّي بخارطة إنقاذ الاقتصاد الوطني، بعد نهاية ولاية حكومة عباس الفاسي، وما ورد في نقطتها الثانية، الداعية لتحرير قيمة العملة ووضعها في ميزان العرض والطلب، ورفع الدعم المالي عنها خلال عملية التقييم. وهذا اقتراح جريء في ذلك الظرف، وهو معروف ومتداول بكثافة في منتديات دعاة الانفتاح الاقتصادي، من رجال المال والأعمال، الناشطين خصوصا في أروقة بورصة الدارالبيضاء، والمنادين، بإصرار، عن سحب الدولة لذراعها المالي من مجال الإستثمار، والإقتصار فقط على لعب دور المُقَنّن، وتأمين التوازنات بين الفاعلين الإقتصاديين، ومواكبتهم من بعيد، والحد ما يكفي من تدخلاتها العمومية في مزاحمة أنشطة المنافسة الحرة. وبقليل من الحدس، يمكن أن نستشف أن القرار الحكومي الموازناتي، مستقبلا في ما سيأتي من حكامة مرافقة لهيئات منتخبة جديدة، لن يعود مُنسِّقا ومُنسجما مع القرار النقدي الصادر من البنك المركزي، ومن المحتمل أن يلتف حتى على أهدافه البنيوية السامية التي لا يُعلا عليها، والتي من ضمنها مرسوم استقرار الأسعار، المُراقب بشدة من طرف الجهات العليا، لتفادي أي تصدع إجتماعي وأي عودة للإحتجاجات.